العودة   منتديات مدينة السوق > قسم اللغة والدروس العلمية > منتدى المكتبات والدروس

منتدى المكتبات والدروس أغنى المكتبات على النت ,وجديد دور النشر وتعريف ببعض الكتب , ودروس في علوم الآلة

Untitled Document
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 09-28-2010, 11:12 AM
عبادي السوقي غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 96
 تاريخ التسجيل : Jun 2009
 فترة الأقامة : 5653 يوم
 أخر زيارة : 11-13-2024 (08:04 PM)
 المشاركات : 389 [ + ]
 التقييم : 10
 معدل التقييم : عبادي السوقي is on a distinguished road
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي العلم والتعلم في القرن الثالث عشر لدى السوقيين



هذا نقل عن مقالة الدكتور عبدالعلي الودغيري ناقلا عن كتاب الجوهر الثمين للعلامة العاتيق بن سعد الدين الأدريسي السوق كيفية التعليم والتعلم لدى المدارس السوقية فيما مضى وأترككم مع نص الإقتباس
"هذا النصُّ هو عبارة عن فصل صغير (من ص: 128 إلى ص: 139) من كتاب: "الجوهر الثمين في أخبار صحراء المُلَثَّمين ومَن يُجاورُهم منَ السّوادين"، ومؤلفه أحدُ علماء دولة مالي المعاصرين من مدينة جاو الشهيرة في التاريخ، وهو الشيخ محمد العَتيق بن الشيخ سعد الدين السُّوقي الدغوغي، ينتسبُ إلى أسرة أصلُها من منطقة دغُوغة المغربية، وترفَعُ نسبَها إلى الأدارسة ثم إلى الحسن بن علي بن أبي طالب. هاجر أحدُ أجداد هذه الأسرة إلى إفريقيا الغربية، وأقام في منطقة تسمى بالعربية: (أهل السُّوق) وبالطارقية (كل السوق) منذ القرن التاسع الهجري، وتناسلت فيها ذريَّتُه، وهي من المناطق التابعة حالياً لدولة مالي، وسُكانها من الأفارقة السُّود والعرب والطوارق الذين هم خليطٌ من البربر والعرب المُتبَربِرين. ثم حين اندلعت حربٌ طائفية في مالي على إثر إنشاء (جبهة تحرير أزواد) في الثمانينيات من القرن الماضي، هاجر المؤلفُ مع عدد من أهله وعشيرته من السُّوقيين إلى النيجر، وأقاموا هناك، وفيها ألَّف كتابه هذا الذي يسرد فيه قصة دخول الإسلام إلى المنطقة ويؤرخ لرجالها وعلمائها من العرب والطوارق والسَّوادين، ويتوقَّف طويلاً عند فروع السُّوقيِّين وأُسرهم الكثيرة، وعن عاداتهم وتقاليدهم وما كان فيهم من العلم والعلماء، ويتحدث باستفاضة عن أُسرته الدغوغية الإدريسية المغربية وفروعها، ويترجم لكثير من أعلامها ولأعلام كثيرين غيرهم من أهل السودان الغربي. ولذلك يُعتبرُ هذا الكتابُ من المصادر القيِّمة التي أرَّخت لتاريخ الإسلام والمسلمين في غرب إفريقيا، وتحدثت عن دولهم وممالكهم وثقافتهم وألَمَّت بسائر عاداتهم وأحوالهم منذ دخول الإسلام إلى نهاية القرن العشرين. والكتابُ مخطوطٌ في أكثر من ستِّ مئة صفحة من القَطع الكبير، فرغَ مؤلفُه من كتابته سنة 1420 ﻫ/ 1999 م، وكان الواسطةَ بيني وبين مؤلفه - أدامَ اللهُ عافيَتَه - في الحصول على نسخة مصوَّرةٌ خاصة منه، عالِمٌ آخر من أصدقائه وبني عمومته كان يُقيم بالنيجر أيضاً، ويزورني في مكتبي كثيراً، وهو الشيخ محمد الحاج بن محمد بن أحمد بن أحمد الحسَني الأدرُعي([57]) المغربي الأصل الذي وافاه أجلُه رحمه الله قبل بضع سنواتٍ خلَت.
أما الفصل الذي اخترناه من هذا الكتاب الذي نستأذنُ صاحبَه في وضعه بين يد القراء، فما يهمُّنا فيه هو ما تضمَّنه من معلومات وافية ومستفيضة عن طُرُق التعليم ومناهج التدريس التي كانت سائدةً في المنطقة طيلةَ قرونٍ سابقة إلى عصر المؤلف، وأسماء الكتب المغربية أو المستعملة قديماً في التعليم المغربي التي انتقَلَ استعمالُها وتأثيرُها إلى السودان الغربي، وعلى المكانة العالية التي حظيت بها الثقافةُ الإسلامية واللغةُ العربية في تلك الرُّبُوع.


«الفصل الرابع في كيفية إِقراء السُّوقِيّين وتعليمهم بحسَب ما رأيتُه في حَيِّنا وما سمعتُه عن أسلافنا، وذكرُ العلوم التي يتعلَّمونَها»

