الديباجة
إن من نظر إلى تاريخ سكان صحراء أزواد يكاد لا يرى الفرق بين ماضيهم وحاضرهم، لانعدام تام، أو شبه انعدام عام في تدوين تاريخ مجد من مضى، منهم، فضلا عن تدوين تاريخ مجد المعاصرين منهم.
وقارب عيب انعدام كتابة الأوائل والأواخر من أجيال هذه الأمة العظيم المجد والتاريخ عيب استواء كل جيل منهم في الفقر التاريخي مقالة القائل:
ولما أن أتيت بـــني جوين***جلــوسا ليس بينهم جليس
إذا ما قلت أيهـــــم لأي***تشابهت المناكب والرؤوس
هذا ولقد عاب فيهم انعدام ظهور سيد من غيره فيهم...
وقد يوضحه بجلاء قول الآخر في مثل: بني جوين:
سواء كأسنان الحمار ولا ترى***لذي شيبة منهم على ناشئ فضلا
لذا فإنك لا تستغرب عندما ترى جماهير المثقفين والقراء لا يعرفون عن سكان صحراء أزواد، خاصة الطوارق إلا أن: رجالهم يتحجبون ونساءهم يكشفن وجوههن.
أما غير ذلك من حياتهم فلا يعرف منه أيضا إلا ما يعد من المساليب، مما يكتبه عنهم أعدائهم من الغرب، ومن في معناهم.
بل بلغ السيل الزبى إذ أن جيران الطوارق لا يعرفون عنهم من خصال البشر إلا خصال السوء، من ذلك ما حدثني به دكتور جزائري جمعني وإياه العمل، فرآني كفرد من الطوارق في الانتماء وبيان ما أمكن من محاسنهم كلما سنحت لي مناسبة، فقال لي يوما: أنت أول رجل من أهل العلم...
رأيته من الطوارق، والطوارق عندنا في الجزائر، كنا نشبههم: بالمغول...
فقلت له: ما المغول؟ فقال لي أمة غربية لا دين لها.
أي لا شيء عندهم يعاب من المنكرات، فهم أشبه بالحيوانات في عدم استهجان المنكرات بينهم...
بل من رأى كتاب: الطوارق عرب الصحراء، للدكتور القشاط، يقول القول ما قالت حزام: لم يأت لهم بصور تشرف من حياة أفاضلهم الشريفة، فأتى بأفراد من جفاة البادية يحملون من كل جانب تمائم وحروز، وفي أذرعهم وصدورهم، بشكل لو كانت التمائم من الجائز المرغب فيه لكانوا بلغوا فيها مبلغ: كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.
فما بالك بالتمائم التي تظاهرت نصوص السنة بصفة خاصة ونصوص الكتاب بصفة عامة بالنهي عنها.
ومع ذلك فإن من ابتلي بها هم الذين عرضهم القشاط كصورة حقيقية لقيم مآثر هذه الأمة.
علما أني لا أحمله جرما ـ هو ولا غيره ممن عرف الطوارق بمنكرات الأخلاق ـ أكثر مما أحمله أرباب القلم في محيطهم، لتركهم تدوين مآثر أمة من الأمم التي بنت مجدا من التاريخ العظيم...
