|
المنتدى الأدبي ميدان للإبداع خاطرة أدبية أوقصة أو رواية أو تمثيلية معبرة أو مسرحية أو ضروب الشعر وأشكاله |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
قراءة قصيدة الإدريسي في الملتقى
قال الشاعر محمد الفاروق الإدريسي بمناسبة الملتقى السوقي الأول لقبائل كل أسوك في (تين أهما) قصيدة بعنوان: وميض من تين أهماهي:
1 قم وانفض اليأس واعكس موجة الألم ** ولتستعِدْ ذكريـــاتِ البـــــــــان والعلــم 2 فوق الزوابـع رفرف غير مكتــــــــــــرث ** وحطِّـم القيـــد واطـــلع قــنــــة الحــلم 3 واقذف بظلمته الليلَ البهــــيمَ وشــــــم ** وميض برق يضــيء ظلـــمة الدُّهـــــم 4 قم وابتسم لضيـاء الفجر مبتــــهــــــــجا ** وحيِّ في تـــين أهــمّ قــــــــمة القِمم 5 واعزف على وتر الترحيب فــــــــي أدب ** لا تزعج الحــفلَ بالــــترجيع والنــــــغم 6 فالقوم رمز وقـــــــــار لا يحــــــــركـــــهم ** إلا مــــــغازلة الــقرطــــاس للقــــــلـم 7 إنا لمن نـــــــفر أفنـــــــــــى أوائلَــــــــهم ** حبُّ التمســـك بالأخـــــلاق والشـيم 8 فليشهدِ الكـــــــونُ أن الحـــــــق منــهجنا ** وليعـــترف أنــنا من أعــــــظم الأمــم 9 ولتحترم قســــــوةُ الصحراء همـــــــــــــتَنا ** لتعتذر من تعــــــاليــــــها على الهمم 10 ب(تاد مكـــــــــة) من إعجـازنا ســــــــــور** يستلهم العزَّ منــــــها كـلُّ ذي شـمم 1 عشنا بها زمنا فـــــــــي ظل مــملــــــــــكة **تَنْمـــــاكُ أورثها بنــيه في القـــــــدم 12 راجت هنالك سوق الـــعلم وانبــــــــــعثت **أشـعة النور في الصحراء كـــالديــم 13 وحول مكة من إنجــــازنا صـــــــــــــــــــــور **تحـكي انطلاقتَنا من ساحة الحــرم 14 في حقبة كان فيها الغــــرب مرتكــــــــسا **في حمأة الجهل في منأى عن القيم 15 والشرق ملتحـــــــفا فـــي بُردعـــــــــزلته ُ **يبـــــــــدي تقاعسه من شدة الهــرم القراءة تنقسم قصائد الملتقى في نظري إلى قسمين: قسم لا يرتقي إلى (منزلة الشعر)، فهو (عمل أدبي فحسب) وبالتالي فلا يصلح للقراءة، ولا يحقق وجوده الحقيقي، وقصيدتي نموذج لهذا القسم للأسف، وقسم ارتقى إلى (درجة الشعر)، وبالتالي احتوى هذا القسم على (شعر جيد، ورديئ، ومتوسط).، وارتقى من كونه عملا أدبيا، إلى كونه (نصا) يدرس، والنص درجة أعلى من (العمل)، كما أثتبه المعلم رولان بارت في مقالته الشهيرة: {من العمل إلى النص}. والعمل الذي بين أيدينا من هذا القسم، إنه بكل إنصاف ـ نص يستحق القراءة، ولذا أراه يجذبني نحوه، كي أتفاعل معه، واتماهى في عالمه الخاص. وليست هذه القراءة قراءة منضبطة شاملة، بل هي مجرد (تفاعل مع النص) ليس إلا. **** سادت السوقيين حقبة قاتمة من النوم العميق، وجو يستدعي الدموع الغزيرة، ويعمق الجرح في قلوب الحالمين جميعا فضلا عن الشعراء، ويشجع الكسل فيه على (اليأس) حتى استحال الأمر إلى درجة من (الهوان)، تذكرنا بقول المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام فمات (الإحساس) منهم، وفقدوا الشعور