إذا بلَغَ الصَّبيُّ منهُم خمسَ سنينَ وخَمسةَ أشهُرٍ، كتبُوا له حُرُوفَ الهجاءِ حتى يُتقِنَها، ثم يأخذون في إِقرائِهِ القُرآنَ برواية وَرشٍ عن نافِعٍ. يكتبُون له الفاتحةَ، ثمَّ المُعَوِّذَتين، ثم الإخلاصَ، ثم قِصارَ المُفَصَّلِ، ثم طِوالَهُ، إلى أن يَتَمَرَّنَ على قراءة كلِّ ما يُكتَبُ له، ثم ما بَقِيَ منَ المُنَزَّلِ. يَكتُبُ الشَّيخُ للتِّلميذِ أَسطُراً أو سُطُوراً إلى ثُمُنِ الحِزبِ أو رُبُعه أو أكثرَ، فَيُكَرِّرُهُ التِّلميذُ حتى يَحفَظَه ويقرأَهُ خَلفَ ظَهره، ثم يَكتُبُ لهُ، وهكذا. فمنهُم مَن يَتِمُّه مُتقِناً حِفظَهُ في المُصحَفِ، ومنهم مَن يَختِمُهُ غيرَ مُتقِنٍ للحِفظِ ثم يَحفَظُه بعدَ الكِبَر. ومنهُم مَن يَختِمُهُ في عامَين أو أكثَرَ. وقليلٌ منهم يَختِمُه في عامٍ. وقد أَدركتُ شَيخاً من أَعمامي من أهل تَبُرَقْ اسمُهُ سايْ بنُ القاسِمِ سَمعتُ أَنَهُ خَتَمَ القُرآنَ و"رسالةَ" بن أَبي زَيدٍ في عامٍ واحدٍ، وقرأَ "الآجَرُّوميةَ" و"مُلحةَ" الحَريريِّ و"أَلفيةَ" ابنِ مالِكٍ في العام الثاني. ولم أَسمَع مثلَ ذلكَ لغيره. ومنهم من يَمكُثُ على قراءته أَعواماً ولا يَتَيَسَّرُ له حِفظُهُ. فإذا أَيِسَ شَيخُهُ أو وَلِيُّهُ من استظهارِهِ لهُ، أَعرَضَ عن إقرائِهِ إِيّاهُ، وشرَعَ في تعليمه فرضَ عَينه كيلا يبلغَ جاهلاً به فإذا فرَغَ الصَّبيُّ من قراءة القُرآن، سواءً كان فراغُه بحفظه أو بعَجزه عن الحِفظ، انتقَلَ إلى "رسالة" ابنِ أَبي زَيدٍ القَيرَوانِيِّ، فيكتُبُ الشيخُ للتِّلميذِ ما يَقدرُ على حِفظه، وحِفظِ تَرجمته باللُّغة التّارِقيَّة. فإذا حَفِظَ دَرسَهُ جعَلَ الشيخُ يُتَرجِمُ له الدَّرسَ كلمةً كلِمةً حتى يُتقِنَ حِفظَهُ وفَهمَهُ. فلا يَزالُ يتَرَقَّى ويتَدَرَّجُ في فهم كَيفيَّة التَّرجمة، فمنهم من يَجمعُ بينَ تَفَهُّم ما يُمليه عليه الشَّيخُ من المسائلِ الفِقهيَّة وبينَ فهم اللغة العربية، بحيثُ يعرِفُ ترجمةَ كُلِّ كلمةٍ عربيةٍ منَ الكتاب الذي يقرَؤُهُ بمِثلها في اللغة التّارِقيَّة. ثمَّ منهُم مَن يَختِمُ رسالةَ ابن أَبي زَيدٍ ثم يأخُذُ في علم النَّحوِ، ومنهم مَن لا يَختِمُها.
وأما علمُ النَّحوِ فهُوَ المَقصودُ الأَهَمُّ عندَهُم، حتى صارَ عندَ بَعضِهِم مِعياراً على العُلُومِ، مَن أَحسَنَهُ جعلَه وسيلةً إلى غيره من العُلُوم حتى يُتقِنَها، ومَن لم يُحسِنهُ تَرَكَ التَّعَلُّمَ رأساً لاستِحيائِهِ مِنَ اللَّحن في الكلام الذي يُوجِبُهُ الجَهلَ بالقواعِدِ النَّحوية. واللَّحنُ في القراءة عندَهُم من أَقبَح القَبائِح. وسِيرَتُهم كما قال القائل:

النَّحوُ زَينٌ للفَتَى *** يُكرِمُهُ حيثُ أَتَى

مَن لم يَكُن يُحسِنُهُ *** فَحقُّه أن يَسكُتَا
وكما قال ابنُ مالِكٍ في أَولِ "كافيَّته"
وبعدُ فالنَّحوُ صَلاحُ الأَلسِنة ...
إلى آخِرِ البَيتَين. وكيفيةُ تَعلُّمه عندَهُم أن يقرأَ الصَّبِيَّ مُقدِّمةَ ابنِ آجَرُّومَ أَولاً قراءةَ تَفَهُّمٍ وتحقيقٍ إذا شَرَعَ في حَدِّ الكلام لَقَّنَهُ الشيخُ ما يُجيبُ به المُمتَحِنَ في دَرسِهِ، بأن يَسألَهُ عنِ التَّركيبِ أَهُوَ كلامٌ في اصطلاح النُّحاةِ أَم لا؟ فلا يَزالُ يُدَرِّبُه ويُمَرِّنُه على ذلك حتى يُحَقِّقَ الفَرقَ بينَ ما هو كلامٌ وما ليسَ بِكلامٍ. ثم يَنقُلُه إلى تحقيق الفَرقِ بينَ الاسمِ والفِعلِ والحَرفِ بعدَ معرِفةِ علاماتِ كُلٍّ منها حتى يُحَقِّقَ الفَرقَ بينَهُما أَيضاً. ثم يَنقُلُه إلى باب الإِعرابِ. فكُلَّما وقَفَ على مِثالٍ أَعرَبَهُ لهُ كلمةً كَلمةً. ثم يَفعَلُ بهِ كذلكَ في سائرِ الأَبوابِ حتى يُتِمَّ الكتابَ. فمنهُم مَن يَفهَمُ كَيفِيَّةَ إعرابِ التَّراكيبِ قبلَ خَتمِ المُقدِّمة، ومنهم مَن لا يَفهَمُ إلا أَقَلَّ قَليلٍ. ثم منهم من يَقرأُ "مُلحةَ الإعرابِ" للحَريريِّ ومنهم مَن يَقرأُ "قَطرَ النَّدَى" لابن هِشامٍ، ثم يقرأُ "أَلفيةَ" ابنِ مالِكٍ و"لاميَّةَ الأَفعالِ" لَهُ. وهذا هو القَدرُ الذي لا يَكتَفُون بِدُونِهِ. وهو المَرتَبَةُ الدُّنيا عندَهُم التي مَن قَصَّرَ عنها لا يتكلَّمُ في المجلِسِ، ولا يُؤخَذُ عنهُ منَ العِلمِ إلا تحفيظُ القُرآنِ. وأما العُلُومُ الشَّرعيةُ فلا يَجتَرِئُ على التَّكَلُّمِ بها سَواءً كان لهُ حَظٌّ منها أَم لا. ثمَّ مِنهُم مَن يَزيدُ على هذا قراءةَ "كافِيَّةِ" ابنِ مالِكٍ وشَرحِها، ومِنهُم من يَزيدُ عليه بقراءة "الفَريدة" للسَّيُوطيِّ. ومنهم مَن يَزيدُ عليه "مَنهَجَ السّالِكِ" للأَشمُونِيِّ، ومن يقرأُ "الشّافِيَّةَ" في الصَّرف. ومنهم مَن يُضيفُ إلى هذا "قواعِدَ الإعرابِ" ومعرفَةَ أَحكامِ الجُمَلِ. فَمن حَصَّلَ هذا القَدرَ نَجَحَ في علم النَّحو واستَقَلَّ عنِ المَشايِخِ والمُدَرِّسينَ وصارَ منَ الأساتذةِ فيهِ. وهذه الَمرتَبةُ هيَ الوُسطَى التي مَن نالَها انتصَبَ لتَدريسِ التلاميذِ مع اعترافِه بقُصُوره عن مَقامِ أَهل المرتبة الثالثة.
ثم منهم مَن إذا وصلَ إلى هذه الغايةِ اكتفَى بها وانتقَلَ إلى العُلُوم الأُخَر. ومنهم مَن يتوَسَّعُ في المُطَوَّلاتِ والحَواشي، فَيَشغَلُ كثيراً من أوقاته بالعُكُوفِ على مُطالعة الفَنِّ. ثم ينتقِلُ بعدَ سِنينَ إلى غيره منَ العُلوم مع عَدَمِ نِسيانهِ لما حَفَظَ من كُتُبٍ ومُعاَودةٍ لِمُطالعةِ ما لم يَحفظه منَ المُطَوَّلات حتى يبلُغَ فيه مرتبةَ المُؤلِّفين، ويَدرُسَ فيه ويُديمَ المُذاكرة فيه والبَحثَ مع قراءة غيرِه من الفُنُون. وأَهلُ هذا المقامِ همُ الذين تُلقي إليهمُ الفُنُونُ بالأَزِمَّة، فيُحَصِّلُونها في أَسرعِ مُدّةٍ، ثم يتوسَّعُون فيها إلى أَن يَصيروا مُشاركينَ في سائرِ الفُنون ويَحُوزونَ السَّبقَ على الأَقرانِ، وتنتهي إليهمُ الرِّياسةُ العلميةُ بعد الكُهُولة. وهذه أَعلَى المراتِبِ .
ثم ينتقِلُ التِّلميذُ بعدَ الفَراغِ من علم النَّحو إلى معرفة اللُّغةِ العربية بطريق معرفةِ مُفرداتها ومعرفةِ تَراكيبِ أَهلِها ومَقاصِدِهِم. منهم مَن يدرُسُ "مَقاماتِ" الحَريريِّ، ومنهمُ مَن يدرُسُ مُختارَ الشِّعر الجاهِليِّ، ومنهم مَن يَجمَعُ بينَهُما. ثم يشتغِلُ التِّلميذُ بمُطالعةِ ما في يَدهِ مِن مَعاجِم اللُّغة مثلِ "القامُوسِ" والجَوهَريِّ وغيرِهما.
وأما علمُ المَنطِقُ، فإذا حَصَّلَ التِّلميذُ ما قُدِّرَ له من النَّحو واللُّغة، على اختلاف مَراتِبِ التلاميذِ وتفاوُتها، انتقَلَ إلى علمِ المَنطِقِ، فيُقرِئُهُ الشيخُ "السُّلَّمَ المُرَونَقَ" للأخضَريِّ. فإذا أَحَسَّ بمَلَكةِ الفَنِّ مِن نَفسه استَقَلَّ عن المشايخِ. فمنهُم مَن يكتفي بالسُّلَّم وشُروحِه ومنهم من يتَوَسَّعُ في غيرها من عُلوم الفَنِّ.
وأما علمُ الفِقه، فبعدَ تحقيقِ الفُنون الثلاثة يختلِفُ أَمرُ التَّلاميذ فيه: منهُم مَن يشرَعُ في علم الفقه المالِكيِّ فيَستغرِقُ فيه ما بَقِيَ من عُمرهِ إلا قَدرَ ما يسمَعُ تفسيرَ القُرآن العَزيزِ أو ما يسمَعُ من الأحاديثِ "صحيحَ" البُخاريِّ ونَحوه. والغالبُ على مثل هذا أنه إذا وصَلَ إلى حَدِّ الشَّيخُوخة أَقبَلَ على التَّصَوُّفِ والعَمَلِ بما عَلِمَ. وربَّما أَعرَضَ عَمّا كان يَتَعاطاهُ قبلَ ذلكَ منَ التَّعليمِ والإِفتاءِ حتى ينتهيَ أَجَلُهُ.
وأَما علمُ المَعاني والبَيانِ والبَديعِ، فيَقرأُ منهُ التِّلميذُ على الشَّيخِ "تَلخيصَ القَزوينِيِّ "بشَرح السَّعدِ" التَّفتازانِيِّ، أو "الجَوهرَ المَكنُونَ" أو "أَلفيَّةَ المَعاني". ثم يَقتَصِرُ البَعضُ على ذلكَ ويتَوَسَّعُ البعضُ في المُطَوَّلات والْحَواشي. ثم ينتقِلُ منه إلى الفِقه، فيقرَأُ منه على الشيخِ "مُختصَرَ خليلٍ"، فيقتَصِرُ البَعضُ على ذلكَ ويَتَوَسَّعُ البعضُ في سائرِ كُتُب الفِقهِ إلى أن يَصيرَ منَ الأَئِمّة.
وأما علمُ التَّفسيرِ فلم يَصل إِليَّ على التَّحقيقِ ما يَعمَلون في تَعلُّمه قبلَ القرن الثاني عشَرَ. وأَما في القرن الثاني عشَرَ فَأَخَذَ شَيخُنا حَمَّ بنُ أَحمدَ بنِ الشَّيخِ تَرجمةَ "تفسيرِ الجَلالَينِ" باللُّغة التَّارِقيَّة عن شيخٍ من أَكَلاّدْ يُقالُ له حامَّ بنَ محمدٍ الأَمين، وهو أَخذَها عن بعض علماءِ أَيَرْ. فلما وصلتِ التَّرجمةُ إلى عُلماء تَكَلَلْتْ الذين منهُم الشيخُ حَمَّ الناقِلُ لها أَوَّلاً، تَلَقَّفَها عنهُم إِخوانُهُم من سائِرِ الأَحياء مع اعترافِهِم بالفَضل لمَن أَوصَلَها إِليهِم أَوَّلاً ولِحَيِّهِ حتّى اشتَهرُوا بذلك وتوارَثُوا ذلكَ المَنصِبَ الجَليلَ خَلَفاً عن سَلَفٍ إلى الآنَ. وكانت التَّرجمةُ المأخوذةُ على الشيخ الكَلادي مَقصُورةً على "تفسير الجَلالَينِ". لكنْ لَمّا كَثُرَ تَناقُلُ الأَشياخِ لها نَحَوْا ذلكَ المَنحَى وتَوسَّعُوا في ترجمة كُتُبِ التَّفاسيرِ على النَّحو المأخُوذِ عن الأَشياخِ الأُوَلِ، ولم يَزَلْ ذلكَ عمَلَهُم إلى اليومِ، ويَرحَلُ إليهم أَشياخُ الآفاقِ للسَّماعِ عنهُم. وقد اختَرَعُوا في الصِّناعة التَّفسيرية مَنهَجاً عَزيزاً يَعجِزُ عنه الفحُولُ، وهو أَنّه لا يُنتَدَبُ لآخذها عن الشيخ المُفَسِّرِ إلا مَن وَثِقَ مِن نَفسِهِ بمعرفة عُلُوم الأَدَبِ منَ النَّحو والمعاني واللُّغة والفِقه، ولا يَنتَصِبُ لسَماعِ الناس منه إلا مَن شَهِدَ لهُ أَقرانُهُ وشُيُوخُه بِإحرازِهِ قَصَبَ السَّبقِ من سائِر الفُنُون التي تُعتَبَرُ في آداب المُفَسِّر، مع قُوَّة العارِضَة وجَودة التَّعبيرِ بكُلِّ لغةٍ يُريدُ أن يُعبِّر بها، ومُلاحظةِ المعاني الدَّقيقة التي لا يُلاحِظُها إلا القَليلُ. فإذا عُقِدَ مَجلسُ التَّفسير حَضَرَهُ جميعُ الناس لسَماعِ معنَى كلامِ رَبِّهِم. ثم يختلفون في الاستماع. فمنهُم مَن يستمع للاتِّعاظ وأخذ بعضِ الأحكامِ التي نصَّ عليها الذكرُ، ومنهم مَن يجلِسُ لتَفَهُّم المعاني، ولكنْ لا يَجترئُ على أن يُؤخَذَ عنه ما أُخِذَ تعظيماً للقرآن وإشفاقاً من القول في القُرآن بغير الصَّوابِ. ومنهم من استَعَدَّ لأن يُسمِعَ ما سَمِعَ مُضَيِّقاً على نفسه أن يقول ما لم يَسمَع وإن كان صحيحاً في نفسِ الأَمر. ومنهم مَن لا يُضَيِّقُ على نفسه ذلك التَّضييقَ بل يَروي بالمعنى ويُعبِّرُ عما استحسَنَ من أقوال أَهل التفسير وإن لم يأخذه عن شيخه، وهؤلاء الذين يَحُوزُون وراثةَ شُيوخهم ويُلقَّبون بلَقَب فلانٍ المُفَسِّرِ. وسيأتي تَراجِمُ جماعةٍ منهم .
وأما علمُ الأُصول فيقرأُون منه "جمعَ الجوامع" لابن السُّبكي، وتتفاوتُ مراتبُهم فيه. فمنهم من يحفَظُه ويُحقِّقُ شُروحَه وحواشِيَهُ، وكثيرٌ منهم نَظَمَه ليُقَرِّبه للطالبين. ويقرأون أيضاً أُصُولَ مذهبِ مالكٍ كالقَرافي والبقوري ومنهم من يحفظُ "الورقاتِ" لإمام الحَرَمين ويكتفي بذلك القَدر من حفظ المُتُون الأُصُولية. وقد نظَمَها بعضُهُم في العُصُور السالفة وفي عصرنا. ومنهم من قرأَ "جمع الجوامع" قراءةَ تحقيقٍ حتى وقفَ على ثَمَرة علم الأُصول وغايتَهُ، ثم تكاسَلَ عن مُمارسة الفَنِّ لأن العملَ بقواعده من وظائفِ المُجتهدين. وقد أكثَرَ العلماءُ من القول بانقراضِ الاجتهاد، فلا يرون الفائدةَ في تعلُّم ما لا يُعمَلُ به. ومنهم من يَميلُ إلى القول ببقاءِ الاجتهاد ما بَقِيَت الأُمةُ، ويُحِسُّ من نفسه بُلُوغ الاجتهاد المذهَبيِّ أو الاجتهاد في الفَتوى، ويرَى القولَ بصحَّة تَجَزُّء الاجتهاد. وهؤلاء همُ الذين يُمارسون كُتُبَ الفَنِّ ويعملون بمُقتَضَيات قواعده في النَّوازِلِ الحادِثَة التي تحتاجُ إلى إعمالِ النَّظَر. وهم الذين يؤلِّفون في الأُمور التي تَنزِلُ ببلادهم ويعتَمِدُهم الناسُ في الفتاوَى والدُّروس الأُصولية، وينتهُون إلى أقوالهم عند الاختلاف والتَّنازُع. وأهلُ هذه المَرتَبة قليلُونَ بالنسبة إلى أهل المَرتَبة الوُسطى. كما أن أهلَ المرتبة الوُسطى أيضاً أقلُّ قليلٍ بالنسبة إلى غيرهم من العلماء الذين لا يُحسنون إلا النَّحوَ والفقهَ والبيانَ والتفسيرَ.
وأما علمُ الحديث فلا يُتَعَلَّمُ في المدارس عندَهُم. بل طريقتُهُم فيه أنَّ مَن حَصَّلَ العلومَ المذكُورةَ فتاقَت نفسُه إلى معرفة علمِ الحديث اشتغَلَ بمُطالعة الكُتُب الموضوعة في ذلك العلم "كألفية" العِراقيِّ وشرحها، و"ألفية" السَّيُوطيِّ وشُروحها، و"مقدمة" القسطلاني، و"توجيهِ النَّظَر في علوم الأَثَر" ، و"نُخبَة الفِكَر"، وغيرِها من علوم الفَنِّ، فيُمارسُها حتى تصيرَ له مَلَكةٌ في الفَنِّ. وأما كُتُبُ الحديث فلهُم منها الصَّحيحان والسُّنَنُ الأربعةُ و"المُوَطَّاُ". وأَشَدُّ عنايتهم من هذه الكُتُب "بصحيح" البُخاريِّ، فهو الذي يعتادون قراءَتَهُ في المساجِدِ كُلَّ عامٍ في شَهرَي رَجَبٍ وشَعبانَ.ثم يقرأون "كتابَ الشِّفا" للقاضي عياضٍ في شهر رَمضانَ. لم يَزَل ذلك سيرةً موروثةً فيهم وفي إخوانهم من أهل تُنبُكتُ من لَدُنِ القرن العاشر إلى الآنَ.
وأما علمُ العَقائد فكانوا فيه أُمَّةً سَلَفيةً، لأن أولَ ما يقرأون منه عقيدةُ ابنِ أبي زَيدٍ القَيروانيِّ التي ابتدأَ بها أبوابَ "رسالته". فهي التي لا تكادُ تجدُ منهم من لم يقرأها. ثم منهم من يَزيدُ عليها "صُغرى" السَّنُوسيِّ، ومنهم من يقرأُ وُسطاهُ وكُبراهُ أيضاً. ومنهم من لا يقرأُ بعدها شيئاً من العقائد حتى يكبُر ويتضلَّعَ من العلم، فيستغني عن نقل كلامِ كُلِّ أَحَدٍ بما فَهِمَه من كلام الله وكلام رسوله صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، ولا ينتَسِبُ إلى مذهبِ أحدٍ. ولكنَّ أقربَ المذاهب إليهم مذهبُ الأَشعريِّ، فإنه هو الذي ينتمي إليه بعضُهم. وعندهُم من كُتُبه: "إضاءةُ الدُّجُنَّة" للمقَّري، وكتبُ السَّنوسي الثلاثة، و"الجوهرةُ"، وغيرُها. فمن قال فيهم أُمةٌ سَلَفيةٌ لا مذهبَ لهم من المذاهب المُتَجدِّدة بعد القرون الثلاثة فقد أصابَ، لِما ذكرتُ من استغناء أكثرهم بقراءة عقيدة ابنِ أبي زَيدٍ التي هي عقيدةُ السَّلَف، ولأنه لا تكاد تسأل واحداً منهم عَما عنده من مذهب الأشعري فيأتيكَ بشيءٍ إلا تأويلَ المتشابِهِ الذي ليس مذهبَ أحدٍ معيَّنٍ. كذلك التأويلُ لم يختَصَّ به مُعيَّنٌ. ومَن نَسَبَهم إلى الأشعريِّ فلم يُخطئ لوجود كُتُب الأشاعِرة عندَهُم، ولِكونهم تابعين لعُلماء المغاربة الذين ذكَرَ صاحبُ "الاستقصا" أنهم ما زالوا في العقائد على ما عليه السَّلَفُ إلى أن أَتاهُم محمدُ بنُ تُومرتُ مَهدِيُّ الموحِّدين في المِئة الخامسة قادِماً من المشرق آخِذاً بمذهب الأشعريِّ في العقائد فنَشَرَهُ في أهل المغرب حتى صارَ الأمرُ عنده وعندَ أَتباعه أنَّ مَن لم يَقُل بمقال الأَشعريِّ في العقائد فليس بمُوَحِّدٍ. ثم استمرَّ ذلك في البلاد المغربية إلى الآن. لكني لم أَرَ مُدَرِّساً في العقائد يُوقِفُ التلاميذَ على ما انفرَدَ به الأَشعريُّ عن غيره من أَئمة السُّنة كالماتُريديِّ والحَنبَليِّ. ولم أَرَ من الكُتُب التي بأَيديهم ما خالفَ فيه الأَشعريُّ غيرَهُ حتى يُنسَبَ إليه مذهبٌ فيه إلا مسائلَ يسيرةً ذكروا فيها خلافَهُ للمعُتزِلة. ومُخالفةُ المُعتزلة لم ينفرد بها واحدٌ من أَهل السٌّنة، بل كُلُّ مَن كانَ على ما كان عليه السَّلَفُ الصالِحُ من أَهل القُرون الثلاثة يُخالفُهم قبل ولادة الأَشعريِّ وبعدَها. وكذلك ما في كُتُب السَّنُوسيِّ من ذكر الصِّفات الواجِبة والمُستحيلة والاستدلالِ عليها بالآيات والأحاديث، ليس مذهباً لِمُعَيَّنٍ، بل الصِّفاتُ ثابتةٌ بالكتاب والسُّنة بأَدلَّتها، ولا مُخالِفَ في ذلك من المسلمين. فكلُّ من لم يكُن إلا ما عليه السَّلَفُ الصالِحُ من العقائد، فلا أَنسُبُه إلا إليهم. ومتى وجدتُ شيئاً يختَصُّ بعضُ العلماء باستخراجه، وأَخذَ الناسُ بذلك القول والتَزَمُوهُ لا لدليل إلا لقوله له ، نَسَبتُ ذلك المُقَلِّدَ إلى مَن قلَّده كما في المسائل الفقهية التي لا يُنسَبُ فيها المذهبُ لإمامٍ إلا إذا كانَ هو الذي أخرجَهُ باجتهاده، وأما إذا كان مَقُولاً قبلَه فلا يُنسَبُ إليه إلا مِن جهةِ أَنه هو الذي نَقَله إلى من أخذَهُ عنه من الأَتباع.
وأما علمُ القراءات وعلمُ الحساب وعلمُ النُّجوم وعلمُ التصوُّف فلهم منها أيضاً نصيبٌ وافِرٌ، لكن لم تجرِ عادتُهم بتَدريسها إذ لا يَنظُرُ فيها إلا المُنتَهِي من العلوم المذكورة المُستغنِي عن مراجعة الشيوخ، لا سيما علم التصوف فإنه لا يشتغلُ به في الغالب إلا الشيوخُ. فإذا شَرَعوا فيه اشتغلوا به عن غيره حتى يكون تعلُّمُه والعملُ به آخرَ أمرهم.
وأما علمُ صناعة الإنشاء فليس عندهم من العلوم، بل لم يعرفوا أنه موجودٌ قبل أواخر هذا القرن الرابع عشر. ولَمَّا وَقَفوا على كُتُبه لم يلتفتوا إليها اكتفاءً بما ألِفُوه منذُ قرونٍ مِن أنَّ مَن عَرَفَ العربيةَ تكلَّمَ بها من غير أخذ الكيفية عن أحد. فمنهم من طُبِعَ على نظم الشعر فكان له قصائدُ كثيرةٌ ولم يُخلِّف أثَراً منثوراً. ومنهم مَن هو بِعَكس ذلك يُلقي الكلامَ المَنثورَ ولا يَنظِمُ. ومنهم مَن يجمعُ بينهما. ومنهم مَن يَفُوقُ أَصحابَه الناظِمينَ والناثِرين في سائر العلوم، ولكنه لا يُنشِئُ لا نَظماً ولا نَثراً، وهمُ الأكثرُ. وجُلُّهم إنما سَكَتَ تَوَرُّعاً مِن أن يقول شيئاً لم يسمعه، فاكتَفَى بنَقل ما قيلَ قبلَه. ومنهم مَن سَكَتَ عن الإنشاء حَذَراً منَ النُّقّاد }كلُّ حِزبٍ بما لديهم فَرحُون{
كذلك العَرُوضُ. مِنهم أَفرادٌ ينظُرون في كُتُبه، وجُلُّهم لا يلتَفِتُ إليها لأن طبيعَتَهم في الإنشاد الاحترازُ منَ العُيُوب التي يذكُرُها أهلُ العَرُوض.. فكانوا في ابتداء أمرهم يذكُرون تلك العُيُوبَ أخذاً بما قَرَأُوهُ من أشعار الجاهلية، فيحترِزُون منها حتى صارَ الاحترازُ منها سَجِيَّةً راسِخةً فيهم. فأنشَدَ لسانُ حالهم قولَ الشاعر:

مُستَفعِلُنْ فاعِلُنْ فَعولُ


مَسائِلُ كُلُّها فُضُولُ



قد كان شعرُ الوَرى صحيحاً


مِن قَبلِ أن يُخلَق الخَليلُ



وأما علمُ النُّجوم فحَظُّهم منه ما يتعلَّقُ بالتَّوقيت والاستقبال فقط. وأما علمُ الحسابِ فحظُّهم منه معرفةُ ضَربِ الأعداد بعضِها في بعضٍ، يستعينون بذلك على مسائل علمِ الفرائضِ. وما سوى هذا من العلوم لا يتعلَّمونه. كما أن الصناعات المدرسية غيرُ معروفةٍ عندهُم. بل غايةُ التدريس عندهُم إلقاءُ الشيخ الدَّرسَ على التلاميذ يحُلُّ لهم ما أَشكَلَ، ويفسِّرُ ما أَعضَلَ، إمّا بالقراءة فقط إن كانوا كباراً عارفين بالعربية أو بالتَّرجمة باللغة التارقية إن كانوا صِغاراً لا يُحسنون العربيةَ. ثم يقصدُ عند كلِّ مسألةٍ يُفَهِّمُها لهم ويُبيِّن لهم ما خَفِيَ عنهم من معناها، ويَحُلُّ ما أَشكَلَ مِن مَبناها. يتبَرَّعُ بذلك في بعض الأحيان، ويُجيبُ تارةً مَن سَأَلَهُ مِن نُجباء الإخوانِ، ويستعينُ بما حضَرَهُ من الشُّروح والحواشي، ويُملي عليهم ما فَهِمَه من الكُتُب، ويقرأُ عليهم لفظَ الكِتاب فيكتُبون بقراءته عن التفسير. وإذا فَرَغَ الدَّرسُ شَرَعُوا في تَكرار ما تَرجَمَ به الشيخُ حتى يُحَصِّلوا حِفظَ لفظه، ثم يتفَرَّغون لتَفَهُّم المعنى ثم لحفظ الْمَتن. هكذا إلى آخرِ الكتابِ. ورُبَّما اكتَفَى بعضُهُم بسَماعِ بعضِ الكتاب من الشيخ ويُجيزُهُ الباقي أو يُحَصِّلُه بالمُطالعة كأَنَّما سَمِعَه مِنَ الشيخ. هكذا حالُهم في الدروس سَماعاً وإِسماعاً، وتعلُّماً وتعليماً.
وأما الوظائفُ المدرسيةُ التي نقرأُها في كُتُب العلماء الحَضَريّين، فهُم بِمَعزِلٍ عنها لأنَّ بيتَ المال مفقودٌ عندهُم، والتَّنظيماتُ الدوليةُ كذلك. لا كلامَ للأُمراء في أُمور التعليم فضلاً عن أن يُرَتِّبوا الرَّواتِبَ. بلِ العلماءُ الذين حَبَسُوا أَنفُسَهم في إقامة الدِّين هم الذين يتولَّون تعليمَ أَهليهم من غير مُشاورةِ أحدٍ ومن غيرِ عِوَضٍ، اللهُمَّ إلا أن يرغَبَ في التَّعلُّم مَن ليس في قومه مَن يُعلِّمُه فيأتي إلى زاويةِ أهل العلم فيُعاقدُ بعضَهم على أن يُقيمَ عندَه برسم التعلُّم، ويُعينُه على مَؤوُنته بما قَدَرَ عليه من ماله، أو يُرسِلُ بعضُ الناس وَلَدَه إلى بعض القُرّاء ليُحَفِّظَه القُرآنَ فيُؤجِرُهُ على ذلك بما تَراضَيا عليه منَ المال. وقد بلَغَني عن الأَسلافِ أَنَّهُم يجمعون تلاميذَ الحَيِّ في بيتٍ واحدٍ على شيخٍ واحدٍ يُقرِئُهُم. وقد مضى ذلك الزَّمَنُ وآلَ الأمرُ إلى أنَّ كلَّ معلِّم يقوم بتعليم أهله فقط، ما داموا صِغاراً، وما داموا يقرأون صِغارَ العُلوم، فإذا كبروا ورَغِبُوا في التَّعلُّم اختاروا لأنفُسهم من العلماء مَن يجتمعون إليه فيقرأُ عليهم بعضَ الكُتُب التي يدرسونها بعدَ النَّحو واللغة، تارةً يكونُ ذلك الاجتماعُ على فَنِّ البَيان، وتارةً على الأُصُول، وتارةً على الخَليل، وتارةً على التفسير. ولا مُنتدَبَ لإعانة أَيٍّ منهم على ما هو فيه من الدرس أو التدريس.
ومما يتعلَّمونه في زمن التدريس صناعةُ الخَطِّ. فإنَّ الصَّبيَّ منهم إذا عرَفَ حُروفَ الهِجاء، أَمَرَ الشيخُ أن يَحكِيَ صُوَرَ الحُروف التي يراها على لَوحه. فإذا عرَفَ حكايةَ صورة الحُروف، تَرَقَّى به إلى تجويد الصُّورة، ثم إلى تعريفه آدابَ الخطِّ مِن وَصلِ الموصول وفَصل المَفصُول لاسيما في ذلك المُصحَف، فإنهم يَتحَرَّزون من الخطإِ فيه أكثرَ مما يتحرَّزون من الخطإِ في غيره. حتى إن كثيراً من عُلمائهم لا يكتُبُ شيئاً من القرآن وإن كان يُتقِنُ حِفظَهُ، إلا ناظِراً في المُصحَف لئَلاّ يُخالِفَ خَطَّه فيَأثَمَ. ومنهم مَن يستحضِرُ القواعدَ التي حَرَّرها الأَشياخُ لخَطِّ المُصحَفِ حتى حَفِظَها كحِفظه للقُرآن، وأُولئكَ يكتبُونَه مِن غير نَظَرٍ في المُصحَف. ثم إنَّ خطَّ السُّوقيّينَ جُملةً، له مَزِيَّةٌ على غيره من الخُطوط التي ببلادهم. فلكُلِّ جِيلٍ منَ الكُتّاب صورةٌ للخط تُخالفُ صورةَ غيرهم. لا يُشبهُ خطُّ العرب خطَّ الفُلاّنِ، ولا يُشبهان مُطلقاً خطَّ إِهتَنْ، ولا يشبِهُ جميعَها خطُّ السُّوقيّين. فإن أَقربَ الخُطوط إلى خَطِّهم، خطُّ أهل المغربِ الذي تُكتَبُ به المصاحفُ المطبوعةُ في المغرب بقراءة وَرشٍ. وهو بعَينِه خطُّ أسلافهم الأوَّلين كما رأيتُه في كُتُبهم وعلى أَلواح قُبور أجدادهم الأَقدَمينَ. ثم تَجَدَّدت فيه صَنعتُه في القرن الثاني عشَر،َ تَميَّزَ بها السُّوقيون على غيرهم من الكُتّاب. وأَشَدُّهم إجادةً لتلك الصَّنعة ثلاثةُ أَحياء: أَهلُ تَبُرَق، وأَهلُ تَكَلَلْتْ، وأهلُ تِكِرَتِنْ. فقد اعترفَ لَهُم إخوانُهم في العصور الأخيرة بإحرازِهم قَصَبَ السَّبق في تلك الصَّنعة. ثم صار الأمرُ إلى انفراد الأحياءِ الثلاثة بها من غير مُشاركةٍ ولا مُنازِع. مَن أرادَ من إخوانهم أن يَستَنسِخ كتاباً طلَبَ من بعضهم أن يَكتُبَ له، فتارةً يُسعِفُه بذلك المطلوب مَجّاناً، وتارةً يعتذرُ له فيَسترضيه بالمال الجَزيل رغبةً في تلك الصَّنعة الجَيِّدة التي انفَردُوا بها. فكان بعضُهم يأخُذُ على كتابة الكتاب الواحد عدَداً من البَقَر، ومنهم من يأخُذ عدداً من الجمال. ومنهم مَن ليس له من الحِرفة إلا الخطَّ، يكتُبُ الكٌتُبَ للناس فيُعطونه من أصناف المال حتى استَغنَى بذلك في مدة يَسيرةٍ. وهذا قبل وُصُول الكُتُب المطبوعة إليهم التي لم تصل إليهم إلا في أوائل القرن الرابع عشرَ الهِجريِّ. فلما انتشَرت المطبوعاتُ فيهم، قنَعَ بها بعضُهم لأن ثَمنَها أَقَلُّ من ثَمَن المخطوطات. وبعضُهم رَضِيَ بالثَّمَن الغالي الذي يُحَصِّلُ به المخطوطَ رغبةً فيه، لأنه أجودُ الخُطوط التي رأيناها وأَبقاها إلى أَطول مدة. فتوانَى مَن عنده كثيرٌ من المطبوعات، لكن لم يَستَغنِ به عن طلَب استنساخ نُسَخٍ عديدة بالخَطِّ السُّوقيِّ. وكثيرٌ من الكُتُب الموجودة في المطابع تُعمل فيه صناعة بالخط تُرغِّبُ فيه فوق الرغبة في نفس الكتاب. مثَلاً: "تفسيرُ الجَلالَين" يُكتَبُ في وَرَقٍ كبيرٍ جَيِّدٍ أَضعافَ ما يُكتَب فيه مطبوعاً. ثم يُحَشَّى بكُتُبٍ كثيرة بعضُها في التفسير وبعضُها في الفقه، وبعضُها في الحديث، وبعضُها في فُنونٍ أُخرى. وتكون تلك الحواشي طُرَراً رقيقةً مُزَيِّنةً للكتاب لا يُحسِنُ صناعتَها كثيرٌ من الخُطَّاط المُجيدين فأَولى غيرُهم. وتلك الصناعةُ أَصعبُ ما يَلقى الخَطّاطُ من جُهد الكتابة. ومَن ظَفَرَ بكتاب "تفسير الجَلالَين" مُحَشًّى بالصورة المذكورة، فكأَنَّما ظَفَرَ بوَقْر جَمَلٍ من الكُتُب في شَتَّى الفُنون، لا سيما إن كان مصدرُه من المُعتَبَرين الذين يُكابِدون المَشاقَّ في رعاية المُناسبات واختيار الفوائد التي لا يستحضرُها جُلُّ الناس، ويستغرقون في ذلك جُلَّ أَعمارهم، لا من الناقلين الذين يأخُذ أحدُهم كتاباً مُحَشّىً، فينقُلُ ما فيه إلى كتاب من غير مُعاناة أَيَّة مشقَّة إلا مجرَّدَ نقل الكلام. وهؤلاء، وإن كان لتصويرٍ مَن قَبلَهُم فضيلةٌ على تصويرهم، لكنَّ عملهم لا يُساويه عملٌ في تَكثير الفائدة العلمية، مع قلة المُجلَّدات. فكتابُ "تفسير الجلالين" مخطوطاً مُحَشّىً بالصورة المذكورة، لا يساوي المطبوعُ مِعشارَ عُشُر قيمته عند أَهل البَلَد. وكذلك "كتاب الشِّفا" للقاضي عياض، يُبالغون في تَكبير ورَقه وتجويد خَطِّه وتَحشيَّته حتى يكون مخطُوطُه فوق مطبُوعه بنحو عشرة أضعاف. وكذلك "شرحُ السَّعد" التَّفتازاني للتلخيص. وكذلك "شرحُ كافية" ابنِ مالِك في النَّحو وشرحا عبد الباقي والشَّبرخيتي "لمختصر خليل"، وكثيرٌ من الكُتُب التي جرى عملُهُم بتجويد خطِّها وتحشيَّتها. ومن الكُتُب ما لا يَهتمُّون بتجويد خطه، بل يكفيهم تحصيلُه. وتلك لا يُفضِّلون مخطُوطَها على مطبوعها كالسابقة إلا من جهة أنَّ من أرادَ شراءَها يعرفُ أنَّ كاتبَها لا يُسلِّمها فيما تُسلَّمُ فيه المطبوعةُ، لأنه عانَى من المشاقِّ ما لا يعلمُ حقيقتَه إلا مَن ذاقَه، بخلافِ مَن اشتَرى مطبوعاً ليَبيعه، فإنه لم يُعانِ مَشَقَّةً، بل متى استفاد أكثَرَ مما دفَعَ رضيَ به .
ومن الكتُب الموجودة في أَيديهم ما لا يُوجَد في المطبوعات أصلاً، وهي كثيرةٌ، منها تواليفُ للسُّوقيّين وتواليفُ للكُنتيّين وأهل تُنبُكتُ، وأَمثال هؤلاء من علماء أهل الصحراء الذين ليست لهم مطابع، ولم تُرسَل كُتُبُهم إلى الآفاق الطابِعة. ومنها كُتُبٌ توارَثُوها عن أَسلافهم مخطوطةً ولم يَظفَروا بها مطبوعةً. ولولا خِشيةُ الإطالة لعَدَدتُ الكثيرَ من هذا القسم ومن القسم الذي قبله، مع الاعتراف بالعَجز عن الإحاطة بها .

