العودة   منتديات مدينة السوق > قسم الحوار الهادف > منتدى الحوار الهادف

منتدى الحوار الهادف حول القضايا الدينية والتيارات الفكرية والإقتصادية والإجتماعية

Untitled Document
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 06-30-2010, 07:16 PM
د.أبوعمر المراكشي غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 1933
 تاريخ التسجيل : Jun 2010
 فترة الأقامة : 5268 يوم
 أخر زيارة : 05-05-2011 (03:31 AM)
 المشاركات : 112 [ + ]
 التقييم : 10
 معدل التقييم : د.أبوعمر المراكشي is on a distinguished road
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي أصالة الرأي (منقول للفائدة)



أثناء تصفحي لبعض مواقع الانترنت وجدت موضوعا ذا صلة بما سببه كتاب الأوفى من مرادات ومشاحنات فأحببت نقله إلى منتدانا لنفيد مما سطره د. محمد بن إبراهيم الحمدعن أصالة الرأي فأترككم مع الموضوع فيمايلي؟

أصالة الرأي خصلة شريفة يُمدح بها، ويُرفع من شأن صاحبها، ويستجلب بها الخير، ويدفع بها الشر.

وهي مُركَّبة من الحلم، والرَّويَّة، والحزم، والعدل، وقوة العقل، واعتدال المزاج، والتبصّر في مبادي الأمور، وحسن التدبر لعواقبها، ومعرفة ما تؤول إليه من الخطأ والصواب.

وأصالة الرأي: جودته، وإحكامه، وسداده، ونضجه.

قال الطغرائي في مطلع قصيدته المشهورة المعروفة بلامية العجم:

أصالةُ الرأيِ صانتني عن الخطلِ *** وحليةُ الفضلِ زانتني لدى العطلِ

وأصيل الرأي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فيفتح أبواب الحلول، ويزيل الاضطراب، ويغتنم الفرص، ويوظف طاقاته، ومواهبه فيما هو بصدده.

مدح أعرابي رجلاً فقال: "إنه ليغسل من العار وجوهاً مسودّة، ويفتح من الرأي أبواباً منسدّة".

ولأصالة الرأي كلمات ترادفها، وتدل عليها، منها قولهم:

رجل مُحْصَدُ الرأي كَمُجْمَل، أي: سديد الرأي محكمه، قال الشاعر:

من النفرِ المُدْلين في كلِّ حجةٍ *** لمستحصدٍ من حوله الرأي محكم

على التشبيه بالحبل المحصد: أي المحكم الفتل، كما قال طرفة بن العبد في معلقته في وصف ناقته:

وإن شِئْتَ لم تُرْقِلْ وإن شئتَ أَرْقَلَتْ *** مخافةَ ملويٍّ من القَدِّ مُحْصدِ

ويقصد بالملوي: السوط الذي يضرب به ناقته.

ويقال -أيضاً-: هو رصين الرأي، ورزين العقل، وراجح الوزن، وكامل العقل والرأي، وأصيل الحِجا، وصيقل الآراء.

قال البحتري:

عليمٌ بما خلق العواقب إنْ سرت *** رويَّته فضلاً بما في العواقبِ

وصيقلُ آراءِ يبيتُ يَكُدُّها *** ويشحذها شَحْذَ المُدى للنوائبِ

ويُقال -أيضاً-: الركين: وهو -كما يقول ابن السكيت-: الحليم الذي يطيل الفكر إذا وردت عليه الأمور.

ويُقال -كذلك-: هو ذو بَدَوات، وقد كانت العرب تمدح بهذه اللفظة، فيقولون للرجل الحازم: ذو بدوات، أي ذو آراء تظهر له، فيختار بعضاً، ويسقط بعضاً، قال الراعي النميري:

مِنْ أَمْرِ ذي بدواتٍ ما تزال به *** بَزلاء يعيا بها الجثَّامة اللبد

قال ابن دريد: "قولهم: أبو البدوات: معناه: أبو الآراء التي تظهر له".

ولهذا فإن أصيل الرأي يدفع عن نفسه، وعن قومه شروراً كثيراً، ويستجلب لنفسه، ولقومه خيرات وفيرة.

قال أبو الطيب المتنبي:

الرأيُ قبل شجاعةِ الشجعانِ *** هو أولٌ وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِرَّةٍ *** بلغت من العلياء كل مكانِ

وترى أصيل الرأي ينأى بنفسه عن المشاحنات، والخصومات، ولا يغتر بمبادئ الأمور دون النظر في عواقبها.