ب(بالألم)، في ظرف يقطعون فيه بمقاريض الزمن القاسي. في هذا الوقت الذي ساد فيه المناخ المذكور انتفض الشاعر الذي أيقظته نداءات إخوانه الذين استفاقوا من سبات عميق، وتنادوا لعقد اجتماع في قرية (تناهما) لحل بعض (الأزمات)، التي ترزح في خضمها أمة الشاعر محمد الإدريسي السوقية، فكان ولا بد من صوت الشاعر المنتفض الصاحي الواعي ويقول: {قم وانفض اليأس واعكس موجة الألم}إلخ. وما أجمل توالي هذه الأوامر الثلاثة المتعالية، {قم/ انفض/ اعكس}، يخاطب الشاعر أمته بما تحويه من رموز وشخصيات، ومسئولين بأسلوب الأمر، من شدة شعوره ب(الألم)، وكلها لها دلالاتها السيمائية المشحونة بمقولات ـ التحرر، والانتفاضة، والشعور بالألم ـ وقد استهلها بكلمة (قم)، والقيام عكس (القعود)، وقبيلته تعاني من أزمة القعود أكثر من أي شيء آخر، فمن واجب كل داعية تقدمي واع، أن يتمرد عن القعود قبل كل شيء، ويشدد على عكسه: القيام/ النهوض/ الحركة/ الاستفاقة. إن كل هذه المعاني تستدعيها لفظة (قم) في هذا السياق. فما أروعها.!! لقد كان شاعرنا كأي شاعر تنويري ـ كما قلت ـ (رافضا) لأوضاع مجتمعه المتردية، فهو يدعو إلى نبذ كل ما ترسخ في أذهان قومه، واستولى عليهم، ومن ذلك (اليأس)، فقد بلغ بهم الزمن بلعبته درجة الاستسلام، التي يرفضها الشاعر الحالم، بمستقبل زاهر، ولذا كرر أسلوب ـ الأمر ـ مرة ثانية بدون فاصل، فهو لم يزل في مرتبة الآمر، طالما هو يخاطب (جماعة النوم)، فالنداء الواحد لا يجدي، والشاعر يعرف جيدا هذا {المنوم}، الذي تناولوه بيد الدهر الغليظة، فهم لم يتجرعوه فحسب، بل لبسوه، وغشيهم، ولا يدعو إلى سوى نزعه، ألا وهو (اليأس)، فالدنيا في فلسفة الشاعر كلها مسرح للبشرية، فلا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وهكذا يخلق الشاعر (تناصا) رائعا مع المرجعية الدينية القرآن، وهو مما يصبغ على خطابه لبوسا جليلا، يستلين قلوب المخاطبين المؤمنين. لكن هل هذا ينفي الوضع المرير، ويحسنه،؟؟ كلا، فالشاعر على وعي كبير بوضع أمته البائس، وقد اختزله بانزياح لغوي جميل (موجة الألم)، الألم الذي تعيشه القبيلة بحر متلاطم الأمواج، لكنه بحر مشوه، هو بحر يغرق ويحرق في آن، وقد استخدم استعارة مكنية، حيث شبه الألم بالبحر فحذفه، وأتى بلازم من لوازمه هو (الموجة)، وهنا يكرر الشاعر أسلوب الأمر مرة ثالثة (واعكس موجة الألم). ليلون أسلوب الناصح المومن ، والصابر، غير اليائس، بأسلوب الرومانسي المتألم، ولكنه رومانسي يعكس أمواج الألم، ويتصارع معها، ويصرعها بقوة (الأمل). نقيض (اليأس). بهذه الأوامر الثلاثة يؤسس شاعرنا مبادئ دعوته التنويرية، التجديدية، الثائرة عن الوضع الحالي القاتم، ـ {النهوض/ الأمل لا اليأس/ عكس أمواج الألم}. وما إن نستجيب منتفضين عن القديم المتخلف، حتى يفاجئنا بالشطر الثاني: {ولتستعد ذكريات البان والعلم} وهو شطر ينقض جل ما زرعه فينا الشاعر من (العمل/ الأمل/ الرومانسية/ الانتفاضة)، إنه يأمرنا باستعادة شريط الماضي، المرموز له ب(العلم والبان)، إنه ماض مشرق في نظر الشاعر، وقد يكون إهمالنا له سببا مباشرا