تَذييل في الكلام على عَمَلهم في المِداد والأَقلام
أما المِدادُ فيُلَوِّنونه بجميع الألوان، يجعلونه أَسودَ وأَحمرَ وأَصفرَ وأَخضَرَ. أما الأصفرُ والأخضرُ فلا يكتبون بهما الكتابَ، بل يُزَيِّنون بهما، ويكتبون بهما بعضَ الكلمات قليلاً. وأما الأحمرُ فيكتبون به المُتُونَ المشروحةَ وبعضَ الكلمات من غير الْمَتن مثل أوائل الكلام. وأما الأسودُ فيكتبون به الشُّروحَ والطُّرَرَ والألواحَ وسائرَ ما يكتبون سوى المذكورات.
وطريقتُهم في خطِّ المُصحَف أَن يُكتَب كُلُّه بالمداد الأسود، وتُكتَب هَمَزاتُه المُحقَّقة بالمِداد الأصفر، وتُكتَب أَلِفاتُه بالأحمر، ويُشكَلُ به. ولهم كتُبٌ في آداب خطِّ المُصحف يَعتَنون بها ويستعملونها في كتابة المصحَف. أما اللَّوحُ فلا يتأَدبُون في كتابته كما يتَأَدَّبون في كتابة الْمَصَاحِف، ولكن يكتبون فيه ما لا يكتبون في غيره من الكلام. وأما ما يُصنَع فيه مِدادُهم فكثيرٌ، وأَجودُه أن تُحرَقَ حِجارةٌ كانت في بلادهم تُسمَّى تَفِدَتْ، حتى تَسوَدَّ ثم تُخلَطُ بدقيق القَرَظِ والعِلك، فيُجعَلُ في ذلك ماءٌ. فإذا اختلطت هذه الأشياءُ تَوَلَّدَ من اختلاطها ماءٌ مُنعَقِدٌ شَديدُ السَّواد، هو المِدادُ الأَسودُ. والأحمرُ يُصنَعُ من حجارة تَفِدَتْ أَيضاً، لكنْ يُبالَغُ في إحراقها حتى تحمَرَّ، ويُضافُ إليها العِلكُ، ولا يُجعلُ فيه القَرَظُ لأنَّ طبيعتَهُ التَّسويدُ.
وأما القَلَمُ فيَعمَلونه من قَصَب الثُّمام غالباً، ومن غيره نادراً. ولكنَّ تجويدَ الخَطِّ مَخصُوصٌ بقَلَم الثُّمام. وصُورتُهُ أن تُؤخَذَ القَصَبةُ فَيُبرَى رأسُها، ثم يُشَقٌّ المُبرَى نِصفَينِ، ثمَّ يُبرَى كلُّ شِقٍّ حتى يكون رأسُ القَصَبة رَقيقاً جداً، ثم يُحرِّفُه الكاتبُ على وَفقِ مُرادهِ، وإنما تكلَّمتُ على صناعة الخطِّ مع الكلام على العُلوم، لكون تجويد الخطِّ مِن مُتَعَلِّقات العُلوم. فقد جُرِّبَ أنَّ صناعةَ الخَطِّ الجَيِّد مِن أَماراتِ بَقاء العِلم في القبيلة. فإذا أَقبَلَت قبيلةٌ أو أَهلُ بيتٍ على العُلوم، كثُرَ فيهم الكُتّابُ المُجيدون. فإذا نَقَصَ فيهم العِلمُ نَقَصَ فيهمُ الاعتناءُ بالخَطِّ. فلا يزالون كذلك يَنحَطُّون من مرتبةٍ إلى أَسفَل منها حتى يَنعدِمَ فيهم الخَطُّ ويَبقَى فيهمُ التَّعلُّمُ، ويتَّخذون من غيرهم كُتّاباً يكتبون لهم، فإذا انقَرَضَ ذلك الجِيلُ، اقتَصَرَ مَن بَعدَهُم مِن العُلوم على مرتبةٍ أَدونَ من مَرتبتهم. فلا يزالون يُسقِطون العُلومَ شيئاً فشيئاً، إلى أن يَبقى الخلَفُ الذي لا شيءَ معهُ من الخَطِّ ولا من العُلوم، فيذهبُ ريحُ تلك الأُمة لا يَعرفون أنَّ لهم سَلَفاً في التَّعلُّم، فرُبَّما بَقيَ شيءٌ من كُتُب أسلافهم بأَيديهم. وربما ضاعت الكُتُبُ حتى لا فرقَ بينَ مَن كانوا من أَهل العِلمِ أَصالةً وبين غيرهم مِمَّن ليس لهم أَصلٌ في التَّعلُّم».



 توقيع : عبادي السوقي

أبحث عن الحقيقة شارك في صنع حياه مثاليه أمتلك المعرفة فإن هناك من يحاول إخفائها عنك حتى تظل أسيرا له


آخر تعديل أبوعبدالله يوم 10-05-2010 في 09:49 PM.
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أغاديس فى القرن التاسع عشر أحمد رجب الحبوني المنتدى التاريخي 8 10-27-2013 11:34 AM
القلم العلم الظلم إبن المدينه المنتدى العام 0 09-16-2010 07:00 PM
الجزء الثالث من اللؤلؤ المنسوق لشعر الكنتيين والسبع النيرات لآل السوق فتى مرسي المنتدى الأدبي 0 05-25-2009 11:50 PM
لـيـون الإفـريـقـــي" (أو "الحسن الوزان") على تشويـه صورة مغاربة القرن السوقي المنتدى التاريخي 4 05-11-2009 07:02 PM
جنايةالحسن الوزان على تشويـه صورة مغاربة القرن 10هـ/16م السوقي المنتدى التاريخي 0 02-14-2009 02:19 PM