قال أبو العلاء:

والحلمُ أعظمُ ناصرٍ تدعو به *** فَالزمْه يكفِك قلةَ الأنصارِ

وتفكُّر الإنسانِ يثني غَرْبَهُ *** ويردُّ جامِحَهُ إلى الإقصارِ

وقال ابن حزم -رحمه الله-:

رأيت الهوى سهلَ المبادي لذيذَها *** وعقباه مرّ الطعم ضنك المسالكِ

ولقد وصف عمرو بن معدي كرب -رضي الله عنه- الحرب بما ليس عليه مزيد؛ إذ يقول:

الحربُ أولُ ما تكون فتيةً *** تسعى بزينتها لكلِّ جهولِ

حتى إذا حميت وشبّ ضرامُها *** عادت عجوزاً غيرَ ذات حليلِ

شمطاءَ جَزَّتْ رأسَها وتنكّرت *** مكروهةً للشَّمِّ والتقبيلِ

وإذا تفكرت في كثير من العداوات، والمصائب، والحروب، والرعونات، والمشكلات - وجدت أن من أعظم أسبابها عزوبَ الرأي، والعجلة فيه، وقلة التروي، والتدبرِ للعواقب.

فإذا كان الأمر كذلك فإنه يحسن بالعاقل أن يكون ذا نظر واسع، وبصر في الأمور.

وإذا لم يتبين له ذلك فليستعن بمن هو ذو رأي أصيل، ونظر في العواقب بعيد؛ فما خاب من استخار، ولا ندم من استشار.

قيل لرجل من بني عبس: ما أكثر صوابكم؟!

قال: "نحن ألف، وفينا حازم واحد، ونحن نشاوره، ونطيعه؛ فصرنا ألف حازم".

وقال بزرجمهر: "حسب ذا الرأي، ومن لا رأي له أن يستشير عالماً ويطيعه".

هذا وإن من أعظم ما يصقل الرأي، ويشحذ العقل، ويذكي أواره -زيادة على ما مضى- أموراً منها:

1- التحلي بالتقوى، والتجرد عن الهوى، فلذلك أثره في استنارة الفكر، وأصالة الرأي؛ قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوْا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) أي نوراً تُفرِّقون به بين الحق والباطل.

قال الحكيم العربي:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بِطَوْعِ هوًى *** وعَقْلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا

2- مراجعةُ الإنسانِ نَفْسه: بحيث ينظر في تصرفاته، وآرائه، وأحكامه، ونظرته للأشياء، فإذا كانت على الجادة السوية استبشر بذلك، وسعى إلى المزيد.

وإن كان فيها حيف، أو خلل - تعاهدها بالإصلاح، وتعاورها بالتشذيب والتهذيب، دون مكابرة، أو عناد، أو إقناع للنفس بما ليس صواباً.

3- طول التجارب: فهي تمدّ الإنسان بالخبرة، ومعرفةِ طبائع النفوس، وتورثه حسن النظر، وقياس الأشياء بالأشياء خصوصاً إذا كان يُفِيْد مما يمر به.

أما إذا لم يكن كذلك فإن مرور الأيام، وطول التجارب لا ينفعه في قليل ولا كثير.

4- مخالطة ذوي البصائر النافذة، والعقول المستنيرة: فذلك مما يشحذ الذهن، ويصقل العقل؛ فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم، والاختلاط بهم- كان جديراً بأن يفيد منهم.

قال الأحنف بن قيس -رحمه الله-: "كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه".

5- النظر في سير العظماء: فإن ذلك مما يبعث على الإفادة من تجاربهم، ونظرتهم للأمور؛ لأن تلك السير تتمثل أمام القارئ، وتوحي إلى الاقتداء بهم، والسير على منوالهم.

وإن في تاريخ أمتنا المجيد نماذجَ رائعةً، ومثلاً عالية من ذوي الحجا، والرأي الأصيل الذين يُستضاء بنور آرائهم.

والأمثلة على أصالة الرأي من تاريخنا كثيرة جداً، فمنها ما كان من أمر أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- في قصة الحديبية، وذلك عندما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" فما قام منهم رجل واحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم، حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه، فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمًّا.

فانظر إلى حصافة رأي أم سلمة -رضي الله عنها- وانظر إلى أخذ النبي-صلى الله عليه وسلم- برأيها.