لتخلفنا، فلتعد إليه أيها السوقي اليائس المتألم. فعجز البيت يتأوه بأنفاس القديم، ويغشاه غباره، والأول ينعش بحياة الجديد، ويكسوه نضاره، ولذا حاولت إيجاد ـ رابط ـ بين الصدر والعجز فأخفقت للأسف الشديد، إن الشطر الأول منتفض عن الوضع المعيش، والثاني مكرس له، كما أن الأول استطلاع لأفق قادم جميل، والثاني استرجاع لماض قديم، كما أن الصدر رومانسي بامتياز، والعجز كلاسيكي بامتياز، الشطر الأول لأدونيس، والثاني لامرئ القيس. فما أبعد الفجوة بينهما !! وهذا ما أفقد البيت خاصية (الوحدة العضوية، مع الوحدة الموضوعية)،ويا ليت الشاعر مضى في هذا النفس الحي الثائر، الذي استهل به القصيدة، دون أن يدرج هذا الشطر. وهو أكثر من (تتمة البيت). يعود الشاعر ـ بعد هذا القطع الزمني الطويل ـ إلى مقامه الريادي، ليتابع أوامره المشددة على دعوته الإصلاحية الصادقة، فالرائد لا يكذب أهله. {فوق الزوابع رفرف غير مكترث *** وحطم القيد واطلع قنة الحلم} (أيها السوقي بعد نفضك لليأس، وتسلحك بروح الأمل، تحرر من كل قيد، يمنعك من التقدم، وارتق غير مبال بالعقبات فوق الزوابع والمهالك، ولا تضيق حلمك، بل اطلع قنة الحلم)، هذا هو الخطاب التقدمي الحكيم الذي يطلقه شاعرنا بكل جرأة وشجاعة، وبكل ثقة وثبات، إنه خطاب يلخص كل مثل (التقدم)، الذي يحلم به الشاعر، ويقرأه وراء سطور {الملتقى السوقي الأول)، وهذه المقولات {الارتقاء فوق المهاوي/ عدم المبالاة بالعقبات/ تحطيم القيود/ الطموح والشموخ} هي شروط مثالية حقا، والشاعر المخلص لأمته عليه أن يذكرها بها وهي تبحث في ـ أسباب تأخرها ، و عوامل تقدمها ـ. فهي في ليل مدلهم من المشاكل والأزمات، لكن الشاعر المفكر يعي كل الأسباب والحلول، ولذا يقول: {واقذف بظلمته الليل البهيم وشــــم *** وميض برق يضيء ظلمة الدهم} {قم وابتسم لضياء الفجر مبتهــــــجا*** وحي في تين أهما قمـــــــة القمم} {واعزف على وتر الترحيب في أدب*** لا تزعج الحفل بالترجيع والنغم} بهذا التصاعد في نبرة الخطاب، يزدلف الشاعر قليلا قليلا نحو موضوعه (الملتقى)، بالتقنية البلاغية المعروفة (حسن التخلص). إن الوضع المشار إليه قديما وضع يدعو فعلا إلى اليأس، والألم، والحزن، والتجهم، ولكن الحدث التاريخي الذي تحقق في (تين أهما) بارقة أمل حقيقية، تبعث في النفوس الحياة، وتستوجب على الشاعر ـ رغم فلسفته الشاعرية ـ أن يراها وميضا يضيء هذا الليل الكئيب، الذي أرخى سدوله عليه وعليك أيها السوقي. كما تستوجب (الابتهاج والسرور، والتحية الخالصة)، فالملتقى السوقي فجر لليل الطويل البهيم، الذي عاشه السوقي، فجر طلع في قرية سوقية تعرف ب{تين أهما}، فالترحيب به واجب عيني على كل سوقي، لكنه ترحيب يلائم (الحفل) المحترم البهيج، فتغن على وتر الترحيب غناء هادئا، غير مزعج.. إن الأوامر المتعالية لم تزل تتوالى على مخاطب شاعرنا، كأنه لا يرضى لغير أسلوب الأمر حضورا بعد، فالأوامر تزين بداية كل واحد من الشطرين تقريبا: {قم ............................ ولتستعد.............................} {رفرف....................... وحطـم...............................