العودة   منتديات مدينة السوق > القسم التاريخي > المنتدى التاريخي

المنتدى التاريخي منتدى يهتم بتاريخ إقليم أزواد .

Untitled Document
إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 08-16-2012, 11:57 PM
مراقب عام
السوقي غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 17
 تاريخ التسجيل : Dec 2008
 فترة الأقامة : 5815 يوم
 أخر زيارة : 09-26-2024 (03:00 PM)
 المشاركات : 165 [ + ]
 التقييم : 10
 معدل التقييم : السوقي is on a distinguished road
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي موريتانيا وأزواد/بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل



محمد يحظيه ولد ابريد الليل يكتب : موريتانيا وازواد “1″
بدأ الكاتب المخضرم الجزء الأول من السلسلة التي عنوانها ب “موريتانيا وأزواد” بالحديث عن التغلغل الاستعماري في موريتانيا، وكيف أن كابولاني حاول أن يحتل موريتانيا من خلال إقليم أزواد، وعجز عن تنفيذ خطته هذه بسبب عدم القدرة على تأمين خطوط اتصال.

أو طرق إمداد فاختار الطريق الأسلم من خلال الجارة السنغال التي يحتلها الفرنسيون آن ذاك منذ ما يقرب من قرن.

كما عرج الكاتب في هذه الأثناء على الجهود الكبيرة التي بذلها الشيخ ماء العينين بالتعاون مع ملوك المغرب في سبيل صد التغلغل الاستعماري.

وتحدث بعد ذلك عن خطة كابولاني في التغلغل السلمي في البلد من خلال الاستيلاء على عقول وقلوب قادة الرأي في البلد، والتأكيد باستمرار على عدم عداوة فرنسا للإسلام، وتدليلا على ذلك “قام بتوزيع عدد من كتب المتصوفة مثل دليل الخيرات وكتب الجزولي وغيرها” حسب تعبير الكاتب

وانتقد ولد ابريد الليل بعد ذلك بشدة تجاهل قادة البلد على مدى الخمسين عاما لمنطقة أزواد التي يري السياسي المعروف أنها تجتمع مع البلد في عدد كبير من الأمور، وأرجع جزء كبيرا من ذلك إلى أن قادة البلد لم يكونوا يستشيرون أحدا في رسم سياساتهم بل يرون أن مثل هذه الاستشارة تنقص من قدر الرئيس. ولم يثر اهتمامنا لهذه المنطقة المهمة لنا إلا ما حدث من أحداث في الآونة الأخيرة، فأصبحنا فجأة ندرك أن هناك جارا لنا اسمه أزواد، كما لو أنه هناك جدار سميك يمنعنا من التواصل مع هذه المنطقة.

وتوقف الكاتب عند ما تعرضت له هذه المنطقة خلال الخمسين سنة هي عمر الدولة الموريتانية من ظلم وضغوط “دون أن يثيرنا ذلك” حسب تعبير الكاتب مرجعا ذلك إلى أنه قد تكون هناك أشياء حدثت في مناطق أقرب منعتنا من سماع ما يحدث هناك.

ولد ابريد الليل أسقط نفس الوضع على الصحراء الغربية التي اعتبر أن الدولة تجاهلتها طويلا أكثر من 18 سنة من الاستقلال، قبل أن تقيم فيها ما وصفها ب “مسرحية هزلية أعاقتنا عن الاهتمام بهذا الجزء من الإقليم”

ودلل الكاتب على ذلك بما وصفها ب”الحركة التي قام بها عدد من الصحراويين والموريتانيين في العام 1970من القرن الماضي من أجل التوعية بضرورة استقلال الصحراء عن إسبانيا، لكن هذه الحركة لقيت كل التجاهل من الحكومة الموريتانية حتى قتل رئيسها تحت التعذيب من قبل الإسبان دون أن تنبس حكومتنا ببنت شفة، بل أكثر من ذلك تعرضت مظاهرات هذه الحركة في انواكشوط إلى القمع من قبل الشرطة الموريتانية” حسب تعبيره

وأضاف الكاتب “ولو فرضنا أن ما بذلته الحكومة الموريتانية من جهد ومال ورجال في حرب الصحراء ذهب جزء قليل منه إلى العمل في ذلك الوقت من أجل جلاء الاستعمار الإسباني لكان الوضع مختلفا تماما الآن، وخصوصا على المستوى الأخلاقي”

ويضيف ولد ابريد الليل “لقد كانت سياسة موريتانيا تجاه الصحراء بعيدة كل البعد عن الاتجاه الصحيح، وهو ما أدى بنا في النهاية إلى أن ندخل في متاهة لن نخرج منها أبدا” وبرر ولد ابريد الليل-وهو للتذكير أحد قادة الجناح المدني لانقلاب العاشر من يوليو- ماقام به قادة هذا الانقلاب من انسحاب من نزاع الصحراء بأنه كان ضروريا لوقف حمام الدم، ومع ذلك فإنه لم يصلح ما فسد من قبل، فقد اتسع الخرق على الراقع، فقد انقطعت أواصر الأخوة بيننا” حسب تعبيره

وختم ولد ابريد الليل الحلقة الأولى من السلسلة بقوله “إن من أسسوا بناء الدولة وضعوا قاعدة تقول: القضايا الخطيرة أولى من القضايا الكبيرة، فليس علينا أن نناقش مستقبلنا البعيد وأن نضع الرؤي السياسية له، فكل هذه الأمور موكولة إلى القائد المتفرد، وكل من جاءوا إلى الحكم كانوا يقومون بإطفاء الحرائق المشتعلة لا أكثر، ويجرون وراءهم تقاليد موروثة، ومساعدين لمن قبلهم لا يزالون حاضرين في المشهد، ويتبعون سياسة أن الصمت أبلغ من الكلام”.
****************
موريتانيا وأزواد/بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل (الحلقة الثانية)
الثلاثاء, 14 أغسطس 2012 22:28محمد يحظيه ولد ابريد الليل يكتب : موريتانيا وازواد “1″
كتبت منذ 6 أيام مضت | 0 تعليق
بدأ الكاتب المخضرم الجزء الأول من السلسلة التي عنوانها ب “موريتانيا وأزواد” بالحديث عن التغلغل الاستعماري في موريتانيا، وكيف أن كابولاني حاول أن يحتل موريتانيا من خلال إقليم أزواد، وعجز عن تنفيذ خطته هذه بسبب عدم القدرة على تأمين خطوط اتصال.

أو طرق إمداد فاختار الطريق الأسلم من خلال الجارة السنغال التي يحتلها الفرنسيون آن ذاك منذ ما يقرب من قرن.

كما عرج الكاتب في هذه الأثناء على الجهود الكبيرة التي بذلها الشيخ ماء العينين بالتعاون مع ملوك المغرب في سبيل صد التغلغل الاستعماري.

وتحدث بعد ذلك عن خطة كابولاني في التغلغل السلمي في البلد من خلال الاستيلاء على عقول وقلوب قادة الرأي في البلد، والتأكيد باستمرار على عدم عداوة فرنسا للإسلام، وتدليلا على ذلك “قام بتوزيع عدد من كتب المتصوفة مثل دليل الخيرات وكتب الجزولي وغيرها” حسب تعبير الكاتب

وانتقد ولد ابريد الليل بعد ذلك بشدة تجاهل قادة البلد على مدى الخمسين عاما لمنطقة أزواد التي يري السياسي المعروف أنها تجتمع مع البلد في عدد كبير من الأمور، وأرجع جزء كبيرا من ذلك إلى أن قادة البلد لم يكونوا يستشيرون أحدا في رسم سياساتهم بل يرون أن مثل هذه الاستشارة تنقص من قدر الرئيس. ولم يثر اهتمامنا لهذه المنطقة المهمة لنا إلا ما حدث من أحداث في الآونة الأخيرة، فأصبحنا فجأة ندرك أن هناك جارا لنا اسمه أزواد، كما لو أنه هناك جدار سميك يمنعنا من التواصل مع هذه المنطقة.

وتوقف الكاتب عند ما تعرضت له هذه المنطقة خلال الخمسين سنة هي عمر الدولة الموريتانية من ظلم وضغوط “دون أن يثيرنا ذلك” حسب تعبير الكاتب مرجعا ذلك إلى أنه قد تكون هناك أشياء حدثت في مناطق أقرب منعتنا من سماع ما يحدث هناك.

ولد ابريد الليل أسقط نفس الوضع على الصحراء الغربية التي اعتبر أن الدولة تجاهلتها طويلا أكثر من 18 سنة من الاستقلال، قبل أن تقيم فيها ما وصفها ب “مسرحية هزلية أعاقتنا عن الاهتمام بهذا الجزء من الإقليم”

ودلل الكاتب على ذلك بما وصفها ب”الحركة التي قام بها عدد من الصحراويين والموريتانيين في العام 1970من القرن الماضي من أجل التوعية بضرورة استقلال الصحراء عن إسبانيا، لكن هذه الحركة لقيت كل التجاهل من الحكومة الموريتانية حتى قتل رئيسها تحت التعذيب من قبل الإسبان دون أن تنبس حكومتنا ببنت شفة، بل أكثر من ذلك تعرضت مظاهرات هذه الحركة في انواكشوط إلى القمع من قبل الشرطة الموريتانية” حسب تعبيره

وأضاف الكاتب “ولو فرضنا أن ما بذلته الحكومة الموريتانية من جهد ومال ورجال في حرب الصحراء ذهب جزء قليل منه إلى العمل في ذلك الوقت من أجل جلاء الاستعمار الإسباني لكان الوضع مختلفا تماما الآن، وخصوصا على المستوى الأخلاقي”

ويضيف ولد ابريد الليل “لقد كانت سياسة موريتانيا تجاه الصحراء بعيدة كل البعد عن الاتجاه الصحيح، وهو ما أدى بنا في النهاية إلى أن ندخل في متاهة لن نخرج منها أبدا” وبرر ولد ابريد الليل-وهو للتذكير أحد قادة الجناح المدني لانقلاب العاشر من يوليو- ماقام به قادة هذا الانقلاب من انسحاب من نزاع الصحراء بأنه كان ضروريا لوقف حمام الدم، ومع ذلك فإنه لم يصلح ما فسد من قبل، فقد اتسع الخرق على الراقع، فقد انقطعت أواصر الأخوة بيننا” حسب تعبيره

