التمهيد
إنه ما من أمة إلا جرت عليهم نعم ومنن من الله البر اللطيف، منها ما بلغ ذروة الحسب العزيز، أو ذروة النسب الشريف، أو هما معا.
لذا فمن الضروري في ذلك ما علم من تفاوت أرباب وبناة المجد الشامخ، من أولي كل أثر أبلج كريم حميد باذخ.
وكل من أثر له على أثر من تلك المآثر، فليعلم أن من وراء تلك الآثار، من ذكرها ذكر المحامد، ثم تناقلها النقلة نقلا بلغ بها حد التقييد الخالد، فمنهم من قيدها ضمن مآثر الآخرين جملة أو تفصيلا، أو هما معا، ومنهم من قيدها مفردة...
هذا ولأهل تلك التقييدات من المؤرخين مناهج، منهم من ذكر كل مأثرة حميدة، ويغض طرفه على الأخرى السيئة على ضوء قول من قال:
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا***ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
وهذا المذهب هو الذي ارتضيته لنفسي في ذكر تواريخ أهل أفقنا، إذ لم تدع ضرورة شرعية بذكر غير المحاسن...
فإذا دعت ضرورة شرعية إلى ذلك تعبدنا الله بذكر ما نعلم ـ بإذن الله تعالى ـ وذلك يتمثل في كل مأثرة يبنى عليها حكم شرعي، فيذكر ما فيه من صواب وخطأ... ـ حسب علمي به ـ أما المآثر التاريخية المحضة، فأذكر ما يحمد منها ـ بإذن الله تعالى.
وكل يعلم أنه ليس كل أحد معصوما من الخطأ غير رسل الله وأنبيائه ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وعودا لذي بدء: إلى ما تقدمت إليه الإشارة التدوينية فإنها بها دونت الآثار المدونة لأربابها على أرجاء المعمورة عربا وعجما.
لذا فمن المدونين من يدون كل شيء صحيح وسقيم من غير تنبيه أو بتنبيه، ومنهم من ينتقي ما يروي ومن يروي عنه على نهج قول القائل:
قوم أحاديثهم سرد الحديث على***ما صح متنا وإسنادا على نسق
وهذا الصنف هم أجل قدرا ونفعا ونصحا، وعلى نهجهم أنهج ـ حسب جهد المقل.
فلذلك لا أروي ألا ما جاء مسندا إلى راو، وهو عمدة النقل، وعليه عهدة الرواية...
ولا أروي أيضا إلا على مشاهير فضلاء في أقوامهم.
فأروي عنهم لأرباب مآثر جهتهم أيضا ما هو من الخصال الحميدة، وخاصة المذكورة في هذا البيت:
ما يحسد المرء إلاّ من فضائله**بالعلم والحلم أو بالبأس والجــــود