} {واقذف........................ .....................................} {قــــــم .......................... وحـــــي.............................} {واعزف .......................... لا تزعج.............................} بعد هذا يستريح الشاعر، ويريحك من أوامره الكثيرة، التي قد تزعجك، إلى أسلوب خفيف، أسلوب الإيجاب والإثبات، ليثبت بايجاز رائع خلال بيتين هوية قومه أصحاب هذا الحفل، وهواياتهم. {فالقوم رمز وقار لا يحركهم *** إلا مغازلة القرطاس للقلم} إنا لمن نفر أفنى اوائلهم *** حب التمسك بالأخلاق والشيم} فهم من الطراز الوقور، بل هم نموذج الوقار، وقار مستمد من هواياتهم التي لا تعدو أمرين: {العلم/ الأخلاق}، ولذا استغنوا بالقلم والقرطاس عن جميع المثيرات والمهيجات، وقد أبادتهم أخلاقهم المليئة بالعفو، والحلم، والدماثة، والإيثار، والإخلاص، والشجاعة. فالبيت الأخير كله مأخوذ من قول الشاعر: إنا لمن معشر أفنى أوائلهم *** قيل الكماة ألا أين المحامون وأجمل تعبير عن هذا المعنى قول المتنبي: وإني لمن قوم كأن نفوسهم *** بها أنف أن تسكن اللحم والدما ولا يخفى جمال هذه الاستعارة (مغازلة القرطاس للقلم)، حيث شبه كتابة القلم على القرطاس، وما تحمله من (الصرير، والملاقاة، وشبه النجوى في الأذن) بمغازلة العاشق للمعشوقة. مع أنها تفوق عليها الصورة التي تخيلها الشاعر محمد يوسف السوقي للقلم والقرطاس، رغم أن هذه تذكر بنجوى العاشقين، وهدوءهما، وتلك ترقص في محفل الأباخس، حيث أعطى محمد لكل منهما صفة إنسانية جميلة، (إحورار القراطيس/ رقص الأقلام): أما واحورار البيض بيض القراطس*** ورقص عوالي الخط بين الأباخس يعود الشاعر إلى مقامه الاول مقام (الآمر)، لكن في هذه المرة المأمور أشد خطورة، والشاعر المشحون جرأة، وافتخارا بقومه، وتفاؤلا بنتاج هذا الحدث العظيم يصدر أوامره هذه المرة إلى (الكون، والصحراء): {فليشهد الكون أن الحق منهجنا *** وليعترف أننا من أعظم الأمم} {ولتحترم قسوة الصحراء همتنا*** ولتعتذر من تعاليها على الهمم} فها هو من تفاقم الفخر، وتضخم ـ الأنا ـ يجبر (الكون) على تقديم {شهادة الاعتراف} بمكانة قومه العالية بين الأمم، كما تحمل توقيعه على كون الحق منهجهم الوحيد. وهذه الشهادة العجيبة وحدها لا تقنع الشاعر، بل يصدر أمرين آخرين في نفس الوقت نحو (الصحراء) مجبرا لها على (احترام قسوتها لهمة قومه)، ومن ثم تقديم (الاعتذار من تعاليها عليهم). والبيتان لا يحملان أية مسحة فنية غير هذا التحدي، وهذا الخطاب الصارخ في وجه الكون والصحراء. وتأتي بقية القصيدة تبرهن على أحقية (أمة الشاعر) بشهادة الكون، وتقدير الصحراء، حيث يستعرض الشاعر ـ إنجازاتهم ـ في ـ تاد مكة ـ كما لا يفوته التنويه بتاريخ مشرق، كاد أن ينسى، هو كونهم من الحجاز. {بتاد مكة من إعجـــــــــازنا سور *** يستلهم العز منـــها كل ذي شمم} {عشنا بها زمنا في ظل ممــــــلكة *** تنماك أورثها بنيه في القــــــدم} {راجت هنالك سوق العلم وانبعثت *** أشعة النور في الصحراء كالديم} {وحول مكة من