أقول ـ بادئ بدءة هنا ـ: ما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب توارث المكارم بين أفرادها، خلفا عن سلف، كما قال القائل:
إذا ما امرؤ أثنى بآلاء مــــيت***فلا يبــــعد الله الوليد بن أدهما
فما كان مفراحا إذا الخير مــسه***ولا كان مـــــنانا إذا هو أنعما
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب السلطة من سلاطين أفرادها كما قال القائل:
لكل امرئ من دهره ما تعودا***وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
وكما قال الآخر:
تكاد تميد الأرض بالناس أن رأوا***لعمرو ابن هند غضبة وهو عاتب
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب حسن العهد من أوفياء أفرادها كما قال القائل:
ألئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا***وإن عهدوا وفّوا وإن عقدوا شدّوا
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب حسن راعية حقوق الجار والغريب من أوفياء أفرادها كما قال القائل:
وجار البيت والرجل المنادي***أمام الـحـي عهدهم سواء
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب من ورث الشرف الشامخ أبا وأما من شرفاء أفرادها كما قال القائل:
وحللت من مضر بأمنع ذروة***منعت بحد الشوك والأحجار
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب مكارم أفرادها، كما قال القائل:
فتى مثل ضوء الماء ليس بباخل***بخير ولا مهد ملاما لباخل
ولا قائل عوراء تؤذي جلسه***ولا رافع رأسا لعــــوراء قائل
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب السيادة من سادات أفرادها كما قال القائل:
إذا شذ منا سيد قـــام سيد***قئول لما قال الكرام فعول
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب الحلم من حلماء أفرادها كما قال القائل:
قل ما بدا لك من زور ومن كذب***حلمي أصم وأذني غير صماء
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب الحلم والانتقام من حلماء وأقوياء أفرادها كما قال القائل:
أحلامنا تزن الجبال رزانـــــة***وتخـــــالنا جنا إذا مـا نجهل
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب أهل الأيادي البيضاء بالرحمة على ضعفة أفقه من كرماء أفرادها كما قال القائل:
وهم ربيع للمجاور فيــــــــهم*** والمـــرملات إذا تطـــــاول عامها
وكما قال الآخر:
مطاعيم في المشتى مطاعين في الوغى***إذا الحرب كانت كالحريق المصرم
وكقول الآخر:
أســـــد ضــــــــار إذا هيـــجته***وأب بـــــــر إذا مــــا قـــــدرا
وكقول الآخر:
إنما لـــــذات الجواد ابن ســـــلم***في عطـــــاء ومـــــركب للـقاء
وكقول الآخر:
تشابه يومـــــاه علينا فأشـــــكلا***فما نحن ندري أي يومه أفــضل
أيوم نداه الغمر أم يوم بـــــــوسه***وما منهـــــما إلا أغر مجـــمل
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب التخلق بحسن الخلق وكرم الضيافة في العسر واليسر من أفاضل كرماء أفرادها كما قال القائل:
وما غيرتني ضجرة من تكرمي***ولا عاب أضيافي غناي ولا فقري
وكما قال الآخر:
إذا جئته للحمد أشرق وجـهه***إليك وأعطاك الكرامة والحـمدا
وكقول الآخر:
وأنعمه في الناس فوضـى كأنها***مــواقع ماء المزن في بلــد قفر
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب المشاهير الفضلاء الكرام من يؤم لإزالة الكرب الدنيوية من مشاهير أفرادها كما قال القائل:
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد***أحدا سواك إلى المكارم ينسب
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب من يتصف بالإنعام والبذل الكريم من المنعمين الباذلين الفضلاء من أفرادها كما قال القائل:
وأحسن وجه في الورى وجه منعم***وأحسن كف فيهم كف منعم
وكما قال الآخر:
فليس لفضل المال شيــئ كبذله***وليس لداء العرض شيء كحسمه
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب من يتصف بالمكارم الحسان الفضلى من وجهاء أفرادها كما قال القائل:
وأفضل الناس بين الورى رجل***تقضى على يده للناس حاجات
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
أقول وأكرر، فما عرف تاريخ أمة إلا بعد تدوين ما لا بد منه الذي منه:
· جانب من يتصف بمكارم الفضائل والسؤدد من سادات أفرادها كما قال القائل:
لو إن إجماعنا في فضل سؤدده***في الدين لم يختلف في الملة اثنان
وكما قال الآخر:
يا كامل الآداب منفرد الـــعلا***والمكرمات ويا كثـــير الحاسد
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟
قلت: هذا غيض من فيض نوه به رعاة محاسن أقوامهم جيلا جيلا اخترت هذه الأمثلة نظما في معرض ذكر النموذج الأوفى فيما نحن بصدده، وأما ما قيل من النثر من رعاة محاسن أقوامهم جيلا جيلا، فلا يمكن حصره، بل كل مؤلفات والمصنفات غير التاريخية مبثوث فيها، فما البال بدواوين التاريخ...
هذا وكل ما تقدم من النماذج لا يخص أهل العلم دون غيرهم، بل هو قيل في كل ذي خصلة حميدة، وفضيلة مجيدة من الأعيان في حق العلماء وفي غيرهم من الأعيان...
فإذا نظرت في مجتمعات صحراء أزواد، خاصة المجتمع الطارقي، لا تجد لجماهير أهل العلم فيهم من الذكر الجميل إلا النزر اليسر، مما هو بقي ذكره في ألسنة الكبار، مما يوشك أن يفوت بذهاب أربابه إن لم تتداركه رحمة من ربي بجانب من حفظه بالتدوين...
هذا وأما جانب أعيان صحراء أزواد غير أهل العلم، خاصة أعيان الطوارق فإن مآثرهم غررها ذهبت بذهاب عصورهم، ولم يبق من ذكرها إلا أقاصيص هي أيضا إلى سبيل الضياع في أدراج الإهمال، فتذهب بذهاب كبار السن من حفاظها أيضا...
هذا ولقد يسر الله لي قراءة جملة من تراث كتاب صحرائنا الغالية، فلم أر فيها من ذكر الأعيان غير أهل العلم، ولا ذكر قبائلهم إلا في ذكر لا يخلو من ذكر عيوبهم دون التعرج إلى ضرب من العدل في ذكر شيء من محاسنهم...
وكأنهم نسوا أو تناسوا مقال من قال، فأصاب:
من ذا الذي ما ساء قــــــــــط***ومن له الحـــسن فقـــــــط
لذا فلما فات أرباب القلم فيهم ذكر شيئ من محاسن الأعيان غير أهل العلم في صحرائهم....
ذهب الشيء الكثير الحسن من تاريخ ألئكم الأعيان، كما لم يبق من ذكر محاسن القوم الآن في الغالب إلا ما يقص من مآثرهم الحميدة من هنا وهناك، أو ما يقصه عنهم من يسمى: آقُوتَنْ من خصال الفضل والكرم والشجاعة...
فزادوا لمدعي معرفة التاريخ وحبه وكتابته ونشاطهم فيه للخاصة والعامة من أهل القلم في محيطهم المعاصرين البعد عن واجبهم التاريخي، لأن طرقية: آقوتن أفقد ما يذكرونه ـ من محامد من يذكرونه ـ قيمته التاريخية، من معاني:
· العدل.
· الصدقة.
· النزاهة.
· العلم.
· الفضل.
وما في معنى ذلك مما ينبغي أن يتصف بها من يصف فضل غيره.
فكل صفة حميدة إذا نقصت من واصف فضل غيره، نقلت ذكر فضل غيره إلى حقيقة قول من قال: فذكر ذا وحذفه سيان.
وإلا فما يذكره (آقوتن) وبقية القصاص لمكارم القوم، لا يخلو من وجود شبه لمآثر تذكر مثلها عن أعيان مثل أعيانهم في مقام الفضل، فيقبل ما وافق شروط قبول مأثرة تاريخية منها، سواء ورد ما يذكر منها نثرا ونظما، كقول من قال:
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ***من شر أعينهم بعيب واحد
وفي مقام الشجاعة، كقول من قال:
إذا ولد المولود منا تهللت***له الأرض واهتزت له المنابر
وكقول الآخر:
لا يملأ الهول قلبي قبل وقعته***ولا أضيق به ذرعا إذا ما وقعا
وكقول الآخر:
صبرت سليم للطعان وعامر***وإذا جزعنا لم نجد من يصبر
قلت: أو لا يوجد من رجالات صحراء أزواد خاصة الطوارق من تحقق له مثل ذلك الفضل؟