وختم ولد ابريد الليل الحلقة الأولى من السلسلة بقوله “إن من أسسوا بناء الدولة وضعوا قاعدة تقول: القضايا الخطيرة أولى من القضايا الكبيرة، فليس علينا أن نناقش مستقبلنا البعيد وأن نضع الرؤي السياسية له، فكل هذه الأمور موكولة إلى القائد المتفرد، وكل من جاءوا إلى الحكم كانوا يقومون بإطفاء الحرائق المشتعلة لا أكثر، ويجرون وراءهم تقاليد موروثة، ومساعدين لمن قبلهم لا يزالون حاضرين في المشهد، ويتبعون سياسة أن الصمت أبلغ من الكلام”.
موريتانيا وأزواد/بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل (الحلقة الثانية)
الثلاثاء, 14 أغسطس 2012 22:28
altالذين يصرخون على أي حال، "الكياسة هبة الطبيعة"، كما يقول باسكال. لقد كان الاعتقاد سائدا إلى وقت قريب، بأن أول واجبات رجل السياسة، معرفة ضرورة الاعتدال، وأن يرسم لنفسه حدودا فليس كل من وجد أمامه مكبرا للصوت، أو حاز مأمورية انتخابية وتمتع بحصانة قانونية، أو انعدم لديه الخوف من الإلقاء في السجن بضع سنين، كما كان يحدث في الفترات الماضية.. عليه أن يتفوه بكل مكبوتاته من الشتائم والسّباب. التهتّـك جعل البعض يصرخون في مكبرات الصوت، مع العلم أنها لم تخترع إلا لتغني عن ذلك الصراخ، إن الحجة، أي الفكرة التي تهدف إلى الإقناع، غنية عن الصراخ، لأنها موجهة للعقول لا إلى الآذان.
رجل الصراخ لا يوثق به. من يقذف بكل ما يجيش في نفسه من جيد أو ردئ لم يخلق للسياسة. فضلا عن ذلك هل كل ما ليس محرما هو مباح؟ كان الشيخ آمادو مؤسس امبراطورية ماسينا الفلاَّنية رجلا ورعا مستقيما، زاهدا. وكان يَسُوس دولته بواسطة مجلس علمي من ستين فقيها يحيطون به بصفة دائمة ويقررون كل شيء، كانوا متشددين حَرْفيين يقلدون نظام المدينة المنورة أيام الخلفاء الأولين. بالنسبة لهم الأمور بسيطة إما محرمة أو مباحة. لقد قال رينيه كاييه المعروف في مجتمعنا بـ"ولد كيج" الذي جاب الساحل وعبر الصحراء، حوالي 1824-1828 "إن الفلان أشد تعصبا من البيضان". للشيخ آمادو -إضافة إلى ما ذكرنا- ميزة أخرى هي الذكاء. كان يعرف أن الأمور ليست بالبساطة التي يراها الفقهاء. ولكي يفتح أعينهم أمر يوما بإعداد مائدة من اللحم أضاف إليها لحم الضب والجراد وحشرات أخرى. ودعاهم للأكل، فقالوا إنهم لا يأكلون مثل هذه اللحوم. فقال الشيخ إن الشرع لا يحرم أكلها!. فقالوا: نعلم ذلك! فقال: "إذن هناك أشياء لا يحرمها الشرع ومع ذلك يتعين علينا تركها.. وهذا ماعلينا أخذه في الحسبان مستقبلا". إن السياسة - من حيث هي رسالة - من أسمى وأجزل ما أنتجه البشر. صحيح أن الفلسفة تحوم فوقها، إلا أنهما تلتقيان عند مستوى معين. لأنه، "في السياسة، تتلخص الفلسفة" كما يقول اغرامشي. ويذهب ماركيز، أبعد من ذلك ويعكسه قائلا: " إن دور السياسة هو تحليل مضامين المفاهيم الفلسفية، للوصول إلى حقيقة غير مشوهة". إنها إنسانوية النهضة الأوروبية التي جاءت بهذا الربط الرائع، جاعلة من الإنسان قيمة عليا. أما الأيديولوجيا، فجاءت بعد ذلك بكثير، من أجل إضفاء التماسك والانسجام على المبادئ السياسية، وربط الوسائل بالغايات وجعلهما أكثر تطابقا. كثيرا ما يوردون علم الاقتصاد إلى جانب السياسة. إن ذلك خال من المعنى. إن الاقتصاد هو خادم للنظام الاجتماعي السائد. القانون هو الآخر مجرد خادم بسيط لذلك النظام. أما السياسة، فهي ساحرة. مكانُها سماء المعارف، في تلك المجرة حيث الشعر وربما السحر، لا لقيمة الأخيرين وقدرهما، وإنما لاستقلاليتهما واستبدادهما. أي جامعة تمنح شهادات الشعر والسحر، ستتعرض للسخرية والاستهزاء، علما بأن الشعر يُدْرَسُ ويُدَرَّسُ. ورغم ذلك يبقى من الأهمية بمكان، لمن أراد قرض الشعر، أن يصاحب نزار قباني أو أدونيس ردحا من الزمن، أو يعرف كيف يتآلف مع شعرهما، بدلا من حضور تلك الدروس. السحر أيضا، يُدْرَسُ و يُدَرَّسُ. وقد أخذ ابن خلدون دروسا منه، وسطر شيئا من ذلك في كتاباته، دون أن يكون هو نفسه ساحرا. إن الساحر المبتدئ يحتاج إلى كبير السحرة لإرشاده وحمايته من خطر المثل المأثور:أن "ينقلب السحر على الساحر"، أي أن يطلق أحداثا ليس هو سيد الموقف فيها ويمكن أن تودي به. فهاجسُ الخوف من مثل تلك المغامرات، ينبغي أن يكون حاضرا - أكثر من أي هاجس آخر- في أذهان الساسة الناشئين، فضلا عن الكُمَّل. فرجل السياسة مشدود دائما بلجامين متينين: أولهما الاحتراز من المغامرة، التي هي ليست الجراءة، حسب اكلوزوفيتش الذي يرى أن "الجرأة القصوى، قد تتفق مع الحكمة القصوى أحيانا ". أما اللجام الثاني، فهو التمسك بالأخلاقيات التي تحكم دائما السياسة الرفيعة. لا أحد يشبه رجل السياسة عندما يتفانى في العمل، بقلبه وقالبه، كالذي يحاول استرجاع بيته الشخصي المغتصب من طرف الغير، لا يدَّخر وقتا ولا تعوقه أي منفعة شخصية، مضحيا بحياته الخاصة وأحيانا بحريته، فقط من أجل مصير أفضل لملايين البؤساء، الذين لا يعون أي حق لهم ولا يميزون، سحقهم الاحباط والاستسلام للقدر. يعرفون شيئا واحدا فقط هو: أن هناك ظلما نازلا من السماء لا مرد له، تنفذه بكل دقة ومثابرة أيادي بشرية. هذه قمة في الفضل. لحد الآن لا يوجد أعلى منها في سلم القيم الإنسانية، إنها أرفع حتى من محكوم بالإعدام يقال له أنت حر طليق. شيء مثل هذا لا يداس بالأقدام إلا في المجتمعات التي تحتقر الفلسفة وتنكر قيمة الإنسان. إن مجالا كهذا يتطلب كمّا من المؤهلات الذهنية، كرجاحة العقل وعمق التفكير ونعومة التصرفات، وكثيرا أيضا من القيم القلبية كالثقة في الفطرة الطيبة للإنسان وقدرته على التطور نحو الأحسن، إضافة إلى احترام الغير والزهد والتواضع ... فهل يمكن لمثل هذا المجال أن يتحول، بين أيدينا، إلى بهلوانيات تنتج رجالا بلا قيم؟. يعتقد توكفيل أنه في بعض البلدان التي احترقت بنيتها الاجتماعية "تسقط الطبقة السياسية في الهمجية في الوقت الذي يجنح فيه المجتمع المدني نحو التنوُّع". حتى في وقت الحرب، لا يُعفى الرجال أنفسَهم من التقيد بقيمهم الرفيعة، وأساسِ وجودِهم الذي جعلهم ما هم عليه - بعبارة أخرى- منحهم شرعيتهم. إننا نتخذ مواقف ونقْدم على تصرفات، لقناعتنا بأن الآخرين يشرعون لنا ذلك. وإذا كان هذا المكسب الضمني غير موجود، أو لم يعد موجودا، أو تضرر بتصرفات قادحة، فنحن فاقدو الشرعية. ولسنا بحاجة هنا إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من اللعبة، لأن الانسحاب يتسلل من تلقاء نفسه إلى الأذهان، وذلك أوضح وأبلغ من الإعلان الشكلي الصارخ. في غمار الثورة العربية الكبرى التي أطلقها شريف مكة عام 1916، من أجل تحرير العرب من قبضة الترك، علم الأمير فيصل، ابن الشريف، بأن الحامية التركية بالمدينة والتي يحاصرها، تعاني من نقص فظيع في مادة التبغ. وبما أنه كان مدخنا كبيرا، لم يحتمل تلك المعاناة النفسية التي يكابدها أعداؤه، فما كان منه إلا أن أرسل لهم عدة جمال محملة بالتبغ مع الاعتذار لهم. وذات مساء من أماسي حرب الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي المغربي ، كان أحد الضباط الفرنسيين يستقبل بعثة من الثوار الوطنيين في الجبل، وفجأة تعرض مركز القيادة الاستعمارية للهجوم من طرف مجموعة من الثوار لم تكن على علم بالمفاوضات. فطلب الضابط الفرنسي من الثوار أن يغادروا على عجل، فأجابوه بأن شرفهم لا يسمح لهم بتركه في مثل تلك الوضعية، لأنهم كانوا ضيوفا عنده. فما كان منهم إلا أن قاتلوا إخوانهم، حتى أنقذوا مركز قيادة العدو، وبعدها لحقوا برجال المقاومة. وأثناء الحملات المتتالية التي خاضها ملك السويد اللامع، شارل الثاني عشر، ضد روسيا، كان القيصر بطرس الأكبر يحشد كل قواته في جبهة واسعة لصد هجوم خصمه المتقد. فكان هذا الأخير يلاحظ كل مرة رقة وهزال خط الدفاع الذي يواجهه، فيدفع بجيشه لإحداث ثغرة ويلتف على الجيش الروسي، وفي كل مرة يحصل تحطم تام للمُدافع. وفي كل مرة يبعث الملك أسراه إلى بلده السويد باستثناء الجنرالات الذين يعيدهم إلى القيصر مع التهاني. لأنه يرى من غير اللائق حرمان عدوه في الحملة القادمة من قيادة بهذا المستوى من المثابرة، وبعد سلسلة من الهزائم للجيش الروسي، أوحى أحد هؤلاء الجنرالات لبطرس الأكبر بأن تتابع النكسات قد يعود إلى أسلوبهم في القتال، وإنه سيكون من المفيد استبدال مبدأ الخط المتصل بنظام نقاط المقاومة المركزة، فقبل الاقتراح. عندها تكسر الهجوم السويدي على صخرة الدفاعات