إنجـــــازنا صور *** تحكي انطلاقتنا من ساحة الحرم} بالتناص مع الحقل القرآني يختصر لنا الشاعر المجد المؤثل الذي شيدوه في مدينة (تادمكة) الشهيرة، باستعارة كلمة (إعجاز) وترشيحها بكلمة (السور)، إن إعجازهم بلغ حد السور التي يزخر بكل معاني العز، وآيات المجد، وهو مجد عاشوا في بلهنيته فترة من الزمن، وهم من رعايا مملكة (تنماك) الذي أورثها بنيه، وهم طبعا من أحفاده. وفي البيت الثاني يوفق الشاعر إلى (تورية) عفوية جميلة، يصور بها الازدهار العلمي الذي عرفته مدينتهم (تادمكة)، بكلمة (السوق)، مع استعارة السوق للعلم، وبهذا زخرف الشطر بأكثر من شية بلاغية، (راج سوق العلم ....) والمعنى الظاهر جميل، كما أن التلميح إلى اسم المدينة التي ينتسب إليها قومه، والذي آل إليه علم (تادمكة) هو (السوق) له مكانته في الجمال الفني هنا. إلا أن الشطر الثاني يشوبه شيء من القتامة، والضبابية، وقد اختلطت ألوان التمثيل في يد رسامنا الماهر، وجمع بين (النور، الانبعاث/ الديم/ الصحراء) ومعلوم أن هذه ألوان استحضرها الشاعر لرسم صورة جميلة ، يشع منها شعاع نور العلم، وتبهرك بخضرته التي استخلفتها الديم، وهي صورة تحققت في الصحراء بسبب ازدهار دولة السوقيين {تادمكة}. بيد أن عملية التركيب لم تأت كما يرام، حيث استعصى علي فهم ورود (الديم) بعد (الصحراء). هل المقصود تشبيه الصحراء بالديم، وذلك تشبيه بعيد، أم تشبيه الديم بانبعاث أشعة النور، وهو غامض أيضا. وعلى الأقل: ليس جميلا. وفي البيت الأخير لخص تاريخ السوقيين القديم، وأكد أصالتهم العربية، بل الحجازية، إنهم من مكة المكرمة، وهناك تركوا صورا باهرة من إنجازهم، ما زالت تروي بطولاتهم، وانطلاقتهم نحو الدعوة إلى إفريقيا، رافعين راية الإسلام. والأبيات الثلاثة محاولة لاختصار مقتضب لفترتين تاريخيتين مشرقتين عاشتهما قبيلة الشاعر، فترة قضتها في (مكة) المكرمة، وفترة عاشتها في (تادمكة)، ولذا أستغرب لما ذا قدم الشاعر الفترة المتأخرة على المتقدمة، ولم لم يعمل العكس ليخدم على الأقل ـ التسلسل التاريخي لقومه، كما يساعده ذلك أكثر على خلق الجناس الناقص، والترصيع، بين البيتين إذا رتبهما هكذا: {وحول مكة من إنجازنا صور ** .............} {بتاد مكة من إعجازنا سـور ** .................} ولا يخفى ما ينتج هذا الترتيب من تقابل جميل بين : (مكة / تادمكة/ و إنجازنا/ إعجازنا/ وصور/سور). خصوصا إذا استبدل (الواو) ب(الفاء)، وقال: {فحول مكة...} ليربط بها بين هذا البيت وبين البيت السابق. {في حقبة كان فيها الغرب مرتكسا *** في حمأة الجهل في منأى عن القيم} {والشرق ملتحفا في بـــــرد عـزلته *** يبدي تقاعـــــسه من شدة الهـــرم} لا يملك الشاعر في النهاية، سوى الهجوم المباشر على (العالم)، فهو إما شرق وإما غرب، ولم يسلم منه لا الغرب الذي وسمه بالجهل، وعدم القيم، ولا الشرق الذي كان ملتحفا ببردة العزلة، في هرمه الشديد. ولكن (مدينة السوق) مستنيرة، منفتحة عن العالم، متخلقة، وليست متخلفة، وكأنها عالم خاص. وهذه المبالغة في الثناء على مدينة الشاعر لا تبرر التدخل في الحقائق التاريخية، فمن أثبت أن فترة ازدهار تادمكة هي فترة العصور المظلمة في الغرب، وربما هي الحقبة التي يشير إليها الشاعر،هذا إذا كان يقصد بالمدح هنا مدينة (السوق)، فعصر (تاد مكة) هو عصر انبعاث الغرب، وبدايات التنوير فيه ربما.