ومنها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كنت أُقْرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إليَّ عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؛ فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، فتمت.

فغضب عمر ثم قال: إني -إن شاء الله- لقائمٌ العشيةَ في الناس، فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.

قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رَعاعَ الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها؛ فأَمْهِلْ حتى تَقْدُمَ المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة فَتَخْلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.

فقال عمر: أما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة". الحديث.

فانظر إلى سداد ذلك الرأي من الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه- كيف درأ فتنة كادت أن تُطِلَّ برأسها، وانظر إلى حكمة عمر -رضي الله عنه- حيث قبل الرأي، وركن إليه، فكانت العاقبة حميدة.

وانظر إلى الحكمة كيف تغيب عن أكمل الرجال، ويُدركها من دونه؛ ولعل من أسباب ذلك أن الإنسان ربما يَذهل إذا اعتراه أمرٌ؛ فيحتاج إلى من ينظر إلى الأمر بِنَفْسٍ مطمئنة، ونَفَسٍ مُسْتَرِيض.

6- الأخذ بالتثبّت والتروّي: قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هَمَّ بشيء مثل التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمّل للعواقب كان الغالب عليه الندم؛ ولهذا أُمِر بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبّت يفتكر؛ فتعرِض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور.

وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.

وأشد الناس تفريطاً من عمل بما ورده في واقعة من غير تثبت واستشارة؛ خصوصاً فيما يوجب الغضب؛ فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم".

وقال -رحمه الله-: "فالله الله! التثبّت التثبّت في كل الأمور، والنظر في عواقبها؛ خصوصاً الغضب المثير للخصومة".

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد جاء في حديث مرسل: "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات".

فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، والله المستعان".

ثم إن التثبت والتأني، والنظر في العواقب من سمات أهل العلم والعقل، ولا يستغني عنها أحد مهما كان، ولا يكفي مجرد علم الإنسان، بل لا بد له -مع العلم- من هذه الأمور.

وإليك هذه الكلمة الحكيمة الرائعة التي رقمتها يراعة العلامة الشيخ محمود شاكر والتي تعبر عن كثير مما مضى ذكره، قال -رحمه الله-: "رُبَّ رجلٍ واسعِ العلم، بحرٍ لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلَّل الغاية، وإنما يَعْرِض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل.

وإن أحدنا لَيُقْدِم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه؛ فينقضه نقض الغزل.

ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرؤى فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغيره عادة الإعجاب بنفسه حتى يُنزِّل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر، ثم يغالي، ثم يعنف، ثم يستكبر، ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه".

7- أن يكون الإنسان وقت إبداء الرأي في حال طمأنينة: لأن الاضطراب مدعاة للخطأ، ومجلبة لاختلاط الأمور، وتكدر النفس.

ولقد سئل أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- عن مسألة فدخَلَ مبادراً, ثم خرج في حذاء ورداء, وهو يتبسّم, فقيل له: يا أمير المؤمنين, إنك كنت إذا سُئِلْت عن مسألة كنت فيها كالسِّكة المُحْماة! فقال: إني كنتُ حاقناً ولا رَأْيَ لحاقن, ثم أنشأ يقول:

إذا المشكلاتُ تصدَّيْن لي *** كشفتُ حقائِقَها بالنَّظَرْ

وإن برقَتْ في مخيل الصوا *** بِ عَمْيَاءُ لا تجتليها الذِّكرْ

مقنعةً بأُمور الغيوبِ *** وضعت عليها صَحيحَ الفِكَرْ

لساناً كشقشقةِ الأرحبيِّ *** أو كالحسامِ اليماَنِي الذَّكَرْ

وقلباً إذا استنطقته العيونُ *** أمرُّ عليها بواهي الدررْ

ولستُ بإمّعة في الرّجال *** أُسائل عن ذَا وذَا ما الخبرْ

ولكنني ذَرِبُ الأصغرَيْنِ *** أبيِّن مَعْ ما مضى ما غبرْ

وقال حكيم: "إنّ لابتداء الكلام فتنةً تروق، وجِدةً تعجب، فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمُّل، وصَفَت النَّفس - فليعد النظر، وليكن فَرَحُه بإحسانه، مساويًا لغمِّه بإساءته؛ فقد قالت الخوارج لعبد الله بن وهب الراسبي: نبايعك الساعة فقد رأينا ذلك، فقال: دَعُوا الرأي حتى يبلغ أَناته؛ فإنه لا خيرَ في الرأْي الفَطير، والكلام القضيب".