المدعمة الروسية، وأدى الهجوم المضاد للروس إلى سحق جيوش شارل الثاني عشر. وفي هذه المرة، أقام بطرس الأكبر حفل استقبال على شرف أسراه من الجنرالات السويديين ليرفع لهم الكأس قائلا: "على شرفكم أنتم أساتذتنا في فنون الحرب". هكذا يتم النصر والهزيمة، بكبرياء. كلا الخصمين باعترافه بقيمة الآخر وسلوكه النبيل ارتقى إلى قمة العزة. لم تنطو بوادر النبل هذه على أي مؤشر للصداقة، أو رغبة في السلام. لقد استطاع الرجلان- في هذا الجو من العداوة القصوى - أن يتجنبا كل ما من شأنه الحط من قيمتهما، فتفننا في البرهنة على أنهما أهل لما هما عليه من السمو. أولاد امبارك، أيضا، أحجموا مرة فيما يقال عن مهاجمة أعداء لهم، كانوا في متناول بنادقهم. والسبب أنهم لم يكونوا أتموا لبس سراويلهم. فما كان من أولاد امبارك إلا أن ولو ظهورهم لهؤلاء الخصوم كي يتمكنوا من لبس سراويلهم على الوجه الذي يريدون. لقد خافوا أن تلطخ الانتهازية سمعتهم، وأن يلاحقهم ذكر سيء، يتبعهم خلفا عن سلف. من ينظر اليوم إلى سمعته بهذا البعد. الغلو في السياسة يمكن استساغته على مستوى المبادئ، بل إنه - في بعض الظروف- فضيلة ومنقبة. هذا ما يسمى بالتطرف. وهو غير مستحسن في الفكر باتجاه اليمين، أما يسارا فهو مقبول لأنه لا ينفك عن العقل والأخلاق. فلا أحد أشد تطرفا من تروتسكي، على مستوى المبادئ. إلا أنه قل من يماثله في الانضباط والالتزام بالأخلاقيات السياسية. اتشي غيفارا أيضا، بإنسانيته الثورية، يعتبر مثالا حيا للتطرف اليساري. وكذلك ماركيز ونظريته النقدية الراديكالية. في المناهج يسمى التطرف اليساري، "الصبيانية" فهو يؤدي، في الغالب، إلى كوارث أو، يقود إلى طريق مسدود. أما التطرف اليميني في العمل، فيسمى بالفاشية، وقد ترسخت دلالته القدْحية المعروفة. أما التجاوزات اللفظية، فلا تنتمي حقيقة إلى مدرسة معينة. وإذا كان من الضروري إيجاد أصول مدرسية لها فلن يكون شيء أقرب لها من الفاشية، التي أفرطت في استعمالها عبر تاريخها. وفي المقابل، لن يكون من السهل بأي حال من الأحوال، ربط التجاوزات اللفظية بالديمقراطية الحقيقية، التي تأسست وعمت أوروبا مطلع القرن الماضي، بعد سقوط الامبراطوريات. لأن الميزة الأساسية لتلك الديمقراطية هي الاعتدال. فبدون الاعتدال، لا يمكن الوصول إلى الديمقراطية. إننا، وبكل بساطة عالقون ما بين ديكتاتوريتين، واحدة فررنا منها وأخرى نميل لها ونسعى إليها، بدقة الصائغ وصبر أيوب. للديمقراطية ضمانتان: الأولى، هي وجود طبقة سياسية واعية، قد راجعت نفسها وتكيفت ، وطوت نهائيا صفحة العنف اللفظي والجسدي. أما الثانية، فهي شعب مستنير، اختار وتذوق طعم الأساليب الهادئة، ويمنح ثقته نهائيا للطبقة السياسية العاملة وأطروحاتها، لأنها جديرة بذلك. وهو أمر يختلف عن التعلق بزعيم سياسي، فالتعلق بزعيم سياسي معين لا يحسم أمرا ولا يعني ثقة الشعب في طبقته السياسية. فتعلق الجماهير وثقتها في أدولف هتلر، أيام جمهورية ويمار، لم يكن مؤشرا على ثقتها في الطبقة السياسية هناك، وإنما العكس هو الصحيح. وهذا بالذات ما أحل الدمار بتلك الجمهورية المثالية، في نصوصها وسيرها. قد لا نصوت لزعيم ما، لكننا نثق به نثق بأنه ليس حاقدا ولا سيء النية ولا انتقاميا. وبمعنى آخر، هو مأمون الشر، كل المشكلة هي: مأمون الشر؟! إن الذين يصفون أنفسهم، أو يوصفون بأنهم معارضة راديكالية، تضيع أفكارهم في سيل الكلام المفرط والتخمينات والشعارات. ولذلك، لمّا تناولوا موضوعا أساسيا في حياة الشعب، مثل برنامج مساعدة المنمين ضاع كل ما تقدموا به من الكلام الصحيح أو المفيد، وسط الزبد. والأسوأ من ذلك، أن رحيل النظام، الذي اتخذوه شعارا أساسيا لهم، يتحركون تحت رايته، بعيد كل البعد عن الواقع.. لأنه لا تتوفر أي شروط ذاتية لتحققه. أما الشروط الموضوعية، فلا تسمح حتى بالتلميح إليه. ولا شك هنا، أن الذين لهم دراية بالنظرية السياسية من بين هؤلاء، كانوا مهمّشين وقت صياغة هذا الشعار، أو لم يجدوا من يصغي إليهم. ففي السياسة أوقات وحالات لا تسعفنا فيها الحِرفية السياسية، وتلفيق الهواة. إنها القصة نفسها التي تتكرر دائما، حيث الساسة الجادون - بطبعهم أو تكوينهم أو أفكارهم - يطغى عليهم صوت الآخرين, لأنه وسط الضوضاء، لا يسمع إلا صوت الذين يصرخون. لقد رفعوا سقف المطالب عاليا. والمشكل، أنه عندما لا نحقق هدفنا، فما سيأتي بعد ذلك خطير من الناحية السياسية. فإنه يسد الباب أمام المستقبل، فحتى الأفكار الواقعية والأهداف المعقولة، لم يعد أحد يأخذها بعين الجد أو يحسبها قابلة للتطبيق. إنه لمسعى خطير على المعارضة نفسها، وهو أشبه بالحجر الذي تحدث عنه قائد الصين العصرية، ماو سي تونغ. يقول ماو: إن القوة التي لا تتناغم مع زمانها تنكبُّ بيديها على صخرة الظلم الثقيلة، ترفعها بصعوبة فائقة وتوجب على نفسها أن تبلغ بها أقصى ارتفاع. عندما تصل مستوى الرأس يحس الساعدان بالإنهاك ويخذلانها. لم يعد لديهما من القوة ما يحفظها مرفوعة ولا ما ينزلها بأمان. الصخرة منفلتة لا محالة، ومحطمة للقدمين. هذا هو الخطر. إذا كان الناس قد اختاروا الديمقراطية وسعدوا بوجودها، فذلك لأنها هي الأمثل. لأنها نظام الحرية، ولأنها متلازمة مع العدالة ولأنها تسمح بحل المشاكل اليومية بطرق مرنة وفعّالة، أو لنقل: طرق آلية. فبدون هذا الوصف الأخير، لن نقترب من فهم المواطنين وتفهّمهم للديمقراطية. لكن مع اجتماع كل هذه الأمور، وأمور أخرى مهمة، فإننا إذا دخلنا حرب عصابات سياسية وقانونية وإجرائية هدفها العرقلة والتشويش، ولم يحصل لدينا الاتفاق على الأساسيات - كالدستور والقوانين والانتخابات، والمصالح العليا للبلد، ومن هو صاحب القرار- إذا لم يبق أي شيء من هذا ولم يعد هناك شخص محترم أو مهاب، وإذا بقينا نتشبث بالشكليات وثانويات الأمور، كلما أردنا معالجة مشاكل البلد، إذا أبقينا البلد في حالة دائمة التوتر، لا موضوع لها ولا مسوّغ، إذا كانت طاقة المسؤولين الرسميين وغير الرسميين واهتماماتهم منصبة على أومور لا معنى لها ولا فائدة فيها ... فإن الديمقراطية ستثبت عدم فاعليتها بل ضررها، وأنها أسلوب للحكم غير متكيف. وعندئذ، سيهجرها الكل، ويوليها ظهره، متجها نحو النقيض. عند ذلك ندشن مرحلة جديدة من الارتياب، غنية بالغموض. ومن الصعب الاعتقاد بأن البلد قادر على أن يتحمل - إلى الأبد- هذا التجمد والابتزاز بالخنق. هكذا زالت جمهورية ويمار الفاضلة الجميلة، لأنها أسست على مقاس أصحاب الفكر الرفيع، فاستطاعت ثلة من الأوغاد، بصناديق الاقتراع والشارع، أن تزيحها وتبني مكانها نقيضا، وسط حماس شعب سئم المماحكات والمناكفات الفارغة، ويريد العمل الجدي. المأساة أن طاقم ويمار، كان من ذوي الفكر الراقي، ولم يفكروا في أن تراكم التصرفات الجانبية والتسويف أمام الخطر، وعدم التصدي للإشكالات الأساسية وانعدام الوعي والمسؤولية لدى جماعة البرلمانيين "البيزنطيين"، إضافة إلى العجز عن اقتلاع وعزل أعداء الديمقراطية ... لم يدركوا أن كل هذه العوامل يمكن أن تقضي على نظام كامل، كان الشعب قد أجمع على اختياره في البداية، فأنتج له في آخر المطاف هذا الغول النازي. كانت الديمقراطية الألمانية راسخة. فالشعب مثقف والنخبة لامعة، إلا أن الطبقة السياسية لم تكن على مستوى ذلك البلد. أما ديمقراطيتنا فقد جاءت مهداة على نقالة، لم تفرضها أي قوة ولم تطالب بها، بصفة جدية، أي جهة. في عهد الحزب الواحد، كان هناك كم غفير من المعارضين، قدموا كل أشكال التصورات والأفكار، وكانت لهم مطالب لا حد لها، يناضلون من أجلها. غير أن الديمقراطية التعددية، لم تكن يوما ضن تلك المطالب. وكان النظام القائم آنذاك يعتبرها فكرة ومبدأ إجراميا، بنص الدستور والقوانين، وخيانة تهدف إلى شق الوحدة الوطنية للشعب الموريتاني. حتى إن نشر الفكر الماركسي والبعثي كان أقل خطرا حينئذ من الدعوة إلى الديمقراطية. والحقيقة، أن بعض الأشخاص، المعدودين على أصابع اليد، ظلوا يؤمنون بأن التعددية السياسية هي أمثل طريقة للحكم. من بين هؤلاء، كان المرحوم حمود ولد أحمدو، الرئيس السابق للجمعية الوطنية. شيخنا ولد محمد الأغظف، وزير الخارجية الأسبق. إسماعيل ولد أعمر، مؤسس شركة اسنيم. احمد ولد سيدي باب، وزير سابق. المرحوم با ممادو صمبابولي، رئيس سابق للجمعية الوطنية بالطبع لا يوجد هنا زحام .. إنها فقط شخصيات لم تستوعب يوما مبدأ الحزب الواحد.

altالذين يصرخون على أي حال، "الكياسة هبة الطبيعة"، كما يقول باسكال. لقد كان الاعتقاد سائدا إلى وقت قريب، بأن أول واجبات رجل السياسة، معرفة ضرورة الاعتدال، وأن يرسم لنفسه حدودا فليس كل من وجد أمامه مكبرا للصوت، أو حاز مأمورية انتخابية وتمتع بحصانة قانونية، أو انعدم لديه الخوف من الإلقاء في السجن بضع سنين، كما كان يحدث في الفترات الماضية.. عليه أن يتفوه بكل مكبوتاته من الشتائم والسّباب. التهتّـك جعل البعض يصرخون في مكبرات الصوت، مع العلم أنها لم تخترع إلا لتغني عن ذلك الصراخ، إن الحجة، أي الفكرة التي تهدف إلى الإقناع، غنية عن الصراخ، لأنها موجهة للعقول لا إلى الآذان.
رجل الصراخ لا يوثق به. من يقذف بكل ما يجيش في نفسه من جيد أو ردئ لم يخلق للسياسة. فضلا عن ذلك هل كل ما ليس محرما هو مباح؟ كان الشيخ آمادو مؤسس امبراطورية ماسينا الفلاَّنية رجلا ورعا مستقيما، زاهدا. وكان يَسُوس دولته بواسطة مجلس علمي من ستين فقيها يحيطون به بصفة دائمة ويقررون كل شيء، كانوا متشددين حَرْفيين يقلدون نظام المدينة المنورة أيام الخلفاء الأولين. بالنسبة لهم الأمور بسيطة إما محرمة أو مباحة. لقد قال رينيه كاييه المعروف في مجتمعنا بـ"ولد كيج" الذي جاب الساحل وعبر الصحراء، حوالي 1824-1828 "إن الفلان أشد تعصبا من البيضان". للشيخ آمادو -إضافة إلى ما ذكرنا- ميزة أخرى هي الذكاء. كان يعرف أن الأمور ليست بالبساطة التي يراها الفقهاء. ولكي يفتح أعينهم أمر يوما بإعداد مائدة من اللحم أضاف إليها لحم الضب والجراد وحشرات أخرى. ودعاهم للأكل، فقالوا إنهم لا يأكلون مثل هذه اللحوم. فقال الشيخ إن الشرع لا يحرم أكلها!. فقالوا: نعلم ذلك! فقال: "إذن هناك أشياء لا يحرمها الشرع ومع ذلك يتعين علينا تركها.. وهذا ماعلينا أخذه في الحسبان مستقبلا". إن السياسة - من حيث هي رسالة - من أسمى وأجزل ما أنتجه البشر. صحيح أن الفلسفة تحوم فوقها، إلا أنهما تلتقيان عند مستوى معين. لأنه، "في السياسة، تتلخص الفلسفة" كما يقول اغرامشي. ويذهب ماركيز، أبعد من ذلك ويعكسه قائلا: " إن دور السياسة هو تحليل مضامين المفاهيم الفلسفية، للوصول إلى حقيقة غير مشوهة". إنها إنسانوية النهضة الأوروبية التي جاءت بهذا الربط الرائع، جاعلة من الإنسان قيمة عليا. أما الأيديولوجيا، فجاءت بعد ذلك بكثير، من أجل إضفاء التماسك والانسجام على المبادئ السياسية، وربط الوسائل بالغايات وجعلهما أكثر تطابقا. كثيرا ما يوردون علم الاقتصاد إلى جانب السياسة. إن ذلك خال من المعنى. إن الاقتصاد هو خادم للنظام الاجتماعي السائد. القانون هو الآخر مجرد خادم بسيط لذلك النظام. أما السياسة، فهي ساحرة. مكانُها سماء المعارف، في تلك المجرة حيث الشعر وربما السحر، لا لقيمة الأخيرين وقدرهما، وإنما لاستقلاليتهما واستبدادهما. أي جامعة تمنح شهادات الشعر والسحر، ستتعرض للسخرية والاستهزاء، علما بأن الشعر يُدْرَسُ ويُدَرَّسُ. ورغم ذلك يبقى من الأهمية بمكان، لمن أراد قرض الشعر، أن يصاحب نزار قباني أو أدونيس ردحا من الزمن، أو يعرف كيف يتآلف مع شعرهما، بدلا من حضور تلك الدروس. السحر أيضا، يُدْرَسُ و يُدَرَّسُ. وقد أخذ ابن خلدون دروسا منه، وسطر شيئا من ذلك في كتاباته، دون أن يكون هو نفسه ساحرا. إن الساحر المبتدئ يحتاج إلى كبير السحرة لإرشاده وحمايته من خطر المثل المأثور:أن "ينقلب السحر على الساحر"، أي أن يطلق أحداثا ليس هو سيد الموقف فيها ويمكن أن تودي به. فهاجسُ الخوف من مثل تلك المغامرات، ينبغي أن يكون حاضرا - أكثر من أي هاجس آخر- في أذهان الساسة الناشئين، فضلا عن الكُمَّل. فرجل السياسة مشدود دائما بلجامين متينين: أولهما الاحتراز من المغامرة، التي هي ليست الجراءة، حسب اكلوزوفيتش الذي يرى أن "الجرأة القصوى، قد تتفق مع الحكمة القصوى أحيانا ". أما اللجام الثاني، فهو التمسك بالأخلاقيات التي تحكم دائما السياسة الرفيعة. لا أحد يشبه رجل السياسة عندما يتفانى في العمل، بقلبه وقالبه، كالذي يحاول استرجاع بيته الشخصي المغتصب من طرف الغير، لا يدَّخر وقتا ولا تعوقه أي منفعة شخصية، مضحيا بحياته الخاصة وأحيانا بحريته، فقط من أجل مصير أفضل لملايين البؤساء، الذين لا يعون أي حق لهم ولا يميزون، سحقهم الاحباط والاستسلام للقدر. يعرفون شيئا واحدا فقط هو: أن هناك ظلما نازلا من السماء لا مرد له، تنفذه بكل دقة ومثابرة أيادي بشرية. هذه قمة في الفضل. لحد الآن لا يوجد أعلى منها في سلم القيم الإنسانية، إنها أرفع حتى من محكوم بالإعدام يقال له أنت حر طليق. شيء مثل هذا لا يداس بالأقدام إلا في المجتمعات التي تحتقر الفلسفة وتنكر قيمة الإنسان. إن مجالا كهذا يتطلب كمّا من المؤهلات الذهنية، كرجاحة العقل وعمق التفكير ونعومة التصرفات، وكثيرا أيضا من القيم القلبية كالثقة في الفطرة الطيبة للإنسان وقدرته على التطور نحو الأحسن، إضافة إلى احترام الغير والزهد والتواضع ... فهل يمكن لمثل هذا المجال أن يتحول، بين أيدينا، إلى بهلوانيات تنتج رجالا بلا قيم؟. يعتقد توكفيل أنه في بعض البلدان التي احترقت بنيتها الاجتماعية "تسقط الطبقة السياسية في الهمجية في الوقت الذي يجنح فيه المجتمع المدني نحو التنوُّع". حتى في وقت الحرب، لا يُعفى الرجال أنفسَهم من التقيد بقيمهم الرفيعة، وأساسِ وجودِهم الذي جعلهم ما هم عليه - بعبارة أخرى- منحهم شرعيتهم. إننا نتخذ مواقف ونقْدم على تصرفات، لقناعتنا بأن الآخرين يشرعون لنا ذلك. وإذا كان هذا المكسب الضمني غير موجود، أو لم يعد موجودا، أو تضرر بتصرفات قادحة، فنحن فاقدو الشرعية. ولسنا بحاجة هنا إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من اللعبة، لأن الانسحاب يتسلل من تلقاء نفسه إلى الأذهان، وذلك أوضح وأبلغ من الإعلان الشكلي الصارخ. في غمار الثورة العربية الكبرى التي أطلقها شريف مكة عام 1916، من أجل تحرير العرب من قبضة الترك، علم الأمير فيصل، ابن الشريف، بأن الحامية التركية بالمدينة والتي يحاصرها، تعاني من نقص فظيع في مادة التبغ. وبما أنه كان مدخنا كبيرا، لم يحتمل تلك المعاناة النفسية التي يكابدها أعداؤه، فما كان منه إلا أن أرسل لهم عدة جمال محملة بالتبغ مع الاعتذار لهم. وذات مساء من أماسي حرب الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي المغربي ، كان أحد الضباط الفرنسيين يستقبل بعثة من الثوار الوطنيين في الجبل، وفجأة تعرض مركز القيادة الاستعمارية للهجوم من طرف مجموعة من الثوار لم تكن على علم بالمفاوضات. فطلب الضابط الفرنسي من الثوار أن يغادروا على عجل، فأجابوه بأن شرفهم لا يسمح لهم بتركه في مثل تلك الوضعية، لأنهم كانوا ضيوفا عنده. فما كان منهم إلا أن قاتلوا إخوانهم، حتى أنقذوا مركز قيادة العدو، وبعدها لحقوا برجال المقاومة. وأثناء الحملات المتتالية التي خاضها ملك السويد اللامع، شارل الثاني عشر، ضد روسيا، كان القيصر بطرس الأكبر يحشد كل قواته في جبهة واسعة لصد هجوم خصمه المتقد. فكان هذا الأخير يلاحظ كل مرة رقة وهزال خط الدفاع الذي يواجهه، فيدفع بجيشه لإحداث ثغرة ويلتف على الجيش الروسي، وفي كل مرة يحصل تحطم تام للمُدافع. وفي كل مرة يبعث الملك أسراه إلى بلده السويد باستثناء الجنرالات الذين يعيدهم إلى القيصر مع التهاني. لأنه يرى من غير اللائق حرمان عدوه في الحملة القادمة من قيادة بهذا المستوى من المثابرة، وبعد سلسلة من الهزائم للجيش الروسي، أوحى أحد هؤلاء الجنرالات لبطرس الأكبر بأن تتابع النكسات قد يعود إلى أسلوبهم في القتال، وإنه سيكون من المفيد استبدال مبدأ الخط المتصل بنظام نقاط المقاومة المركزة، فقبل الاقتراح. عندها تكسر الهجوم السويدي على صخرة الدفاعات المدعمة الروسية، وأدى الهجوم المضاد للروس إلى سحق جيوش شارل الثاني عشر. وفي هذه المرة، أقام بطرس الأكبر حفل استقبال على شرف أسراه من الجنرالات السويديين ليرفع لهم الكأس قائلا: "على شرفكم أنتم أساتذتنا في فنون الحرب". هكذا يتم النصر والهزيمة، بكبرياء. كلا الخصمين باعترافه بقيمة الآخر وسلوكه النبيل ارتقى إلى قمة العزة. لم تنطو بوادر النبل هذه على أي مؤشر للصداقة، أو رغبة في السلام. لقد استطاع الرجلان- في هذا الجو من العداوة القصوى - أن يتجنبا كل ما من شأنه الحط من قيمتهما، فتفننا في البرهنة على أنهما أهل لما هما عليه من السمو. أولاد امبارك، أيضا، أحجموا مرة فيما يقال عن مهاجمة أعداء لهم، كانوا في متناول بنادقهم. والسبب أنهم لم يكونوا أتموا لبس سراويلهم. فما كان من أولاد امبارك إلا أن ولو ظهورهم لهؤلاء الخصوم كي يتمكنوا من لبس سراويلهم على الوجه الذي يريدون. لقد خافوا أن تلطخ الانتهازية سمعتهم، وأن يلاحقهم ذكر سيء، يتبعهم خلفا عن سلف. من ينظر اليوم إلى سمعته بهذا البعد. الغلو في السياسة يمكن استساغته على مستوى المبادئ، بل إنه - في بعض الظروف- فضيلة ومنقبة. هذا ما يسمى بالتطرف. وهو غير مستحسن في الفكر باتجاه اليمين، أما يسارا فهو مقبول لأنه لا ينفك عن العقل والأخلاق. فلا أحد أشد تطرفا من تروتسكي، على مستوى المبادئ. إلا أنه قل من يماثله في الانضباط والالتزام بالأخلاقيات السياسية. اتشي غيفارا أيضا، بإنسانيته الثورية، يعتبر مثالا حيا للتطرف اليساري. وكذلك ماركيز ونظريته النقدية الراديكالية. في المناهج يسمى التطرف اليساري، "الصبيانية" فهو يؤدي، في الغالب، إلى كوارث أو، يقود إلى طريق مسدود. أما التطرف اليميني في العمل، فيسمى بالفاشية، وقد ترسخت دلالته القدْحية المعروفة. أما التجاوزات اللفظية، فلا تنتمي حقيقة إلى مدرسة معينة. وإذا كان من الضروري إيجاد أصول مدرسية لها فلن يكون شيء أقرب لها من الفاشية، التي أفرطت في استعمالها عبر تاريخها. وفي المقابل، لن يكون من السهل بأي حال من الأحوال، ربط التجاوزات اللفظية بالديمقراطية الحقيقية، التي تأسست وعمت أوروبا مطلع القرن الماضي، بعد سقوط الامبراطوريات. لأن الميزة الأساسية لتلك الديمقراطية هي الاعتدال. فبدون الاعتدال، لا يمكن الوصول إلى الديمقراطية. إننا، وبكل بساطة عالقون ما بين ديكتاتوريتين، واحدة فررنا منها وأخرى نميل لها ونسعى إليها، بدقة الصائغ وصبر أيوب. للديمقراطية ضمانتان: الأولى، هي وجود طبقة سياسية واعية، قد راجعت نفسها وتكيفت ، وطوت نهائيا صفحة العنف اللفظي والجسدي. أما الثانية، فهي شعب مستنير، اختار وتذوق طعم الأساليب الهادئة، ويمنح ثقته نهائيا للطبقة السياسية العاملة وأطروحاتها، لأنها جديرة بذلك. وهو أمر يختلف عن التعلق بزعيم سياسي، فالتعلق بزعيم سياسي معين لا يحسم أمرا ولا يعني ثقة الشعب في طبقته السياسية. فتعلق الجماهير وثقتها في أدولف هتلر، أيام جمهورية ويمار، لم يكن مؤشرا على ثقتها في الطبقة السياسية هناك، وإنما العكس هو الصحيح. وهذا بالذات ما أحل الدمار بتلك الجمهورية المثالية، في نصوصها وسيرها. قد لا نصوت لزعيم ما، لكننا نثق به نثق بأنه ليس حاقدا ولا سيء النية ولا انتقاميا. وبمعنى آخر، هو مأمون الشر، كل المشكلة هي: مأمون الشر؟! إن الذين يصفون أنفسهم، أو يوصفون بأنهم معارضة راديكالية، تضيع أفكارهم في سيل الكلام المفرط والتخمينات والشعارات. ولذلك، لمّا تناولوا موضوعا أساسيا في حياة الشعب، مثل برنامج مساعدة المنمين ضاع كل ما تقدموا به من الكلام الصحيح أو المفيد، وسط الزبد. والأسوأ من ذلك، أن رحيل النظام، الذي اتخذوه شعارا أساسيا لهم، يتحركون تحت رايته، بعيد كل البعد عن الواقع.. لأنه لا تتوفر أي شروط ذاتية لتحققه. أما الشروط الموضوعية، فلا تسمح حتى بالتلميح إليه. ولا شك هنا، أن الذين لهم دراية بالنظرية السياسية من بين هؤلاء، كانوا مهمّشين وقت صياغة هذا الشعار، أو لم يجدوا من يصغي إليهم. ففي السياسة أوقات وحالات لا تسعفنا فيها الحِرفية السياسية، وتلفيق الهواة. إنها القصة نفسها التي تتكرر دائما، حيث الساسة الجادون - بطبعهم أو تكوينهم أو أفكارهم - يطغى عليهم صوت الآخرين, لأنه وسط الضوضاء، لا يسمع إلا صوت الذين يصرخون. لقد رفعوا سقف المطالب عاليا. والمشكل، أنه عندما لا نحقق هدفنا، فما سيأتي بعد ذلك خطير من الناحية السياسية. فإنه يسد الباب أمام المستقبل، فحتى الأفكار الواقعية والأهداف المعقولة، لم يعد أحد يأخذها بعين الجد أو يحسبها قابلة للتطبيق. إنه لمسعى خطير على المعارضة نفسها، وهو أشبه بالحجر الذي تحدث عنه قائد الصين العصرية، ماو سي تونغ. يقول ماو: إن القوة التي لا تتناغم مع زمانها تنكبُّ بيديها على صخرة الظلم الثقيلة، ترفعها بصعوبة فائقة وتوجب على نفسها أن تبلغ بها أقصى ارتفاع. عندما تصل مستوى الرأس يحس الساعدان بالإنهاك ويخذلانها. لم يعد لديهما من القوة ما يحفظها مرفوعة ولا ما ينزلها بأمان. الصخرة منفلتة لا محالة، ومحطمة للقدمين. هذا هو الخطر. إذا كان الناس قد اختاروا الديمقراطية وسعدوا بوجودها، فذلك لأنها هي الأمثل. لأنها نظام الحرية، ولأنها متلازمة مع العدالة ولأنها تسمح بحل المشاكل اليومية بطرق مرنة وفعّالة، أو لنقل: طرق آلية. فبدون هذا الوصف الأخير، لن نقترب من فهم المواطنين وتفهّمهم للديمقراطية. لكن مع اجتماع كل هذه الأمور، وأمور أخرى مهمة، فإننا إذا دخلنا حرب عصابات سياسية وقانونية وإجرائية هدفها العرقلة والتشويش، ولم يحصل لدينا الاتفاق على الأساسيات - كالدستور والقوانين والانتخابات، والمصالح العليا للبلد، ومن هو صاحب القرار- إذا لم يبق أي شيء من هذا ولم يعد هناك شخص محترم أو مهاب، وإذا بقينا نتشبث بالشكليات وثانويات الأمور، كلما أردنا معالجة مشاكل البلد، إذا أبقينا البلد في حالة دائمة التوتر، لا موضوع لها ولا مسوّغ، إذا كانت طاقة المسؤولين الرسميين وغير الرسميين واهتماماتهم منصبة على أومور لا معنى لها ولا فائدة فيها ... فإن الديمقراطية ستثبت عدم فاعليتها بل ضررها، وأنها أسلوب للحكم غير متكيف. وعندئذ، سيهجرها الكل، ويوليها ظهره، متجها نحو النقيض. عند ذلك ندشن مرحلة جديدة من الارتياب، غنية بالغموض. ومن الصعب الاعتقاد بأن البلد قادر على أن يتحمل - إلى الأبد- هذا التجمد والابتزاز بالخنق. هكذا زالت جمهورية ويمار الفاضلة الجميلة، لأنها أسست على مقاس أصحاب الفكر الرفيع، فاستطاعت ثلة من الأوغاد، بصناديق الاقتراع والشارع، أن تزيحها وتبني مكانها نقيضا، وسط حماس شعب سئم المماحكات والمناكفات الفارغة، ويريد العمل الجدي. المأساة أن طاقم ويمار، كان من ذوي الفكر الراقي، ولم يفكروا في أن تراكم التصرفات الجانبية والتسويف أمام الخطر، وعدم التصدي للإشكالات الأساسية وانعدام الوعي والمسؤولية لدى جماعة البرلمانيين "البيزنطيين"، إضافة إلى العجز عن اقتلاع وعزل أعداء الديمقراطية ... لم يدركوا أن كل هذه العوامل يمكن أن تقضي على نظام كامل، كان الشعب قد أجمع على اختياره في البداية، فأنتج له في آخر المطاف هذا الغول النازي. كانت الديمقراطية الألمانية راسخة. فالشعب مثقف والنخبة لامعة، إلا أن الطبقة السياسية لم تكن على مستوى ذلك البلد. أما ديمقراطيتنا فقد جاءت مهداة على نقالة، لم تفرضها أي قوة ولم تطالب بها، بصفة جدية، أي جهة. في عهد الحزب الواحد، كان هناك كم غفير من المعارضين، قدموا كل أشكال التصورات والأفكار، وكانت لهم مطالب لا حد لها، يناضلون من أجلها. غير أن الديمقراطية التعددية، لم تكن يوما ضن تلك المطالب. وكان النظام القائم آنذاك يعتبرها فكرة ومبدأ إجراميا، بنص الدستور والقوانين، وخيانة تهدف إلى شق الوحدة الوطنية للشعب الموريتاني. حتى إن نشر الفكر الماركسي والبعثي كان أقل خطرا حينئذ من الدعوة إلى الديمقراطية. والحقيقة، أن بعض الأشخاص، المعدودين على أصابع اليد، ظلوا يؤمنون بأن التعددية السياسية هي أمثل طريقة للحكم. من بين هؤلاء، كان المرحوم حمود ولد أحمدو، الرئيس السابق للجمعية الوطنية. شيخنا ولد محمد الأغظف، وزير الخارجية الأسبق. إسماعيل ولد أعمر، مؤسس شركة اسنيم. احمد ولد سيدي باب، وزير سابق. المرحوم با ممادو صمبابولي، رئيس سابق للجمعية الوطنية بالطبع لا يوجد هنا زحام .. إنها فقط شخصيات لم تستوعب يوما مبدأ الحزب الواحد.



 توقيع : السوقي

من حكم المتنبي
ولم أرى في عيوب الناس عيبا = كنقص القادرين على التمام

رد مع اقتباس
قديم 08-17-2012, 12:00 AM   #2
مراقب عام


الصورة الرمزية السوقي
السوقي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 17
 تاريخ التسجيل :  Dec 2008
 أخر زيارة : 09-26-2024 (03:00 PM)
 المشاركات : 165 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: موريتانيا وأزواد/بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل




موريتانيا وأزواد/ بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل ( الحلقة الثالثة )

- تورية الإمام ألغى الإعلان التمهيدي لحركة العاشر من يوليو 1978 لأول مرة، تجريم مبدأ الديمقراطية التعددية -إن جاز هذا التعبير- على أمواج الإذاعة الوطنية من خلال التصريح بأن هذا المبدأ يشكل أحد أهداف التغيير. فما هو الدور الذي لعبته الشخصيات الآنف ذكرها في صياغة هذا الإعلان - ثلاثة أو أربعة منم كانوا مرتبطين بحركة 10 يوليو- وما تأثير العقلية السائدة والتي ما زالت متجذرة بقوة حتى الآن، والقاضية بأن من يريد التموقع عليه أن يبدأ بإقصاء كل ما يحرص عليه الخصم جملة وتفصيلا، ولو على مقتضى المثل: "علي وعلى أعدائي".
سواء صح هذا الاحتمال أو ذاك، أو تضافر الاثنان عبثيا لإنتاج ذلك التصريح، فإن نتيجة ذلك هامشية الآن. الشيء الآخر الأكثر حسما، والذي لا يمكن أن يلفه النسيان، يكمن في صعوبة تصديق كون أعضاء اللجنة العسكرية كانوا مجمعين على إقامة الديمقراطية وتسليم السلطة إلى مدنيين. صعوبة التصديق ستظل قائمة أيضا، إلى أن يثبت عكسها، إزاء التعددية التي أقامها معاوية عام 1991. وفي كل الأحوال فإن الديمقراطية لا تنشأ ولا تعيش وتستمر إلا في ظل وجود طبقة سياسية من الديمقراطيين الحقيقيين- وليس في كنف أناس يعتقدون فقط أن نتائج صناديق الاقتراع يمكن أن تكون لصالحهم- وأن يتوفر لها مناخ اقتصادي وسياسي داخلي وخارجي هادئ. والواقع أن البلاد كانت في عام 1978 أشلاء منهكة، بفعل حرب الأشقاء في الصحراء؛ وربما يتذكر مسؤولو تلك المرحلة مدى خصوبة الخيال الذي مكن من تصور تلك الألاعيب البهلوانية التي لجأوا إليها. لتسديد رواتب موظفي ووكلاء الدولة يوم 31 يوليو 1978. وفوق ذلك فقد أضحت البلاد يومئذ مجرد رهان بغنيمة يتجاذبها الجيران والقوى الأجنبية المهتمة. كل هذا المناخ لم يكن في الحقيقة مشجعا على الديمقراطية. فالديمقراطية ينظر إليها، تقريبا، على أنها حفل مستمر. بيد أنه من غير المناسب لمن نسوا أخذ زينتهم أن يهرولوا مسرعين إلى الطبل. هذا هو الخرْق في الدرع، وقد تسترت اللجنة العسكرية خلفه وتلفعت به متراجعة تماما عن الوعد الذي قدمته في يوليو 1978، ومؤكدة بصورة رسمية، أن المواطنين بحاجة إلى التشذيب والتهذيب ليتأهلوا للديمقراطية. إنها طريقة أخرى لتبني انطباع المادام دي شاتليه، Madam Du châteletالتي لم تكن تجد أية غضاضة، كما يقول الكاتب الخاص لفولتير، في أن تخلع ملابسها أمام خدمها، معتبرة أن الدليل على أن الخدم هم من جنس الرجال غير مقنع. كان معاوية ولد الطائع، إذن، كما ورد عرضا، من وضع حدا لهذا الترويض الذي كان يخضع له السكان ابتداء من عمر 15 سنة ولا ينتهي إلا عندما ينتزعه غسالو الأموات من المجتمع، فكيف ولماذا فاجأ معاوية بهذا القرار الذي هلل له الجميع. لم يحن الوقت بعد لإضافة رواية أخرى على الروايات المتداولة، وخاصة تلك التي تؤكد مشاركة السيد فوزل M.vauzelleالذي كان حينها رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية. وفي كل الأحوال فإن التعددية ليست هي الديمقراطية: ذلك أن الديمقراطية هي عقلية وثقافة - سبقت المبالغة في الإلحاح إلى درجة الاحتجاج - تغمر الطبقة السياسية أولا، ثم تتسرب داخل السكان. أما التعددية فهي أحد إجراءات الديمقراطية التي هي لازمة ولكنها غير كافية. لقد قيل بما فيه الكفاية؛ وعندما كان ذلك ضروريا، إن نظام 1991 مفصل على المقاس إلا أننا لن نسقط في الخطأ الشائع لدينا والمتمثل في تحميل الغائب جميع الأوزار وتبرئة الحاضرين. إذ يوشك أن يَصْدُق علينا المثل السائد في منطقة السافانا الإفريقية: إن فضلات الفيل لا تجمع إلا عندما يكون غائبا. لم يكن معاوية ولد الطائع نموذجا للديمقراطي. هذا مفهوم فهو لم يكن أولوف بالم Olof Palme. ولكن لنتحدث عن الموريتانيين الآخرين لنتأكد أن معاوية استثناء. لسوء الحظ فالتجربة تؤكد أنه ليس استثناء. والفارق يكمن في أن معاوية كان في السلطة أما الآخرون فلا؛ يبدو أن الأمر مختزل في هذه الحقيقة المبتذلة. لقد تم الاتفاق منذ 21 عاما - وفي نشوة غامرة- على قواعد اللعبة ومع ذلك فكلما كانت النتيجة غير ملائمة يقوم طرف أو أطراف برفضها عكسا لما يقتضيه العقل. على سبيل المثال فقد حصل معاوية في انتخابات 1992 على أغلبية مريحة بغض النظر عن التدابير السياسية والإجراءات الإدارية التي استخدمها جهازه، فهل كان يستحق كل هذه الشعبية وتلك المساندة وذلك الحماس العارم؟ هذه مسألة أخرى وحتى إبّان رئاسيات 2003 عندما كان منهكا بشكل حقيقي، فقد حصل على الأغلبية في صناديق الاقتراع، أما في الشارع فالأمر محل نقاش. فصناديق الاقتراع والشارع لا يتطابقان بسبب التصويت القروي القبلي لأن قرى القبيلة التي تشكل غالبية مكاتب التصويت لا تعبر دائما عن قناعاتها وإنما عن الخيار الذي يتوخى مصلحة القبيلة، ويراعي الحيطة والحذر خوفا من انتقام الرئيس الحالي في حال عدم فوز المترشح الذي يتعاطفون معه. تعليمات التصويت: يجب أن لا نجعل من قبيلتنا أو قريتنا هدفا للانتقام. صحيح أن الكثير من الناس يعتقد أن معاوية لم يكن ليقبل بالهزيمة، أو بأن يضطر إلى شوط ثان، أو بأن يسلم السلطة ببساطة إثر انتخابات نزيهة، وهذه القناعة كانت تدفع الوجهاء والقبائل إلى مضاعفة الحيطة والحذر. لقد كان هو نفسه متأكدا من أنه محبوب من طرف الموريتانيين باستثناء ثلة من الحساد وقليل من المهرجين والمتطرفين اللاواقعيين. ما سمعه الرجل من مديح في مختلف أرجاء البلاد ومن الجميع تقريبا، لم يكن ليترك لديه أدنى شك في ذلك. لقد ارتُكِبَتْ في حقه هذه الفظاعة: التبس الانقياد المطلوب للرئيس بالمذلة. تابعوا فقط هذا المشهد: وجيه كان عليه أن يحل مشكلة كبيرة ترتبط بإدارات الدولة، يتقدم بطلب لمقابلة معاوية. ليس الأمر سهلا، لأن المعني لم يكن له دور سياسي بارز، ولأن الرئيس السابق لم يكن مرتاحا إليه، إلا أن البراعة وجودة العلاقات تسهلان كل صعب. فبعد أشهر من الانتظار تم استقباله في النهاية. كان معاوية عابسا، وقد ساورت الوجيه في لحظة ما مخاوف من أن يُطرَد بلا تردد ودون مجاملة، فقد كان سلامه مقتضبا وجافا- لم يكن معاوية يفتح قلبه بسهولة. إلا أن الوجيه كان قد أحكم تدبير حَيلته. وبدلا من أن يطرح عليه مشكلته ابتدره بهذا التمهيد:" السيد الرئيس- السيد الرئيس كانت تسبق كل كلمة تقريبا- لقد جئت لأسلم عليكم، فليست لدي مشكلة، وأعيش حياة طيبة لله الحمد. الشيء الوحيد الذي أرغب في معرفته هو: كيف تمكنتم - معاوية يحب أن يسمع خيرا عن نفسه وشرا عن الآخرين- من إدارة ملايين الموريتانيين، رغم تنوعهم، بسهولة ويسر وأغدقتم عليهم هذا الخير العميم، بينما أنا أدير أسرة من سبعة أو ثمانية أشخاص ومع ذلك أواجه صعوبات لا يمكن التغلب؟ ستغمرونني بنوالكم إن كشفتم لي هذا السر وحده". تحرك الرئيس السابق إلى الأمام وأشرق وجهه بابتسامة تنم عن الارتياح ودخل في مناجاة شرح طويلة تليق بالمواعظ الاسكتلندية - التي تسببت في إصابة الفيلسوف بوكل Buckleبالفالج النصفي - تتخللها حركات تنم عن الموافقة والاستحسان يؤديها رأس الوجيه أماما وخلفا، وأحيانا يسارا ويمينا.. ليس اعتراضا - فهل يمكن أن يصاب المرء بالجنون في هذه اللحظة السحرية إلا من الفرح؟ - لأن كلمات معاوية تنزل على قلبه تَرَانيمَ تثير تلك النشوة الحماسية الاستثنائية وذلك التمايل الموقَّع اللا إرادي الذي اختبره من يتذوقون موسيقى ولد ابَّاشه. قبل أن يسفل معاوية إلى المكانة التي تحتلها الشياطين في نفوس البدو، فقد سبق أن رفعته سخافة الناس مجانا على منصة وثن العزّى. وإذا أردنا أن نكون موضوعيين حيال كل ما ينعت به اليوم على سبيل الاستهجان فينبغي أيضا إدانة ما يبدوا أنه أصبح، لسوء الحظ، مزاجا وطنيا: مقابلة الطغيان بالذلة والهوان، ومقابلة الليونة والرفق بجموح عنترة ابن شداد وعنجهية أبي جهل ابن المغيرة. إبان رئاسيات 2003 كانت هناك بطبيعة الحال خروقات صارخة شابت حسن سير الانتخابات، أبرزها تلك المتمثلة في اعتقال المترشح محمد خونا ولد هيدالة وإدارة حملته قبيل التصويت. وكان المسوغ الرسمي لذلك هو اكتشاف مخطط تمرد شعبي تحت الإسم الذي يرمز له Grab- يقال إنه مصطلح إنجليزي، لم يكن المترشح على علم بهذا المخطط وكانت إدارة الحملة تجهل حتى اسمه. في السجن فقط تم إعلام الجميع بجرمهم وتم إطلاعهم بشكل مفصّل، من طرف المدعي العام، على مخطط Grabهذا، لم يكن هناك من داع للجوء إلى قاض التحقيق لأنه في حالة التلبس بالجريمة فإن الإجراءات يستغنى عنها... هكذا يلجم الفرس. كل هذا كان مثيرا للضحك، لكن أحدا في ذلك الوقت لم يضحك، ربما باستثنا من دأبوا على هذه العادة الظريفة التي بموجبها يُجَرُّون من سجن لآخر لأغرب الأسباب. فهؤلاء سبق لهم منذ أمد بعيد أن قسموا شخصيتهم إلى شطرين؛ شخصية ضحية أو مجرمة دائما، وشخصية تحافظ على التماسك وهي مجرد متفرج على المصير المأساوي للأخرى، إن المتفرجة هي التي تضحك، من لا يضحك من نفسه لا يعرف الضحك. إنه غير متوازن. لقد تم إعداد مخطط Grabعلى ما يبدو، من طرف شخص غريب على الحملة نسيت السلطة اعتقاله. إذا لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، فإن هذه الوثيقة قد تكون موجهة أصلا لإدارة الحملة، ولكن خطأ ما جعلها تهبط أولا على مكتب المدير العام للأمن الوطني. وإذا لم يكن وراء الأكمة ما وراءها فإن المخابرات كان من حقها ومن واجبها بعد فشلها في يونيو 2003 أن تضعها تحت ناظر معاوية، بغض النظر عن قناعتها الحقيقية. وبدوره فإن معاوية - ولنضع أنفسنا مكانه - وهو خارج لتوه من محاولة انقلاب مجلجلة زلزلت الأرض تحت قدميه وكادت تقوض أركان سلطته، كان يرصد كل شيء بتوجّس، ولم يكن ليهمل أية إشارة أو إشاعة، والتقليد الراسخ، والذي لم يُخِلَّ به معاوية هذه المرة، هو أن يودع في السجن أولئك الذين تدور حولهم الشائعات أو تحوم حولهم الشبهات، إلى أن تتضح الأمور، خاصة وأن المعنيين هذه المرة هم أعداء سافرون ويضمون بين صفوفهم، أكثر من ذلك، عناصر يصنّفهم علمه الناقص عن البعثية بأنهم انقلابيون بالإيديولوجيا. وقد جرت حادثة مضحكة بينه وبين بعثي سابق بهذا الخصوص. يتناول ميشيل عفلق مؤسس البعث، ضمن نظريته، مفهوما معقدا ليس من السهل استيعابه، وأصعب من ذلك تطبيقه، يسميه "الانقلاب" ويُنطق ويُكتب تماما كما يُكتب ويُنطق الانقلاب العسكري، مع أن لا صلة لهذا المفهوم بالانقلابية العسكرية التي يوصم البعثيون بها عادة. إن هذا الانقلاب الإيديولوجي هو الشرط الإساسي الذي يتوقف عليه قيام الثورة العربية الحقيقية. ربما كان ميشيل عفلق هو البعثي الوحيد الذي حقق هذا الانقلاب في نفسه مع رفيقه إلياس فرح. فميشيل عفلق كان نادرة زمانه في عرب القرن العشرين، لما يتمتع به من ميزات فكرية وخلقية. أما البعثي الموريتاني السابق فقد خرج لتوه من السجن للمرة...؟ إلى وسط مبتهج وأجواء فرح، لكنه بعد أيام قليلة وجد نفسه في مواجهة الحقيقة المرَّة، فقد تم عزله من وظيفته منذ سنوات وقد تحملت الأسرة في غيابه دينا ضخما وأمسك المتجر المجاور عن التموين بالشاي والخبز دينا. وكان عليه أن يعيل مجموعة من الأطفال تترواح أعمارهم بين سنة و12 سنة فضلا عن الوالدة العجوز التي كان بكاؤها يحطم قلب أشرس النمور كلما رأته ذاهبا إلى السجن أو عائدا منه، لم تكن لديه مدخرات مهما كانت، وقد قطع جميع صلاته منذ أمد بعيد مع الميسورين الذين يمكنهم أن يمدوا له يد العون والمساعدة. ففي ذلك الزمن كان الناس ينتمون إلى هذه المنظمات كما ينخرط الرهبان في خدمة الكنيسة الكاثوليكية أو كما يدخل مريدو الطريقة الصوفية البومديدية.. لم يكن لديه أي بديل. ضاق الأفق في وجهه حتى كاد يلامس أنفه. فكر في الهجرة وما أدراك ما الهجرة؟ هجرة محمدن الذي اختبأ داخل قعر سفينة متجهة إلى لاس بلماس هربا من الاعتقالات سنة 1982 ولم يعد أبدا. أو ممارسة الحرف الصغيرة بالنسبة لمثقف مثله: الذهاب على شاكلة ذلك الذي ذهب إلى جنوب تكانت وهو يحمل معه جراح التعذيب التي لا تندمل ليرعى الإبل، أو الذهاب كما فعل عبد الله- وهو رفيق آخر- لبيع الأغنام في سوق كيفة، أو العمل بائعا في متجر بكيهيدي دون أن يعد نفسه لذلك كما فعل آخر، أو العمل بفلاحة الأرض ليصبح مزارعا تقليديا كما فعل آخر في ناحية امبود كل ذلك مقابل ثمن بخس. فوق ذلك هنالك هذا السؤال الوجودي الذي يؤرقه: هل يمكن إقامة مشروع عصري بآليات مجتمع يعيش في القرن الثامن عشر، ومن ثم الحصول على شعب متحرر في نهاية القرن العشرين؟ لقد تخلى ثوار ظِفار عن ذلك وفشل في تحقيقه ثوار جنوب اليمن، أما العراق الذي ما زال يتشبث به من خلال بعض الشعارات الوحدوية التي أفرغت من مضمونها الثوري فقد تخلى عنها بكل بساطة منذ العام 1979 من أجل إقامة دولة إسلامية. لم يعد مخدوعا في ذلك. في هذه اللحظة الحادة من محنته شَخَصَ أمامه القرن الثامن عشر بلحمه ودمه أي القبيلة: عارضة تسهيلاتها شريطة الالتزام بالتنكر لآرائه السياسية والعودة إلى الصف. اقترحوا عليه "مقابلة الرئيس وقد تحل كل مشاكله" إن القبيلة لا تتعبأ أبدا من أجل المصلحة العامة. والتنكر لمبادئه يساوي عنده تجرع السم الزعاف Soute. ولكن هل هناك من خيار؟ لم يجد من خيار غير التنكر وطعمه المرير. وأخيرا أزف يوم المقابلة. حضر أمام باب الرئيس وهو يلقي نظرة خلفه للتأكد من أن ذيل ثوبه الفضفاض لا يحمل في طياته (كركارة) بعثية. دار النقاش بسرعة مع الرئيس حول خبث البعثيين وسوء طويتهم. وفجأة طرح معاوية هذا السؤال: ألا يصفون أنفسهم في كتبهم بأنهم انقلابيون؟ كاد البعثي المشلوح برغم توتر أعصابه أن ينفجر ضاحكا. وهو ما كان كفيلا بوضع نهاية لآماله، لكنه تمالك نفسه. وفي جزء من الثانية خطر بباله أن يشرح له، غير أن ذلك سيكون جهدا ضائعا بالإضافة إلى خشيته من أن يظهر كمن يبعد عن البعثيين أي نوع من الدناءة والخسة. وفي النهاية أعطى الجواب الذي يتوقعه ويريده معاوية: بلى، ولتذهب الحقيقة إلى الجحيم. وهكذا استطاع الخروج من المأزق ببراعة تقية إمام القرن الثامن، عندما سأله الخليفة بنبرة تهديد عما إذا كان القرءان مخلوقا.
الطواري
***************
موريتانيا وأزواد/بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل (الحلقة الرابعة)

سواء كانت النتيجة متولدة عن "حذر" "أو طمع" أو قناعة، أو كلها مجتمعة، فليس ذلك مهما بالنسبة لصناديق الاقترع ، إنما المهم العدد والنسبة المعبرة عن الواقع، مهما كانت طبيعة المخالفات فلم تكن مؤثرة على النتيجة الاجمالية.
في نهاية الحملة الرئاسية 2003 كانت إدارة حملة محمد خونا ولد هيدالة تقدر حظوظها بثلث الناخبين.
لكن النتائج تضررت كثيرا بسبب اعتقال المترشح قبل التصويت بأقل من ثمان وأربعين ساعة.
خبر هذا الاعتقال انتشر كسحابة الدخان في البلد، فارتأى كثير من أنصاره أن لا داعي للتصويت.
فضلا عن ذلك، وبما أنه المنافس الجدي لمعاوية فإن جهود الإدارة والجهاز السياسي غير الرسمي تركزت ضد المرشح وحيثما أمكن التأثير عليه بصورة غير فاضحة حصل ذلك.
قيل في ذلك الوقت أن النظام الحاكم كان يتمنى – إذا لم يكن عمل من أجل ذلك- أن يبقى نتيجة المنافسين الثلاثة المنافسون متقاربة ومتواضعة، وفوق ذلك أن لا يجذب هيدالة قواعد المترشحيْن الآخرَيْن، ويخلق بذلك تيارا طاغيا يسحب في عنفوانه، ليس فقط المترددين، بل أيضا أطرافا من الناخبين التقليديين للأغلبية، لا تريد – وهذه ردة فعل كلاسيكية – المشاركة في الانتحار الجماعي، إذا استحال إنقاذ النظام من الغرق.
حتى لو سلمنا جدلا أن محمد خونا ولد هيدالة حصل في الواقع على 33% وأضفنا إليها نتيجة المرشحيْن الآخريْن الذين لم يكونا في ذلك الحين موسومَيْن ولا يمثلان مصدر قلق للنظام ، سنحصل في المجموع على 45% لأن المرشحيْن معا وبصعوبة حصلا على 12%.
هذه هي الوقائع. لكن الوقائع عندما لا تؤكد رأينا لا تعود براهين، ولا مقنعة، ولا موضوعية.. ذلك حالنا. وسنبقى كذلك، طالما أن محتوى وتوجه تعليمنا باقيين في مسار 82-84، عندما استُبعِد من البرنامج ما كان من شأنه تنمية وتدعيم القدرات التفكيرية.
نحن لم نتمثل في حياتنا بعد التصرف المنطقي الذي يمكننا من التعامل مع ذلك المعطى المتميز المسمى: الواقعة.
إن الانتخابات الأخيرة هي الأخرى: انتخابات 2009 هناك من لم يعترف بها، وبإمكان من اعترف بها أن يتخلى عن الاعتراف حسب المزاج والضرورة، ومن غير حرج وفي كل وقت، والانتخابات المقبلة كذلك لن يُعترف بها أيا كان الفائز، ولماذا يعترف بها، هي كسابقاتها.
الناس لا يقبلون إلا ما ينسجم مع آرائهم وأذواقهم، ولتذهب الديمقراطية إلى الجحيم.
إنها مسألة دائرية، كجمل منت الوناس.
ماركيز قال إنه حصل من افريد على هذه الملاحظة: مرض المريض أحيانا هو ردة فعل احتجاجية ضد الوسط المريض الذي يعيش فيه، ربما يكون ذلك حالنا أيضا.
هذه هي الحقيقة المبرهن عليها بالتجربة المتكررة.. بمعنى آخر ليس هناك من هو مستعد لأن يلعب دور المعارض الجاف.. الجميع يريدون أن يحكموا في وقت واحد، من خلال نفس الانتخابات.
إذا سرنا مع المنطق إلى نهايته، واستخلصنا النتائج اللازمة، فإن الوضع المقبول المرْضي، غير المنطوق، عند الجميع هو أنّ تسيير البلد عليه أن يوزع بين الفرقاء جميعا، ليس مؤقتا، أو تحضيرا الانتخابات مقبلة، ولا انتظارا لميل مؤشر الميزان، كما يحدث في الديمقراطيات، وإنما نهائيا ودائما. ولم لا؟ إذا كنا لا نجد توازننا إلا في هذا الشذوذ، فلأن هذا الشذوذ هو التعبير عن مستوى تطورنا هو إذن ليس شذوذا هو حالتنا السوية.
بإمكاننا أن نستعين بتجارب قريبة العهد لتأكيد هذا الحنين إلى الحزب الواحد. في النصف الأول من 2009، وخلال 2008، و2007 لوقت قصير، 2005 إلى حد ما عندما كانت الحكومة مختلطة كان الوضع مقبولا، ليس بالنسبة للرأي العام ولا بالنسبة للعمل الحكومي، ولا بالنسبة لأمن البلد، ولا بالنسبة لحل مشاكل المواطنين اليومية.
بل بالنسبة للطبقة السياسية.
هناك مجموعات لم يحالفها الحظ في تلك التوليفات، لكنهم لم يحدثوا ضجيجا كبيرا، إما لأنهم كانوا ينتظرون دورهم بهدوء، وإما لأنهم حمر الوحش النادرة القرناء المطلوبة: أي الديمقراطيون الحقيقيون الذين يقبلون حظهم برباطة جأش و- إذا صح التعبير – بمواطَنِية!.
إذا توجهنا إلى حكومة إجماع، فقد يهددنا أفق الهلوسة، الذي انفتح أمام هيدالة عندما ترشح لرئاسة 2003.
الطريقة التي اتبعت للحصول على أكبر حشد، وتعطي أملا للجميع، كانت أن المترشح يوقع مع كل حزب، ومجموعة، وتيار، وكل حساسية، مرغوب في مساندتها اتفاقية بموجبها يقبِلون برنامج المترشح، ويعملون مع الآخرين تحت نفس الشعارات، والمترشح بدوره يلتزم أن يشاركهم في تسيير البلد بعد الانتصار، بمعنى أن يمثلهم في حكومته.
قيادة الحملة من جانبها تستقبل مسبقا من يريدون مساندة المترشح لتحضير نص الاتفاقية، تفاديا لما من شأنه أن يحرج أو يزعج المترشح خلال الحملة، أو بعدها عندما يستلم السلطلة.
هذا العمل البسيط في ظاهره كان مرهقا إلى حد المقارنة بالأعمال السبعة لهركيلوس بالنسبة لإدراة الحملة.
إن المعنيين استنفروا كامل قدراتهم في اللباقة والاقناع، وإلى آخر حبة ذكاء عندهم لتوليف المتناقضات التي لا ينبغي الآن الخوض في تفاصيلها.
وعلى كل حال فقد ابتلعوا الاخطبوط مرات كثيرة أمرَّ من الحنظل وأنتن من الكلب الميت.
وصل الوضع في النهاية إلى أكثر من ثلاثين كيانا مستقلا، وكان ينقص هذه الباقة القوميون العرب الناصريون، ومن شأن ذلك أن يكون نقصا بيّنا.
إن إدارة الحملة بنظرتها الاستباقية دائما، دخلت في اتصال مع بعض عناصر هذا الاتجاه، وتطلب الأمر عدة أسابيع لكي تتضح الوضعية، ثم اتضحت على النحو التالي: الركن الأساسي قرر الاستمرار في مساندة معاوية، بينما قررت مجموعة تناهز الألف مساندة محمد خونا ولد هيدالة. ولم تكن هذه مسألة بديهية.
في حملات القمع المتتالية التي تخللت حكم هيدالة بين 79 و84 جاء دور الناصريين سنة 84، ولم يعرف أحد لماذا؟.
وكان القمع شنيعا إلى حد أن اثنين أو ثلاثة استشهدوا تحت التعذيب، ولم يكن سهلا على الجماعة تناسي شهداء المبادئ المشتركة، وأن يقلبوا لهم ظهر المجن، ولكن وجود عناصر تجمعهم معها قواسم الفكر الوحدوي، وسبق لها أن عانت قساوة اللجان العسكرية المختلفة.. إلى جانب هيدالة ساعد هذه الأقلية المعتبرة على الالتحاق بهذه التوليفة.
في الوقت الذي كانت فيه الاتفاقية جاهزة للتوقيع، اطلع المستشارون الخاصون للمترشح وهم مختلفون عن قيادة الحملة، على الاتفاقية، وأعلنوا أن المترشح لا يمكنه أن يوقعها.
وبسبب هذه الوضعية التأم اجتماع عام بين قيادة الحملة والمستشارين الخاصين برئاسة المرشح نفسه، حيث أَعلَن أن الآحزاب، والاتجاهات، والمجموعات، والحساسيات، التي ستشارك في الحكومة قد زادت على الثلاثين بحكم الاتفاقات الموقعة، ويجب إضافة الشخصيات الحاضرة وشخصيات متوقع التحاقها في الدور الثاني.
إذن يجب أن نتوقع أن يزيد أعضاء الحكومة المقبلة على الخمسين.. وهكذا لم يعد من الممكن زيادة العدد، خاصة أن الآفاق تبين بوضوح أنه مهما تضخمت الحكومة فلن تكون مناسبة بأي صفة لوضعنا، إلا إذا كان فيها أربعة أو خمسة كلهم بصفة وزير أول.
أما في الوضع الراهن وفي إطار روح الوئام الشامل فإن خمسين عضوا سيكونون فقط أعضاء لجنة وزارية مختصة.
يخشى علينا إن نصبح في وضعية (سين جورج) التي يقول التراث المسيحي القديم أنه سأل (الرب) أن يمنحه القوة اللازمة لركوب فرسه دون مساعدة أحد، فاستجاب الرب، لكن قفزة (سين جورج) تجاوزت به ظهر الحصان إلى المنحدر الآخر.
إن الحزب الذي تتطلع إليه القلوب والأذهان، بتهافت يلزمه الحفاظ على الكيانات، والألقاب، والعناوين، وقد يقبل كل التشكيلات اللاحقة، ليس هناك ما يحرجنا لأن البرامج متساوية، ولأن تنوع الاختيارات الفكرية والاتجاهات السياسية الأصلية قد تقلص وبهت، وضمر، بشكل ملفت خلال العشرين سنة الماضية دون أن نشعر.
لم يعد هناك يسار، ولا - بالأحرى- يسار متطرف، وقد نظن أن اليمين الرجعي الظلامي، هو نفسه في طريقه إلى الحد من تطرفه والتخفيف من حدته.
إذا كان العالَم مظهرًا لشيءٍ مختبئ خلف ستار التجربة المباشرة، فإن الموجود خلف الستار – حسب جواهر كلام هيجل- هو نحن.
قبل أن نتوجه إلى مشاكل أزواد.. الشاغلة، فإننا - كمشاركة أولى - نقدّم هدية على شكل "اسم" للحزب المُستَغْربْ، إنه بإمكانه أن يفخر باسم هو بحد ذاته تبجيل:
*******************
موريتانيا وأزواد/بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل (الحلقة الخامسة)
الظلم والبؤس
الأرض التي كان على كبولاني احتلالها كانت أوسع كثيرا من هذه التركة التي وصلتنا تحت اسم موريتانيا.
لأنها كانت تضم الصحراء الغربية، التي لم تكن قد تـُخُـلـِّيَّ عنها لاسبانيا، وتضم "أزواد الجغرافي" أي منطقة البيظان.
إن مصالح الدول الاستعمارية، وتوازن القوى بينها من جهة، وضرورة النفوذ إلى أعماق البلد وإدارته من جهة أخرى، حالت دون ذلك.
معظم بلاد البيضان، في النهاية، انقسمت إلى نصفين متساويين: الشطر الغربي الذي التقطوا له اسم موريتانيا من قارعة الطريق، سيسير انطلاقا من السنغال، أما الشطر الشرقي فسيدار من مالي.
لحسن حظ الشطر الغربي الذي هو موريتانيا، حدثت فتنة خطيرة في الحوض 1940. وتبين بسرعة أن السيطرة على الأمن في الحوض مستحيلة من باماكو. وتقرر في السنوات اللاحقة، إلحاق الحوضين بموريتانيا.
أما بيضان أزواد الخارجين عن تأثير الشيخ حماه الله، الموجودين في البؤرة الرئيسية للقادرية، أي في نطاق نفوذ آل الشيخ سيد المختار الكنتي، فأُهْمِلوا تحت وصاية بامكو، لأنهم غير معنيين بالصراع. بل إن القادة الحمويين الناجين من التصفية الاستعمارية، سجنوا في كيدال، وكَاوة.
ليس من الضروري أن نلحَّ على الوحدة التاريخية، بين مكونتي البيضان لأنها بديهية مسلمة، ولا على وحدة الانتماء لنفس المجتمع، لأنها ليست موضع جدال.
بالنسبة لكثيرين، انتماءُ الشيخ سيد المختار إلى أزواد، هو بحد ذاته، أكثر من كاف على تأكيد الوحدة الضائعة.
غير قليلين أولئك الذين يلتبس عليهم مكان قبر الشيخ الكبير. هل هو بين اكجوجت ونواذيبو في الموضع المسمى "فَصك"، أو هو في ولاته؟!... ببساطة هو في أزواد.
وفعلا الشيخ سيد المختار ليس كغيره، لأنه شيخ الشيخ سيدي الكبير، والشيخ القاضي، والشيخ المصطف، من بين أقطاب المنطقة الغربية، ولأنه شعَّ بعلمه على جميع الصحراء الكبرى الغربية، قبل أن تراها عيون الأوروبيين "بحرًا بلا ماء". الحياة فيه مستحيلة، والمجابات لا متناهية.
قبل قرن الشيخ سيد المختار الكنتي، أي الثامن عشر، كانت التبادلات والتأثيرات تقع في الاتجاه الآخر، وخاصة انطلاقا من ولاتة.
لكن بعض المؤرخين يعتبرون أن ودان هو منبع الثقافة التي اشتُهرت بها تينبكتو، وأن أحمد باب التينبكتيُّ الشهير، يرجع في أصله إلى المدينة الآدرارية القديمة ودان. وبهذا يتكشف إلى حد ما الغموض الذي يلف ودان نفسها.
إن تدهور وتراجع دور هذه الحاضرة، قياسا إلى مثيلاتها، هو أمر مثير!.
إن هذا التدهور لا يرجع إلى هجوم بربري، والركودُ وتلاشي الحيوية، لا يفهم بدون عوامل هدم ناشطة ومنظورة، بالنسبة لحاضرة يقال إنه كان في الشارع الواحد منها، أربعون عالما ليس بينهم من يحتاج إلى الآخر في علم.
وادان إذن أعطت نَسَغَ حياتها، وهاجرت سريعا وبعيدا.
يصعب علينا اليوم أن نفهم سهولة قيام واستمرار علاقات بين وادان وتيمبكتو. ذلك أن تصو "الزمن" في ذلك الوقت، وتصوره الآن مختلف. فَسَفَرُ يوم أو اثنين ما كان يعتبر سفرا، السفر كان يعني فقط الانتقال من حاضرة صحراوية إلى أخرى، أو إلى أخريات.
الشيخ سيديا قبل سفره إلى أزواد، سافر إلى شنقيط، وتيشيت وولاته، يستكشف ماذا تخبئ في بطونها!
السفر الطويل مصطلح يخص السفر إلى القاهرة أو إلى الحرمين.
الأشهر أو الأعوام التي يقضيها الرجل في الغياب لا تحسب، إنما تحسب المعارف، أو الكتب أو الأموال التي جاء بها. النظر إلى الأمور كان يتم على مدى الجيل، وليس على مدى الشهر والعام.
الزمن كان طويلا والناس يعملون للأبد. الآن، الزمنُ قصير، رغم أنه لم ينقص ثانية، وقياسه باليوم.
الأعمال البعيدة المدى ما عادت تستهوي أحدا.
يوضح هدكَير هذا الشرخ في تصور الزمن: "الوقت الذي قَلِقَ فيه الانسان فجأة، من أنه لم يعد لديه الوقت.. من هذه اللحظة بالذات بدأ الضياع المتزايد للوقت. هذه اللحظة هي بداية ما يسمى بالأزمنة الحديثة".
جيران البيضان من الشرق هم الطوارق الذين يتعايشون معهم في أزواد بمفهومه السياسي الجديد. وباتجاه الشرق يزداد عالم الطوارق كثافة، ويستمر في النيجر، بعد سهل أزواكْ، وجبال الأيَّيْر، حتى منخفض تَنَيرَهْ. ما وراء ذلك هو مُسَمَّى الصحراء الكبرى الشرقية. حيث يبدأ عالم التَّبُو وأولاد سليمان. أولئك العرب الذين طردهم الأتراك من ليبيا في القرن 19، وتفرقوا في بوركُو وغَانَمْ.
ولن نغْفِل بيضانا آخرين لمجرد أنهم ليسوا على جدول أعمال مأساة، ففيما وراء شرق أزواد، أي فيما يسمَّى أزواكْ النيجري، بيظان بثرواتهم الحيوانية وقراهم، وسيدهم المفخم بلقب "سلطان العرب". يتعايشون كذلك مع طوارق النيجر.
القوة الرئيسية في أزواد بمعناه الواسع، وفي كل الأزمنة، هم الطوارق. مع أن البيظان قوة نوعية تفرض نفسها دائما على المستوى الروحي والسياسي - كنته، وأشراف أروان- والبرابيش وهم من فروع حسان، كانوا يفرضون أنفسهم على المستوى العسكري.
المؤرخة كَوْكَري فيدروفتش تبرز أن مدينة تيمبكتو القديمة استرجعت، في منتصف القرن التاسع عشر، قدرا من الاستقرار. واستعادت بعض إشعاعها تحت "القيادة الرشيدة والذكية لعرب كنته في عهد الشيخ البكاي".
كثير من كبريات قبائل الطوارق يُرجعون أنسابهم القديمة إلى أصول عربية. إن "كَل أنْصَارْ" الأقرب إلينا جغرافيا يعتبرون - كما يوضح اسمهم- أنهم من الأنصار. أما إفُوغَاسْ فيقولون إنهم يرجعون إلى أشراف تافيلالت.
نجهل ما هي الروابط القديمة بين قبيلة عدنان والعرب الشماليين: مضر، ربيعة، إياد. وفي كل الحالات فإن لغة الطوارق المكتوبة "تيفيناق" هي سامية كالعربية والسريانية وأخواتها.
عندما قدِم الأوروبيون في نهاية القرن 19، كانت ردة فعل الطوارق هي بالضبط، ردة فعل البيظان، بمقاومة متبعثرة ولكنها شرسة. كثير منهم لبَّى دعوة الشيخ ماء العينين (روح المقاومة) كسكان الصحراء الكبرى الغربية، وقاتلوا إلى جانبه أو إلى جانب الشيخ عابدين ولد الشيخ. وآخرون قاوموا مستقلين ببسالة.
عندما اكتملت دائرة الاستعمار، وانتهت المقاومة، أوجد الاستعمار داخل الدائرة الكبرى دوائر داخلية أضيق، وهي الحدود الفظيعة التي تجاهلت المجتمع والتاريخ وعواطف الناس.
فجأة في يوم ما علم الناس أن ثمة خطوطا يحظر تجاوزها على المنتجعين، والمسافرين. وأنه يجب وقف كل الصلات والعلاقات التجارية والمبادلات مع الأهل والأقارب خلف خط معين. إنه السجن، السجن المعنوي المؤبد. تغيرت أسماء الجهات لم يعد الغرب غربا ولا الشرق شرقا: حلت محل ذلك أسماء غريبة يصعب نطقها على الألسنة: أسماء المستعمرات الجديدة.
إنها غرائب ظلم الاستعمار، كما رآها وسماها الناس في ذلك الوقت.
وضع الحدود الذي تحدد نهائيا عام 1945، بعد إضافة الحوضين إلى مستعمرة موريتانيا، بقي على حاله حتى الاستقلالات الإفريقية عام 1960. إلا أنه في عام 1957 شعرت فرنسا أن وضع المستعمرات غير سليم، وأن تقطيع الصحراء، وإتباع كل جزء منها إلى ما يقابله من مستعمرات السفانا الافريقية غير سليم. فتصورت مشروعا يضم الصحراء الكبرى الغربية، والصحراء الشرقية، والصحراء الشمالية، تحت اسم المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية.
المستعمرة الوحيدة التي استغرقتها المنظمة الجديدة بكاملها هي موريتانيا.
كان لهذه المنظمة مجلس يمثل أجزاء الصحراء. وكان ممثل موريتانيا أمير اترارزه: محمد فال ولد عمير.
المشروع كان طموحا، ويمس مصالح مستعمرات السفانا الافريقية. وزيادة على ذلك جاء متأخرا، أثناء حرب تحرير الجزائر. وظهر كما لو كان محاولة مهزوم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
سكان أزواد، وسكان أزواك، وسكان تيبستى، وسكان أنَّدِى، وسكان بُورْكو، استقبلوا المشروع بفرح كبير. وحدها موريتانيا من بين المعنيين، والتي هي صاحبة المصلحة الكبرى فيه عارضته بشدة.
سيدي المختار ولد يحي انجاي الذي كان في ذلك الوقت الشخصية الأولى في مورتانيا- وكأننا نسينا ذلك أو جهلناه- لم ير لنفسه مكانا في هذه المنظمة. والمختار ولد داداه الذي حظي في ذلك الوقت أيضا. بمباركة وتزكية سيد المختار، اكتشف بسرعة هو الآخر أن لا مكان لطموحاته الشخصية في هذا الكيان الضخم. أما ممثلو المناطق الصحراوية الأخرى فقد كانوا على العموم، غير متعلمين، وغير حاضرين في مجرى الحدث، وليست لهم رؤية لحركة الصراعات الجارية في العمق، ولم تكن لهم أصوات مسموعة، ولم يعرفوا بالتالي كيف يدافعون عن المشروع.
إذا كان هذا المشروع استعماريا فإنه ليس أكثر استعمارية مما يسمى بالقانون الاطاري الذي بموجبه أهديت لكل مستعمرة حكومة محلية برئاسة الوالي الفرنسي. إن حكومة المستعمرة الموريتانية هي التي شغل المختار ولد داداه منصب نائب رئيسها سنة 1957، وصار وزير المالية فيها المسيو كومباني موريس، مدير شركة لاكومب سابقا، ووزير التجهيز فيها المسيو ساليت.
في النهاية اجتمعت الجمعية الوطنية الفرنسية في جلسة علنية لتقرر نهائيا مصير المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية، وكان من غريب الصدف أن الحكومة الفرنسية مثلها وزير الدولة أنذاك المسمى هوفوت بوني (هو نفسه صار بعد ذلك رئيس كوت دي فوار) وهو بكل وضوح ممثل مستعمرات السافانا الافريقية التي تعارض انفصال المناطق الصحراوية عنها.الجمعية الوطنية الفرنسية يشجعها ممثل الحكومة وَأَدَتْ بسهولة آخر محاولة لإعطاء سكان الصحراء الكبرى إطارا يخصهم ويحسون فيه بذاتهم.
سكان الصحراء لم يحسوا في أي يوم من الأيام بالطمأنينة. إن الحرب الأهلية الطويلة في اتشاد معروفة. وكان سببها أن حكومة اتشاد نزعت من الدستور كون اللغة العربية هي رسمية. والتمردات المتتالية والقمع الذي يصاحبها في النيجر ومالي أقل شهرة عند الناس.
التمرد الأول في مالي كان 1962 - 1964. وكان يقوده زعماء القبائل والوجهاء التقليديون. من الطوارق والبيضان مجتمعين.
زعماء التمرد الذين أفلتوا من قبضة مالي، سلمهم لها الرئيس بن بلة وأعدموا جميعا. بقي على قيد الحياة أمير قبيلة "كل أنصار" محمد آعْلي. هذا الأخير لجأ إلى المغرب، وعاش نحو من مائة عام، وتوفي منذ أعوام. يقال إن أحد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد وهو "أكَـ ناجم" هو ابن أحد الشهداء الذين قتلتهم الحكومة المالية عام 1964.
الأسباب المباشرة لتمرد الستينات، أن الضباط الفرنسيين الأذكياء المثقفين الكيسين الذين كانوا يحكمون أزواد، خَلَفَهُم العسكريون الماليون الذين تصرفوا تصرف المحتل الغازي في الشؤون العامة والخاصة للناس، إلى حد أنهم يغتصبون الأشياء الحقيرة من الأيدي والجيوب.
إنه الاستعمار المتخلف الرثّ الثياب، الذي ليس لديه ما يعطيه مقابل السيطرة إلا البؤ
س والظلم.


 

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فصول من حياتي السوقي الخرجي المنتدى العام 84 02-11-2013 11:45 AM
الهوامش على ( أوراق سوقية للشيخ الخرجي ) الدغوغي المنتدى التاريخي 4 09-04-2012 07:11 PM
لمحات من تاريخ قرية تنيگي/ إعداد محمد يحيى بن محمد بن احريمو الخزرجي السوقي المنتدى التاريخي 0 06-25-2012 06:51 PM
تعاليق على مقال محمد أغ محمد : فرق بين الفرار والجهالة أداس السوقي المنتدى الإسلامي 14 02-11-2012 09:31 AM
محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني الخزرجي السوقي منتدى الأعلام و التراجم 2 01-09-2012 08:31 PM