، وإن كان يقصد الإشارة إلى تلك الفترة التي أمضوها في مكة (وحول مكة من إنجازنا ...) فلا معنى هنا لوصف الشرق بالانعزال والهرم، بل هذه الفترة هي حقبة ازدهار الشرق وانفتاحه على العالم، بل خروج قومه في هذه الحقبة من دلائل انفتاح الشرق، وعدم عزلته، وقوة شبابه.!! لذلك فالبيتان الأخيران لم يحركا شعرة في رأسي. ولا يحملان سوى هذا الزعم التاريخي، الذي يحتاج إلى تحقيق وبرهنة. رسالة الشعر: بعد الوقفات الأولى التي تأتي كمقدمة للموضوع الرئيسي لم يزد الشاعر على مدح قبيلته، وهو الرائد المسئول، وهو المفكر المتوقع منه أن يوجه، أو على الأقل: أن يعمق الحزن منا، لكي نبكي معه الوضع في شعر رومانسي جميل، وهو ما يشير إليه الشطر الأول الذي أعتبره أنا أجمل شيء في القصيدة. ولذلك تمنيت أن لو أطال الشاعر النفس في ذلك المجال الشعري الأصيل. لكنه لم يفعل تحت تأثير التقليد ربما، ولكي يخاطب قومه بما تعودوه من الأساليب، فهم لم يتعودوا من الشعراء توجيها، ولا نقدا اجتماعيا، ولا حتى الشعر الصوفي الجميل، الذي لم يبلغ الرومانسيون الغربيون شأوه بعد. إن الوقفات الأولى/ ـ وهي أهم مقطع عندي ـ تبدو هامشية، وشبه وسيلة استخدمها الشاعر للتوصل إلى (مدح قومه) الموضوع المركزي. وهو ما يعجب القارئ الضمني لدى الشاعر الذي يتمثل في السوقيين، وربما لهذا جاملهم بذكر (البان والعلم). فالقصيدة الخالية من تلك المعاني لا تحركهم. ولذا لم تتضح رسالة الشاعر، التي يريد إيصالها، فبقيت قصيدته كقطرة من سحائب القصائد التي مدح بها السوقيون أنفسه، وهذا من أكبر أزمات الشعراء السوقيين، {عدم وضوح الرؤية الشعرية}. ـ باعتقادي ـ وليس من بينهم من اتخذ لنفسه مذهبا شعريا واحدا يقول فيه، ويكرره، ويقلب الصور فيه. لمحة أسلوبية بعد هذه القراءة السريعة فيما وراء السطور من المعاني يجدر بنا الوقوف بسرعة على أساليب ـ النص ـ وأول أسلوب يلفت الأنظار هو (أٍسلوب الأمر) فقد بلغت (أوامر الشاعر) (18) أمرا، وهو عدد يفوق عدد الأبيات في هذا النص فهو متكون من (15) بيتا. بعضها جاء بصيغة الأمر الحقيقي، وهذا النوع يبلغ: (13)، مثل (قم/ انفض/ اعكس/ حي/ ابتسم..إلخ )، والآخر بصيغة المضارع المقرون بلام الأمر، وعدده (5)، مثل: (ولتستعد/ وليشهد/ ولتحترم ...إلخ)، مما يعني أن لكل بيت أمرا، فهو مما ينقل القصيدة من مقام (الشاعرية التأملية الوجدانية) إلى مقام (الخطابة الجماعية، والحوارية) غير أنها حوارية تمارس سلطة الآمر الناهي، المتسلط، لم لا، والشاعر كما قلت: واقف عند منبره الذي يخاطب عليه أمته الضائعة، النائمة، على كنوز ماضيها المشرق، المتآكل، المحتاج إلى إحياء وتجديد، ولا يرى أسلوبا نافعا سوى (الأمر) ليطغى على حساب بقية الأساليب، التي تأتي حصتها ضئيلة مقارنة معه. والجمل الفعلية تبلغ (10)، بينما لا تتجاوز الاسمية (4)، وأسلوب