وقال معاوية بن أبي سفيان لعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم-: "ما عندك في كذا وكذا؟ فقال: أريد أن أَصْقُلَ عقلي بنَوْمَة القائلة, ثم أروح فأقول بعدُ ما عندي".

ومر حارثة بن زيد بالأحنف بن قيس، فقال: "لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر".

فقال: "يا حارثة أجل؛ كانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمُضِلِّ حتى يجد، والراغب حتى يُمنح".

وقال ابن المقفع: "ثلاثة لا آراء لهم: صاحب الخف الضيِّق، وحاقن البول، وصاحب المرأة السليطة".

وفي الختام هذه لمع من سيرة عظيم من عظماء هذه الأمة، وداهية من أكابر دهاتها؛ ألا وهو أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- ففي هذه السيرة إشارات كثيرة تغني عن كثير من الكلام في هذا الصدد.

أخرج ابن عساكر عن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهات، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة.

وقال الأصمعي: كان معاوية -رضي الله عنه- يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم.

وأخرج ابن عساكر عن قبيصة بن جابر قال: صحبت معاوية، فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناة منه.

وصحبت عمرو بن العاص؛ فما رأيت رجلاً أنصع طرفاً ولا أحلم جليساً منه.

وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر -أي احتيال- لخرج من أبوابها كلها.

وقال المقبري: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى، وتَدَعُوَن معاوية؟! وذكروا أنه لم يكن في ملوك العجم أدهى من كسرى أنو شروان.

وكان معاوية -رضي الله عنه- من أدهى الدهاة، رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية؟!

وذكروا أن عمر بن الخطاب لما دخل الشام فرأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.

ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من علم وحلم يضع أساس الملك، ويسير في رعيته سيرة حسنة حببته إليهم، وكان يتأنى الأمور، ويداري الناس على منازلهم، ويرفق على طبقاتهم؛ فأوسع الناسَ من أخلاقه، وأفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، فاجتذب القلوب، واستدعى النفوس حتى آثروه على الأهل والقرابات، وعُدَّ مربيَّ دولٍ، وسائسَ أمم، وراعيَ ممالك.

وكان -رضي الله عنه- يُرمى بالمطاعن، ويُرشق بسهام الإنكار، فَيُسِرُّها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ الذي يتخبط كثيراً من المستبدين.

وأسمعه رجلٌ كلاماً شديداً فقيل له: لو عاقبته! فقال: إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.

وأغلظ له رجل فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.

وقال -رضي الله عنه-: لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم أن في قلبه عليّ ضغناً، فأستشيره، فيشير إلي منه بقدر ما يجده في نفسه، فلا يزال يوسعني شتماً وأوسعه حلماً، حتى يرجع صديقاً أستعين به فيعينني، وأستنجده فينجدني.

وكان -رضي الله عنه- عاقلاً، لبيباً، عالماً، حليماً، ملكاً قوياً، جيد السياسة، حسن التدبير لأمور الدنيا، حكيماً، فصيحاً، بليغاً، يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلاّ أن الحلم كان أغلب عليه.

وقال -رضي الله عنه-: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلاّ بقوة العلم.

ويروى عنه أنه قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً، قيل له: وكيف ذاك؟ قال كنت إذا جبذوها أرخيها، وإذا أرخوها جبذتها.

وقال لابنه يزيد: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة، فإذا أمكنتك فعليك بالصفح؛ فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور.

وقال -أيضاً-: أفضل ما أُعْطِيَ الرجلُ الحلم، وقال: ما وجدت لذة هي عندي ألذ من غيظ أتجرعه، وسفه بحلم أقمعه.

وقال له ابنه يزيد: لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يُعدَّ ذلك منك ضعفاً وجبناً، فقال معاوية: أي بني، إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة؛ فامضِ لشأنك، ودعني ورأيي.

وبمثل هذه السيرة صار خليفة العالم، وخضع له من أبناء المهاجرين والأنصار كل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة.

وقيل للأحنف: من أحلم الناس أنت أو معاوية؟ فقال: معاوية قد قدر فحلم، وأنا أحلم ولا أقدر؛ فكيف أقاس به؟!

انظر حكم وأخلاق عربية ص65-69 لمحمد المكي بن الحسين



 توقيع : د.أبوعمر المراكشي


قال صلى الله عليه وسلم: (( من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس))

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع