|
المنتدى الأدبي ميدان للإبداع خاطرة أدبية أوقصة أو رواية أو تمثيلية معبرة أو مسرحية أو ضروب الشعر وأشكاله |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||
|
||||||||
الحداثة وعولمة الأدب
اعداد: د. علي المتّقي
مصطلحان متداولان في صحافتنا وثقافتنا وحياتنا المعاصرة هما مصطلحا الحداثة و العولمة. وبتداولهما صارا معروفين ومألوفين في الأوساط الثقافية وشبه الثقافية. لكن هذه الألفة زادت من غموضهما إذ يستعملان بكثرة من طرف الجميع دون معرفة علمية صحيحة ودقيقة بهما. هكذا يتحدث الكل عن تحديث المجتمع وتحديث الاقتصاد وتحديث الوسائل والأدب الحديث وحداثة العصر. لكن هذه الاستعمالات لا تكون دائما صحيحة وواضحة في أذهان مستعمليها ومتلقيها. فهل الحداثة هي استهلاك مختلف منتجات العصر والانخراط في صلب المغريات الإشهارية؟ هل الحداثة هي التقبل السلبي و الاستهلاكي للأنماط الثقافية المعاصرة؟ ما قيل عن الحداثة يقال عن العولمة فقد انتشر المفهوم وصار من الاتساع والانتشار إلى درجة البحث عنه في التراث والدين، بل والاقتصاد والثقافة و نمط الحياة. إلا أن ما تجب معرفته هو أن هذين المصطلحين العنكبوتين مرتبطان بخلفيات فلسفية وأيديولوجية قبل أن يغزوا مختلف الحقول والمجالات الحياتية. وقد يكونان معا وجهين لعملة واحدة، وجهها الأول هو الحداثة الذي هيمن في القرنين التاسع عشر والعشرين، والوجه الثاني هو العولمة مفهوم القرن الواحد والعشرين. هذه العملة هي هيمنة الفكر الغربي الليبرالي على مختلف القيم والأفكار القومية والقطرية الأخرى، واعتباره الفكر الإنساني العالمي المتحضر الذي يجب أن يسود لكي يعيش العالم في أمن واستقرار وحرية وديمقراطية ورفاهية. فهما معا، أي الحداثة والعولمة، من إنتاج فكر مركزي واحد هو الفكر الغربي الليبرالي ولن يقبل بنا هذا الفكر كجزء من العالم إلا إذا كنا حداثيين بالمفهوم الغربي للحداثة. فماذا يقصد بالحداثة وما علاقتها بعولمة الأدب؟ وكيف يمكن للأدب أن يكون عالميا لا تحده الحواجز الجمركية القطرية والقومية والحضارية؟ يقول يوسف الخال: "ما الحداثة زيا أو شكلا خارجيا مستوردا، وإنما هي نتاج عقلية حديثة تبدلت نظرتها إلى الأشياء تبدلا جذريا وحقيقيا انعكس في تعبير جديد." من هذا القول يتضح أن الحداثة كما فُهِمَت نظريا في الفكر العربي لم تكن حداثة شعرية فحسب، ولكنها حداثة عقل تغيرت نظرته إلى الوجود تغيرًا جذريًا. وحينما نقول التغير الجذري نقصد بذلك أساسًا طريقة التفكير. وبتغير طريقة التفكير تتغير المسلَّمات والأدوات، وبالتالي النتائج التي يمكن أن نصل إليها. ولأن العقل هو مصدر المعرفة فمن الطبيعي أن يلحق التغيير الجذري مختلف مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولأننا في حقل الأدب فسنقتصر على الحداثة في مجال الأدب وبشكل خاص مجال الشعر. لقد كان "تجمع شعر" أول من نادى في الثقافة العربية بحداثة الأدب وعولمته. وأقصد بالعولمة هنا أن يكون أدبنا عالمي الصفة، يعترف به الآخر و يراه جزءا من الآداب العالمية، فيتأثر به ويؤثر فيه. ويتكون هذا التجمع من مجموعة من الشعراء درست في الغرب وتشبعت بقيَمِهِ و أفكاره، وعادت إلى لبنان وهاجسها الملح منذ الخمسينيات من القرن الماضي تحديث الشعر العربي والارتقاء به إلى مستوى العالمية المتحققة في آداب الغرب الليبرالي "ذي القيم العالمية الشمولية". إذن فهذه المجموعة ترى في الآداب الغربية آدابا عالمية على العكس من الآداب العربية التي ترى فيها آدابا قطرية قومية شوفينية ومتخلفة. ولن يكون أدبنا أدبًا عالميا إلا إذا تجاوز قطريته وإقليميته وشوفينيته وانخرط في القيم نفسها، أي قيم الآداب الغربية اللبيرالية. هل يعني هذا أن نعبر عن مشاكل الآخر و قيم الآخر وننسى مشاكلنا؟ ألا يعني هذا تبعية وطمسا للهوية وارتماء في أحضان الآخر كما تصورت ذلك الاتجاهات القومية العربية والإسلامية؟ يرى تجمع شعر أن الانفتاح على الآداب الغربية ليس مجرد ارتماء تبعي في أحضان الحضارة الغربية وتجريب لتقنياتها الثقافية الشعرية كما تَصَوَّرَ ذلك الوعي القومي العربي. فهذه القيم ليست قيما غربية وإنما هي قيم عالمية كونية، ساهم الشرق والغرب في بنائها. فقد أسسها الشرق وطورها الغرب "ففي الأصل لا غرب لا شرق"، يقول أدونيس، "في الأصل الإنسان سائلا باحثا. بدأ السؤال والبحث وجودا أو مصيرا في حوض المتوسط الشرقي ومن ضمنه سومر/بابل، ثم أصبح نظاما فكريا ومشروع أجوبة متكاملة في أثينا[1]"، وما الغرب الحضاري إلا امتداد تاريخي لهذه الثقافة. "وبالانخراط فيها، نتجاوز التناقض بين كوننا شكلا في العالم الحديث، وبين كوننا جوهرا في خارجه" [2]. وبذلك فالثنائية الحضارية القائمة على التعارض بين الشرق والغرب كما يتصورها الفكر القومي العربي، من منظور تجمع شعر فكرة خاطئة، وثمرة من ثمرات المرحلة الاستعمارية، ونتيجة حتمية لعزلتنا عن العالم، وعدم المساهمة معه في حل مشاكله. بل أكثر من هذا ترى هذه الحركة في الإبداعات الغربية العظيمة رفضا لتقنية الغرب، وتجاوزا للثنائية الحضارية الوهمية. فأهم خصائصها وسماتها ذات أصول شرقية، كالنبوة والرؤيا والحلم والسحر والتخييل والباطن والميتافيزيقا والانخطاف والإشراق والشطح والكشف. الآداب الغربية إذن ذات أصول شرقية امتدت إلى الغرب فتطورت هناك، ثم آن الأوان لتعود مرة أخرى إلينا لنساهم في تطويرها. فما هي هذه القيم الكونية، وكيف يجب أن يكون أدبنا لكي يصبح جزءا من الآداب العالمية، ويندرج ضمن العولمة الأدبية التي تؤمن بأدب إنساني مطلق؟ استمدت هذه القيم الشعرية الكونية من الأسس الفلسفية الوجودية الآتية. 1 ـ ارتباط الحقيقة بالتجربة الفردية المعيشة. 2 ـ الإنسان محور هذه التجربة وموضوعها الوحيد. 3ـ رفض العقل بوصفه أساس الحقيقة ومصدرها. 4ـ أسبقية الوجود على الماهية . هذه الأسس الأربعة هي الخلفية الفلسفية للحداثة الشعرية العربية فقد انتقل بها تجمع شعر من إطارها الفلسفي العام إلى الحقل الأدبي الشعري الخاص، ووضع له أسسا كبرى مشابهة حددها أدونيس على الشكل الآتي: أ ـ ارتباط الشعر بالحياة، والحياة لا تعرف التوقف أو التكرار أو العودة إلى الخلف. إنها حركة في اتجاه المستقبل، وطبيعي أن يكون الشعر كما الحياة التي يرتبط بها ويتولد عن تجاربها متحركا ومتجددا ومبتكرا باستمرار[3]. أو كما قال يوسف الخال: "التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها كما يعيها الشاعر بجميع كيانه، أو بعقله وقلبه معا"[4]. فالشعر وسيلة لمعرفة من نوع ما: معرفة الإنسان لذاته، واختباره لحياته اختبارا حيا وحقيقيا. هذه المعرفة الذاتية والاختبار الحقيقي وحدهما يسمحان للشاعر بوصفه إنسانا أن يحيا حياته الخاصة به لا حياة من سبقه. إن