النهي يرد مرة واحدة (لا تزعج). وهذه مفارقة كبيرة تلفت أنظار كل قارئ، وبغض النظر عما يقال من أن كثرة مثل هذه الأساليب تنقص الشعرية في النص يمكن أن أقرأها قراءة أخرى، فهذه المفارقة تعني أن { الثابت المترسخ } في أذهاننا يأتي قليل الأهمية في نظر الشاعر، ويجب تجاوزه، وهو الذي يعبر عنه ب(الجمل الاسمية) المفيدة للثبوت والاستقرار، فالشاعر يرمي إلى التجديد، والتغيير، وزعزعة الثوابت السلبية، وذلك لا يعبر عنه أسلوب كما يعبر عنه أسلوب (الجمل الفعلية) الدالة على التجدد والتغير. وبهذا يمكن أن نتجاوز هذه المسافة الكبيرة بين الجمل الاسمية، وبين الفعلية، فالفعلية عموما (الأمر/ النهي/ الفعل الماضي/ المضارع) تبلغ (29)، وهو عدد هائل بالمقارنة مع الاسمية (4) أو (5). فالشاعر المتمكن يبرز مكانته في قدرة التنقل بين الأساليب، دون أن يطغى أسلوب على آخر، وإن كان ولا بد من التفاوت فليكن الاهتمام بالاستعارات والتشبيهات، والانزياح، والصور العامة، وذلك سر من أسرار جمالية (الالتفات)، فالقارئ يبقى لعبة في يد المبدع. أما الصور البلاغية فلا تتجاوز تقريبا (11) كلمة من بين كلمات النص التي تتجاوز (60) كلمة، بالإضافة إلى (التصريع) في البيت الأول، و(لزوم ما لا يلزم) بين (الألم/ العلم). والكلمات البلاغية مثل: (موجة الألم/ قنة الحلم/ وتر الترحيب/ مغازلة القرطاس للقلم/ من إعجازنا سور/ من إنجازنا صور/ سوق العلم/ كالديم/ تحكي/ ملتحفا في برد.. من شدة الهرم) . ومن المعلوم أن الكلام الشعري لا بد فيه من طغيان الصور البلاغية على العادية. كما لا بد من التنقل بين الأساليب، أما أن يطغى أسلوب واحد كأسلوب الأمر، فلا أحد من النقاد يقبله إلا في (الخطب) التي تلقى على المنابر. فمثلا: لو حول الأسلوب من (الإنشاء) إلى (الخبر)، في مقطع (الكون، والصحراء)، واستطاع أن ينظم المعنى على الصيغة التالية: { إن الكون لشاهد على أن الحق منهجنا، وقد اعترف قدما أننا من أعظم الأمم} {كما أننا أرغمنا قسوة الصحراء، وأزللناها حتى احترمتنا، وصارت تعتذر من تعاليها على الهمم} لكان أجمل ، ولجعل الكون والصحراء يمتثلان في الواقع ما يطلب منهما، ف(الآمر) يطلب شيئا لم يقع بعد، بينما (المخبر) يتحدث عن أمور وقعت، فأي الأسلوبين أجدى وأجدر في مقام المدح يا ترى؟؟ وعلى كل فإن القصيدة كما رأينا من روائع قصائد الملتقى، إن لم تكن رائعة الملتقى الوحيدة، وصاحبها يطيق إبداعا يفوق هذا الذي شاهدناه، ولو شاء لأصبح فحلا من فحول الشعر الحديث، ولكن يبدو أنه لا يريد لنفسه أصلا (وظيفة الشاعر)، ولذلك لا يعاهد قول الشعر، ليتدرب عليه أكثر. فلا عجب من أن لا تكون لديه (رسالة شعرية واضحة) يسعى لتوصيلها. فالشعر كأية حرفة فنية، لكي تتقنه، وتوظفه في مشروعك لا بد من الانقطاع له وحده، والاقتصار على عالمه الخاص بحفظ الأشعار، وتتبع الصور، ومتابعة كل جديد فيه، ومحاولات متكررة لنحت أجمل معنى، واختيار أرقى لفظ روي في اللغة، ونحو ذلك، مما قاله أبو هلال العسكري في {كتاب الصناعتين}.
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|