التجربة هي كل ما يتملك الإنسان من أحاسيس وعواطف ومشاعر وأفكار في صراعه مع رتابة الحياة وميكانيكيتها. أما التجربة الشعرية، فهي القدرة على نقل هذه الأحاسيس والمشاعر والأفكار إلى مستوى المطلق. إنها "تجربة كيانية يدخل فيها الشاعر باب الخلود"[5]، وذلك بكشف النقاب عما يقلقه بوصفه إنسانا، لا بوصفه فردا يعيش في زمان ومكان محددين. ومصدر هذه الأحاسيس والمشاعر هو وضعية الإنسان الوجودية، إذ يوجد بين عالمين: عالم مزيف يعيش فيه ولا ينتمي إليه، وعالم حقيقي ينتمي إليه لكن لا يصل إليه. ومهمة الشاعر اكتشاف هذا الوجود الحق، فتتولد لديه مشاعر الفرح، فرح الكشف والنفاذ إلى عالم الغيب الكامن وراء المرئيات، كما تتولد لديه مشاعر القلق لأنه لا يستطيع اللحاق به. وكل شعر لا يعبر عن هذه الأحاسيس، في نظر تجمع شعر، لا يعتبر شعرا حديثا[6].. هذا التصور لمفهوم الشعر وطبيعته سينتج عنه بالضرورة تصور جديد لوظيفته، فالتركيز على التجربة الشخصانية المعيشة سيحرر الشاعر من أي التزام اجتماعي، فمهمة الأديب أن يصغي إلى صوت الحياة الحي، أن يشهد للخير ولكل ما هو حق وجميل. ذلك أن غاية الفن القصوى هي خلق صورة للإنسان تكون أعظم من الإنسان، وأن يسعى نحو ما يسميه نيتشه "بالإنسان الأعلى". ولا يختلف رأي يوسف الخال ومن معه عن هذا الرأي، إذ يرى أن شعارات القومية والثورة والاستقلال والكرامة صارت معبودا حقيقيا نحلل من أجله كل حرام، فنضطهد الإنسان ونسلبه حريته واعدينه بأننا إنما نعمل ذلك لبناء مستقبل أفضل".[7] إن الإنسان في ألمه وفرحه، خطيئته وتوبته، حريته وعبوديته، حضارته وعظمته، حياته وموته، هو الموضوع الأول والأخير للشعر. وكل تجربة لا يتوسطها الإنسان المعاصر بوصفه إنسانا هي تجربة سخيفة مصطنعة لا يأبه لها الشاعر الخالد العظيم[8]. ب ـ إن هذه الحياة فيها ما هو عام ومشترك بين الناس جميعا، أي ما هو غريزي ووراثي ومرتبط بجنس الإنسان بوصفه إنسانا. وفيها ما هو ذاتي خاص، أي التجربة الشخصانية، وتتعدد هذه التجارب بتعدد الأفراد. ولن يكون الشعر ذا قيمة معرفية وجمالية إبداعية عالمية إلا إذا ارتبط وعبر عن الخفي والمجهول والشخصي في التجربة الإنسانية المعيشة في غناها وتعددها.[9] ج ـ في كل تجربة حياتية ما هو جوهري وإنساني وخالد، وما هو ظرفي وحادث. والشعر لا يرتبط إلا بالكوني والإنساني، أما الظرفي، فلحظي ومؤقت ومحصور في الزمان والمكان والمناسبة. وبذلك يرتبط الشعر بالتجربة الحية المعيشة الفردانية الجوهرية الخالدة والكونية. د ـ بقدر ما تتعدد التجارب الإنسانية بقدر ما تتعدد الأشكال التي تتجلى فيها. فالشعر ـ كما الحياة في أشكالها التجريبية المعيشة ـ غير قابل للتقنين أو العلمنة أو النموذجية. ذلك أن الشكل الشعري هو أولا كيفية وجود أي بناء فني، وهو ثانيا كيفية تعبير أي طريقة .[10] هذه الأسس الأربعة بنيت على أنقاض مبادئ وأسس موروثة تم تجاوزها وتخطيها. فالأساس الأول تمرد على العقلية التقليدية التي تجد مثلها الأعلى في الماضي المكتمل والمطلق. فالقصيدة العمودية ذات شكل واحد لا يتغير، وظيفتها التأثير في النفوس غزلا كانت أم مدحا أم رثاء أم هجاء، ولغتها " لغة ذوق عام وقواعد نحوية وبيانية"[11]. والأساس الثاني تمرد على المتداول والمألوف والمشترك. فالحقيقة لا توجد خارج الإنسان الذي يعيشها، وليست واحدة مطلقة. إنها متعددة بتعدد الأشخاص تولد معهم وتتطور بتطورهم وتنتهي بانتهائهم. من هذا المنطلق، يرى أدونيس أن الخضوع للثقافة الموروثة والجماعية بمرتكزاتها المطلقة "طاعة لا حرية، وتلقٍّ لا اكتشاف[12]". والأساس الثالث تمرد على شعر الوقائع والمناسبات، إذ "هناك تنافر بين الحادثة والشعر"، وتمرد على الجزئية والواقعة. والأساس الرابع تمرد على كل قالب شكلي جاهز تصب فيه المضامين، وعلى كل فصل تعسفي بين الشكل والمضمون. "فالقصيدة لغة غير منفصلة عما تقوله، ومضمون ليس منفصلا عن الكلمات التي تفصح عنه. فالشكل والمضمون وحدة في كل أثر شعري حقيقي، وهي وحدة انصهار أصيل"[13]. انطلاقا من هذه الأسس سيصبح الشعر عند الحداثيين: تساؤلا جذريا يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها، وافتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية، وابتكار طرق للتعبير تكون في مستوى هذا التساؤل. وشرط هذا كله الصدور عن نظرة شخصية فريدة للإنسان والكون"[14]. يحدد أدونيس في هذا التعريف للشعر الحداثي الأسس الآتية: الشعر رؤيا: والرؤيا كما يراها أدونيس ذات بعدين: بعد روحي ميتافيزيقي، وبعد إنساني كوني. هي ذات بعد روحي ميتافيزيقي لأنها تصدر عن تجربة حية شخصية وفريدة في تفاعلها مع الواقع. فالشاعر الحداثي لا يعنى بالواقع الخارجي، وإنما يغيب الأحداث بتفتيتها وإعادة بنائها وفق معايير ذاتية شخصية خارجة، أي نسق عقلاني منطقي. وبذلك، يمكن الكشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف. وللوصول إلى هذا المستوى من العرفان ينبغي التشويش على الحواس وتعطيلها وتجاوز معايير المعرفة المشتركة، والاعتماد كليا على الحدس والتخييل في اكتشاف الخفي والمجهول. ولأن الشعر يستكشف المجهول، ويستطلع المستقبل، فقد قرن بالنبوة والكهانة والحلم، لأنها كالشعر تصدر عن حساسية ميتافيزيقية تحس الواقع الخارجي إحساسا كشفيا. أما البعد الإنساني الكوني فيتجسد في الارتقاء بالحدث الواقعي الجزئي إلى مستوى الإنساني الكلي، وذلك عبر تنقيحه من كل ما هو ظرفي وطارئ، وتحريره من قيود الزمان والمكان، والتركيز على الجوهري والخالد فيه، وتحويله إلى وجود رمزي صرف. من هنا، فالشعر الحداثي يجمع بين الرؤيا الفردية المتميزة، وبين الموضوع الكوني الإنساني. والقول برؤياوية الشعر الحداثي ينتج عنه القول بلازمكانية الحداثة. فعلى مستوى المكان نفى أدونيس التعارض بين الشرق والغرب، "ففي الأصل ـ يقول أدونيس ـ لا غرب لا شرق، في الأصل، الإنسان سائلا باحثا". في هذا الإطار، وبهذا التصور، يجيز أدونيس للشعرية العربية أن تأخذ إبداعات الغرب الحضارية، لكن بخصوصيات شرقية. أما على مستوى الزمان، فيرى أدونيس أن الزمنية ليست إلا وهما من أوهام الحداثة. فالشعر لا يكتسب حداثته بالضرورة من مجرد زمنيته، وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنيته ذاتها. ولكي يتخلص الشاعر من الزمان والمكان والحادثة، يجب أن يتخلص من العقل وأدواته، أي من الرؤية ليرتقي بشعره إلى الرؤيا، إذ بالرؤيا يستطيع النفاذ إلى الحقيقة الباطنية، فيكشف عما تخبئه المرئيات من معان وأشكال، فيقتنصها ويكشف نقاب الحس عنها. يستلزم الشعر الحديث بوصفه رؤيا متميزة وفريدة للإنسان والكون، وبوصفه معرفة ذاتية مناقضة للمعرفة المشتركة، لغة خاصة متميزة وفريدة غير تلك التي تتوسلها المعرفة العقلية. فهذه الأخيرة أداة للتواصل. لذلك دعا الحداثيون إلى تفجير اللغة وهدم قوانينها المرجعية، وإعادة بنائها بناء خاصا تصبح معه غير مألوفة وغير متداولة. إن عملية تفجير اللغة عبر هدمها وإعادة بنائها تعيد لها بكارتها التي فقدتها بالتداول وكثرة الاستعمال، وتسمها بما اصطلح عليه النقد المعاصر بظاهرة الغموض. لكن هذا الغموض ليس معدما أو مجانيا، إنه غموض ماسي "فكل شاعر كبير بالضرورة غامض غموضا ماسيا[15]" ، أي غموضا شفافا يجعل الشعر الجديد حمال أوجه، وقابلا لتأويلات وقراءات متعددة. ويرى أدونيس أن هذا الغموض ناتج عن سمو الكلمة على ذاتها، "فليست الكلمة في الشعر تقديما دقيقا أو عرضا محكما لفكرة أو موضوع ما، ولكنها رحم لخصب جديد. ثم إن اللغة ليست كيانا مطلقا، بل عليها أن تخضع لحقيقتنا التي نجهد للتعبير عنها تعبيرا كليا [16]". وحينما تصبح اللغة ذاتية وشخصية جدا، تصبح غامضة كالعالم الداخلي الذي يتجلى فيها، توحي أكثر مما تقول، وتزخر بأكثر مما تعد به. وتتم عملية الهدم والبناء على كل المستويات الإيقاعية والتركيبية والدلالية. إيقاعيـا: تخلت القصيدة الجديدة عن أن تكون تمارين في الوزن والقافية، وأن تصب في قوالب علمية صارمة. ذلك أن تحديد الشعر بالوزن والقافية في تصور أدونيس تحديد خارجي وسطحي مناقض للشعر. إنه تحديد للنظم لا للشعر. وقد اختار الشعر الحديث حرية الاختيار بدل الالتزام بالعروض الخليلي، اختيار الشكل الملائم للتجربة الإنسانية. وبذلك يتحول الإيقاع إلى دال نصي نابع من خصائص الكلمات الصوتية أو الموسيقية. تركيبيـا: فقدت علامات الترقيم وظيفتها في تقسيم النص إلى جمل نحوية ودلالية، وحلت محلها قوانين مرنة ترتبط بالانسجام الإيقاعي المتولد عن التجربة الشعرية. فجمال اللغة عند أدونيس يعود إلى نظام المفردات، وهو نظام لا يتحكم فيه النحو بل الانفعال والتجربة. دلاليـا: تفقد الكلمات في سياقها الشعري معانيها المعجمية لتشحن بمعان جديدة، كما تفقد الجمل معانيها العقلية المنطقية لتشحن بما لا يقبله التفكير المنطقي. فكما أن لغة الوحي ولغة الكهانة غامضة، وتحتاج دائما إلى وسيط يؤولها ويفكك شفراتها، فكذلك لغة الشعر، لا بد لها من قارئ مبدع قادر على قراءة صورها وتفكيك رموزها. كما رفضت الحداثة الرؤية والوزن والقافية واللغة المشتركة المتداولة، رفضت الأشكال التعبيرية الموروثة، لأنها أشكال قبلية تحد من حرية الشاعر وتخضعه للإنسان المعمم. والشاعر الحديث كما يرى أدونيس لا يريد أن يحيا حياة أي شاعر مهما بلغت من العظمة لأنه يريد أن يحيا حياته هو. وقبول الأشكال الموروثة يعني العيش في جلباب الأسلاف وأسبقية الماهية على الوجود، في حين أن الاتجاه الحداثي يرى العكس تماما. فالقصيدة الحداثية لا ماهية لها قبل تشكلها، أو كما قال أدونيس: "القصيدة الحديثة لا تسكن أي شكل، وهي جاهدة أبدا في الهرب من كل أنواع الانحباس في أوزان وإيقاعات محددة بحيث يتاح لها أن تكشف بشكل أشمل عن الإحساس بتموج العالم والإنسان الذي لا يدرك إدراكا كليا ونهائيا[17]". انطلاقا من هذا التصور، انتقل الشعر من البيت العمودي المبني على منوال الخيمة العربية، إلى أشكال جديدة أهمها قصيدة النثر. يتبع من حكم المتنبي ولم أرى في عيوب الناس عيبا = كنقص القادرين على التمام
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|