عرض مشاركة واحدة
قديم 05-26-2010, 11:31 AM   #4


اليعقوبي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 46
 تاريخ التسجيل :  Feb 2009
 أخر زيارة : 07-20-2020 (12:54 AM)
 المشاركات : 668 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: التلقب بالشريف للشيخ حاتم الشريف (1)



... تابع مقال الشيخ حاتم الشريف حفظه الله ...
حكم التلقب بالشريف:
ومن هنا أدخل في المسألة التي من أجلها كتبتُ هذه المقدّمة، وهي حكم تلقّب آل البيت بالأشراف في الشرع المطهّر:
وتلقُّبُ آل البيت بالأشراف قديمٌ، لا يُعلم متى بدأ؛ إلا أنه كان معروفًا من القرن الهجري الثالث. وليس في ذلك ما له علاقة بالحكم الشرعي لهذا اللقب، إلا لمن أدخل التلقّب به في باب البدع! فإنه إن قصد البدعة الشرعيّة التي شَرْطُها أن تكون أمرًا في الدين وبقصد التعبُّد، فهو مخطئ خطأ واضحًا؛ لأن التلقّب بالشريف من أمور الأعراف والعادات الدنيويّة التي ليست من الدين، ولا هو عبادةٌ ولا يُقصد به العبادة. ولذلك لم يقل أحدٌ (لا عالم ولا جاهل) إنه لا يجوز إحداث ألقابٍ أو أسماءٍ إلا لقبًا أو اسمًا كان على زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وما زال الناس يتلقَّبون وتتجدّد لهم ألقابٌ وأسماءٌ لأنسابٍ لم تكن في زمن السلف الصالح، ولا نكير عليهم من أهل العلم، بل يشاركهم في ذلك أهل العلم أنفسهم، ولا وُصفت بالبدعة لذلك. فإنكار التلقّب بالشريف بدعوى البِدْعِيّة، هو البدعةُ في الفتوى، والتي لم تكن في زمن السلف ولا الخلف. وأمّا إن أراد الواصف لهذا اللقب بالبدعة البدعة اللغويّة، فمعلوم أنّ ذلك لا علاقة له ببيان الحكم الشرعي.
وبناءً على ذلك، من أن باب الألقاب الأصل فيه الإباحة، كما هي القاعدة في الأمور الدنيويّة، حتى يقوم الدليل على التحريم = يكون التلقّب بالشريف مباحًا حتى يقوم الدليل على التحريم.
ومع وجود الممتعضين الكارهين لهذا التلقّب، إلا أنّي لم أقرأ بحثًا علميًّا مؤصّلاً يستدلّ لتحريمه بغير ما سبق. وهذا الإفلاس في الاستدلال على التحريم، وشحّة الأدلّة إلى درجة عدم الوجود، ممّا يكفي لبيان ضعف هذا الرأي، وعدم صحّة ذلك الموقف.
إلا أني قد سمعتُ وقرأت قليلاً من المقالات الصحفيّة، وليست بحوثًا شرعيّةً علميّة، لبعض الكارهين لهذا التلقّب، فوجدتُهم يحومون في كراهيتهم حول معاني، بنوا عليها موقفهم القلبي تجاه هذا اللقب وتجاه المتلقّبين به.
المعنى الأول (وهو أظهر هذه المعاني) : إنكار فضل آل البيت جملةً وتفصيلاً، وأنهم كبقيّة الناس، لا حقّ لهم إلا حق الإسلام وحده. ولذلك تجدهم يحتجّون بمثل قوله تعالى: "ا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13]، وبمثل قوله –صلى الله عليه وسلم-: ((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) (أخرجه الإمام أحمد: رقم 22978)، على أنه لا فضل لآل البيت على غيرهم، وأن اعتقاد فضلهم نعرةٌ عرقيّة ودعوةٌ جاهليّة.
ونسي هؤلاء أنّ ما يقولونه مخالفٌ لما عليه أهل السنّة والجماعة، وقد نقلنا سابقًا قول إمامين منهم، وهما: محمد بن عبدالوهاب، وأحمد بن حنبل؛ وإلا فالأمر محلّ إجماع عند أهل السنة. فكيف يجيز مسلمٌ لنفسه أن يدّعي فهمًا في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخالف إجماع الأمّة؟! ألم يكن يكفيهم أن يعلموا أنهم مخالفون للإجماع عندما نفوا فضيلة آل بيت النبوّة، احتجاجًا بتلك النصوص؟!
أَوَنسي هؤلاء أيضَا النصوصَ الأخرى الكثيرةَ الدالّةَ على فضل العرب على العجم، حتى عُدَّ منكر فضل العرب من الطوائف المبتدعة، وسُمُّوا عند أهل السنة بالشعوبيّة؟! (1).
أَوَنسي هؤلاء ما عقده أئمة السنة والدين من أبواب في كتب الصحاح وغيرها، وما ألّفوه من مؤلفات مفردة في فضل قريش وغيرها من قبائل معيّنة من قبائل العرب، وأوردوا في تلك الأبواب والكتب الأحاديث النبويّة الصحيحة الدالّة على ذلك؟!
أَوَنسي هؤلاء ما صحّ في فضل آل البيت النبويّ من الكتاب والسنة، والذي سبق شيءٌ يسيرٌ منه؟!
ألا يخشون على أنفسهم الدخول في قوله تعالى: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"[البقرة:85].
كان الواجب على هؤلاء الرجوع إلى أهل العلم ليبيّنوا لهم كيف يفهمون نصوص الوحيين بما لا يعرّضها للتكاذب والتعارض، ولكي لا يقعوا في الهوى المهلك بالإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض.

تفضيل نسب على نسب!
ولكي أُقرّبَ لهؤلاء فكرة تفضيل نسب على نسب، وعلاقة ذلك بالفضيلة الأخرويّة، دون أن يكون لهذا التفضيل معنى الطَّبَقيّة المقيتة التي حاربها الإسلام، ودون أن يؤدّي ذلك إلى تَوَهُّمِ تشريع العنصريّة التي نفاها وضادّها الشرعُ المطهَّر؛ فإني أقول:
أولاً: إن الإسلام لم يفرّق بين الناس في الفروض من الأوامر والنواهي، ولا أباح على شعب ما حرّمه على شعب، ولا استعبد أمّةً لأُمّة. بل ليس في الإسلام تقريرُ إذلال إنسان لجنسه أو عرقه أو لونه، ولا يستجيز دينُ الله تعالى أن يعتديَ أحدُ على أحد، ولا أسقط الإسلام حقًّا لشخص لأنه غير شريف النسب، ولا أجاز التغاضي عن معاقبة الشريف إذا ظلم أو اعتدى أو أتى حدًّا من حدود الله تعالى.
ثانياً: إن شرف النسب، والذي يبدأ من تفضيل العرب على العجم، وينتهي بتفضيل نسب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنساب = هو هِبةٌ ربّانيّة، كبقيّة الهبات الإلهيّة: كالغِنَى، وقوّة البدن، وجمال الصورة، وطول العمر، ونحوها من النِّعَمِ والأقسام الربّانيّة. ولا شك أن الناس يتفاوتون في هذه الهبات تفاوتًا كبيرًا، وربّما توارث جنسٌ من البشر شيئًا منها: كالجمال، أو قوّة الأبدان. فكما لا يصح الاعتراضُ على هذه الهبات الربّانيّة والأقسام الإلهيّة، كذلك لا يصحّ الاعتراض على شرف النسب: لِـمَ أُعْطيَ فلانٌ ولمْ يُعْطَ فلان ؟!!
ولا شك أن تلك الهبات الربّانيّة الظاهرة، كالغنى، وقوّة البدن، وطول العمر = ممّا يُعينُ على فِعْل الخَيرات والاستكثار من الحسنات، وهي بذلك تكون سببًا في رفعة الدرجات في الآخرة، وإلى أن تعلوا بصاحبها في جنّات النعيم. فالغنى: عونٌ لصاحبه في الخير، ويَفْتَحُ له أبوابًا في الإنفاق في سبيل الله تعالى لا تُفْتَحُ للفقير: ((ذهب أهل الدثور بالأجور)) (2). وقوّة البدن: تجعل صاحبها أقوى على جهاد أعداء الله تعالى، وأقدر على نصرة الإسلام، وأقوم في مواطن الصدع بالحق: ((المؤمن القويّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) (3). وطول العمر: سببٌ في الاستكثار من زاد الآخرة: صلواتٍ، وأذكارٍ، وأعمالٍ صالحة: ((ألا أخبركم بخياركم؟! أَطْوَلكم أعمارًا، وأحسنكم أخلاقًا)) (4).
فأنت ترى أن هذه الهباتِ الربّانيّةَ الدنيويّةَ قد صارت أخرويّةً أيضًا، عندما أعانت المُنْعَمَ عليه بها في فعل الخير واكتساب الثواب. فالهبة الربّانيّة أصلها دنيوي، لكنّها عندما أحسنَ صاحبُها عَمَلَه فيها أصبحت أخرويّة، ونفعت صاحبها في النجاة من عذاب الله تعالى والفوز بجنّاته.
فكما تحقّق ذلك الفضل الأخروي بسبب تلك النّعم والهبات الربّانيّة، فكذلك الشأن في النسب الشريف، بجامع أنّ هذه الهبات جميعها (بما فيها النسب الشريف) عونٌ لصاحبها على الخير. فإنّ الله تعالى قد جعل في طباع صاحب النسب الشريف ما يُيسِّرُ عليه حَمْلَ هذا الدين، ويكون بذلك الطبع أقدر على إقامة شرع الله تعالى من غيره. ولذلك فإن الله تعالى عندما اصطفى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- اصطفاه من أصرح العرب نسبًا، بل هو –صلى الله عليه وسلم- أفضلهم على الإطلاق نسبًا، واختار لوحيَيْه (الكتاب والسنّة) أن يكونا بلغة العرب، وتعبّد الناس بهذه اللغة في القرآن والصلوات والأذكار والتفقُّه في دين الله تعالى، وَحَبَا العربَ بأن جعل القبلة والمحجّة والمشاعر ومسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في بلادهم، وما كان ذلك الاصطفاءُ والاختيارُ والحِباءُ إلا لحكمةٍ بالغة، منها: أن أداء واجب حَمْل هذه الشريعة الخاتمة العالميّة كان العربُ أقدرَ الشعوب عليها جِبِلّةً وطبيعة (5) ، ولذلك كانوا هم أول من حمل راية الإسلام، ففازوا بأن نالوا أجر من دخلوا في دين الله تعالى بدعوتهم وفتوحهم التي كسروا بها أسوار الطواغيت الصادّة عن سماع دعوة الحق. وهذا ما قرّره علماء المسلمين، كشيخ الإسلام ابن تيميّة، في بيان فضل العرب وسبب هذا الفضل، وأنه بسبب ما حباهم الله تعالى به: في العقول والألسن والأخلاق والطباع. (انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 1/447، ومن أوّل هذا الفصل: 1/419-461).
ومن ثَمَّ يكون شرفُ النسب سببًا لرفعة الدرجات في الجنّة، من جهة أنه أعون لصاحبه على العمل الصالح، كما أنّ الغنى وطول العمر وقوّة البدن عونٌ على العمل الصالح أيضًا. وكما وجب على الناس الرضا بقَسْمِ الله تعالى في الغنى وقوّة البدن وطول العمر وجمال الصورة، وجب عليهم ذلك في شرف النسب "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" [الجمعة:4].
وبذلك يتّضحُ أن العطاء الربّاني المحض، قد يرفع مؤمنًا على مؤمن في الآخرة. وكما نطالب الناس أن يرضوا بعطاء الله الدنيوي، نطالبهم بالرضى بعطاء الله الأخروي، بجامع كونها كلها عطاءات ربّانية، ولعلاقة العطاء الدنيوي بالأخروي كما قدمناه!
وفي الحديث الصحيح: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم: كما بين صلاة العصر وغروب الشمس. أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا. ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأُعْطُوا قيراطًا قيراطًا. ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتابين: أيْ ربَّنا، أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنّا أكثر عملاً! قال الله: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشا)). (صحيح البخاري: رقم 557).
فنقول لمن لم يؤتَ النسبَ الشريف أو الغنى أو قوّة البدن أو طول العمر: لن يظلمك ربك من عملك شيئًا، وسيجازيك ربك بإحسانك وإساءتك، وأمّا فضله سبحانه: فهو حقٌّ له تعالى يؤتيه من يشاء.
ثالثـاً: أنّ من تمام حبّ الله تعالى لعبده المؤمن، أن يكون عند حُسْنِ ظن العبد به سبحانه، فيحفظه في عقبه، ويَـخْلُفُه فيهم بخير، ويشفّعه فيهم يوم القيامة، ويرفعهم إلى درجته في الجنّة. وقد سبق الاستدلال على ذلك بالكتاب والسنّة، ومن الأدلّة عليه أيضًا ما جاء في قصّة الخضر –عليه السلام - مع موسى –عليه السلام- : "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً" [الكهف:82]. فصحّ عن ابن عباس (أنه قال في تفسيرها: ((حُفِظا بصلاح أبيهما، وما ذُكر منهما صلاح)). [أخرجه ابن جرير في تفسيره: 15/366، والحاكم وصححه: 2/369]. فعلّق الحافظ ابن كثير على ذلك بقوله في تفسيره (5/186-187) : «فيه دليلٌ على أن الرجل الصالح يُـحْفَظُ في ذُريّته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنّة، لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنّة. قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: حُفظا بصلاح أبيهما، ولم يُذكر لهما صلاحٌ. وتقدّم أنه كان الأب السابع».

سبب مكانة آل البيت؟
وبهذا يتبيَّن أن مكانةَ آل بيت النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عند ربهم –عز وجل- هي بسبب مكانة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- من ربّه –عز وجل-، وأن هذه المكانة لآل البيت هي من تمام جزاء الله تعالى ومكافأته لحبيبه المصطفى –صلى الله عليه وسلم-، ومن عظيم ما قضى له ربّه –عز وجل- من الكرامة والإعظام والإحسان والتقريب والتشريف!!
وهنا يتّضح أن هذا التقرير لا يعارض قول الله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13]، ولا قوله –صلى الله عليه وسلم- : ((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ))؛ لأن معنى هذين النصين وما في معناهما: أن الذي ينفع الإنسان من جهة نفسهِ تقواه، وأن ما يستحقّه من رفعة المكانة عند ربه –عز وجل- من كَسْبه هو ما عمل من الباقيات الصالحات. ولا ينافي ذلك وجود أسباب للثواب الأخروي وللرعاية والحفظ الدنيوي غير عمل المرء نفسه، كدعاء الناس له، والولد الصالح خاصّة (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: ... أو ولد صالح يدعو له )). [مسلم:1631].
فهذان النصّان جاءا إذن ليبيّنا وَجْهَ التفضيل الذي يستحقّه الإنسان من جهة نفسه، دون أن يكون لأحدٍ عليه فيه فضل. ولا ينافي ذلك أن يكون من بقيّة ثواب المؤمن نَفْعُ من رغب المؤمنُ وأحبّ من ربّه –عز وجل- أن يعاملهم بعفوه وغفرانه وفضله وإحسانه، ويكون هذا حينها من تمام جزاء المؤمن على إيمانه. وكما لا يُعترضُ على أن يُثاب المسلم بدعاء غيره له، وأنه يُرفع فوق منزلة عمله بغفران الذنوب ومضاعفة الأجور الذي تفضّل به ربُّه عليه بسبب ذلك الدعاء = لا يُعترض أيضًا على أن يُثاب المؤمن بثواب جدّه الصالح، الذي حُفظت ذريّتُه بسبب صلاحه، ورُفعوا إلى درجته في الجنة بسببه أيضًا.
كما أنّ هذين النصين جاءا ليبيّنا أيضًا السبب الأكبر لرفعةِ المكانة عند الله تعالى، والسبب الذي جعله الله تعالى برحمته حقًّا للعبد يجازيه به في الآخرة: ألا وهو التقوى والعمل الصالح. أمّا ما يحقّقه الله تعالى للعبد الصالح في أصوله أو فروعه من ثواب دنيويّ أو أخرويّ، فهذا مَحْضُ تَفَضُّلٍ من الله تعالى وإنعام، فلا يصح أن يكون سببًا للتواكل عليه من أحد من أصوله أو فروعه.
وبهذا الجمع بين النصوص، وبعد هذا التأليف بين معانيها: لا يبقى هناك وَجْهٌ لادّعاء أنّ إثبات فضل آل البيت وحقوقهم الذي جاءت به النصوص، ينافي محاربةَ الإسلام للعنصريّة وإنكاره للطبقيّة العرقيّة المذمومة الذي جاءت به النصوص أيضًا؛ لا يبقى لهذا الادّعاء وَجْهٌ بعد هذا التقرير، الذي جمع بين النصوص، فلم يُبْقِها وكأنّ بعضها يكذّب بعضًا.
كما أن إثبات هذا الفضل الأخروي لآل البيت، وبيان عدم تعارضه مع نصوص الشريعة ومقتضيات الإيمان بحكمة الله تعالى وعدله، يدل على أن إثبات الفضل الدنيوي لآل البيت أولى بالقبول وأحرى بالتسليم، ويدل على أنّ تقديمهم وإجلالهم في الدنيا ممّا لا يعارض أيضًا نَفْيَ الإسلام للطبقيّة ومُحَارَبَتَهُ للعُنْصريّة.
لأقول بعد هذا البيان:
فالذي لا يعترف بشرف نسب الأشراف الذي أجمع عليه أهل السنة بعد ذلك كلّه، والذي يعارض في إثبات ما لهم من حقوق على أمّة محمد –صلى الله عليه وسلم- وفضائل يجعلها أهل السنة إحدى شعب الإيمان = لا نناقشه في هذا المقال، حتى نعرف: من أي الطوائف هو؟ إن رضي أن يخرج عن دائرة أهل السنة، وعن دائرة الشيعة أيضًا!!!
وأمّا إن وجد باب إنكار شرفِ النسب وإنكار حقوقهم وفضائلهم بابًا مغلقًا، لكونه سيخرج بذلك عن معتقد أهل السنة، فلجأ إلى الطعن في الأنساب والتشكيك فيها؛ فإنا نقول له: هل تشكّ في كل أنساب آل البيت؟ أم في بعضهم؟ إن كان في البعض، فأثبت شرف نسب البعض الآخر الذي لا تشك فيه: واعترف لهم بحقوقهم، وقُمْ بما يُوجبُه عليك فَضْلُهم. وإن كنتَ تشكُّ في الكل، قلنا لك: لا يحقّ لك أن تشك لمجرّد الجهل بأنسابهم وطريقة حفظها وتوارثها، ولا يحق لك الشك لمجرّد الشكّ؛ لأنك لا تريد إلا الشكّ. فعليك أن تتعلَّم علم الأنساب من أهله، لتعلم كيفيّة التحقق من النسب الأصيل من النسب الدخيل؛ إلا إذا كنت تحب أن تجعل الجهل حجةً على العلم!
ومثل من يشك في أنساب آل البيت بدعوى أنه قد اختلطت عليه أنساب الأصلاء منهم بالدخلاء، وأنه لذلك لا يميز بينها، مثله كمن يشك في السنة النبوية بدعوى أنه قد اختلط عليه صحيحها بضعيفها بموضوعها، وأنه بسبب عدم قدرته هو على التمييز شك في السنة كلها. ومثله أيضاً كمثل من يدعي عدم معرفته للحق، بحجة اختلاف الفرق والنحل، وأنه ما عاد يعرف كيف يميز بين الحق والباطل، والذي يجمع هؤلاء جميعاً: أنهم قد جعلوا الجهل حجة على العلم، وأنهم جميعاً لم يرجعوا إلى أهل العلم والاختصاص لمعرفة الحق فيما خفي عليهم.
وأقول لهؤلاء المشكّكين: لولا أن أنساب آل البيت ستبقى ظاهرةً بيّنةً، وعَلَماً لا يخفى عند الناس، لما جعل الشارع الحكيم على لسان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أهمَّ علامةٍ للمهدي المنتظر: أنه من آل النبي –صلى الله عليه وسلم-! فلو كانت أنساب آل البيت ستندثر، أو سيختلط فيها الصادق بالكاذب بغير تميُّزٍ، لما صحَّ أن تكون علامةً لمن لم يظهر حتى الآن.
فدعوا التشكيك، فإن الأمة لا تُصغي إلى من يعارض يقينيّات التواتر، كأنساب آل البيت المحفوظة المشهورة.
وبذلك يندفع المعنى الأول الذي يستند إليه من ينكر لقب (الشريف) لآل البيت، وأحسب الملبَّس عليه به سيترك إنكاره، إذا ماكان مبتغيًا للحق الواضح.
أما المعنى الثاني: فهو أنّ في هذا اللقب تزكيةً للنفس، وقد نهى الشارع عن تزكية النفس.
ومن المعلوم أن لقب (الشريف) هو لقبٌ متعلّقٌ بالنسب، والمقصود به بيان انتساب صاحبه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، فالمقصود بلقب (الشريف) : أي صاحب النسب الشريف. وهذا لا خلاف فيه، أن صاحب هذا النسب قد أنعم الله تعالى عليه بأشرف الأنساب الشريفة من بني آدم –عليه السلام-.
فإذا تبيَّنَ هذا، يكون التلقُّبُ بالشريف ليس من باب تزكية النفوس في شيء؛ لأن تزكية النفس التي جاء النهي عنها هي تزكيتها من الذنوب والمعاصي، أي هي ادّعاء الإيمان والتقوى والقيام بحق الله تعالى.
فانظر كلام محمد بن جرير الطبري في تفسيره (22/70-71)، عند قوله تعالى: "فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"[النجم:32]، مع أن الآية وخاتمتها واضحةٌ في بيان التزكية المنهي عنها، وأنها التزكية بالتقوى.
وانظر كلام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (5/246)، عند قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً" [النساء:49].
وانظر كلام محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (6/177-178 من الطبعة الجديدة)، عند قوله تعالى: "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ" [النور:21].
إذن فتزكية النفس المنهي عنها لا علاقة لها بلقب (الشريف)؛ لأنّ هذا اللقب ليس فيه تزكية لإيمان المتلقّب به، وإنما هو تزكية لنسبه. فلا يصحّ ادّعاء عدم مشروعيّة التلقّب بـ(الشريف) بحجّة أنها تزكيةٌ للنفس؛ لأن (الشريف) تزكيةٌ للنسب الزاكي حقًّا.
ومن المعلوم أن لقب (الشريف) لقبٌ لآل البيت النبويّ، فلو تلقّب الشريف بـ(النبوي) لصحّ ذلك؛ لأنّه من ذريّة النبيّ –صلى الله عليه وسلم-. وعندها سأسأل: أي اللقبين أكثر بعدًا عن تزكية النفس: (الشريف)؟ أم (النبوي)؟!
وبذلك ننتهي من السبب الثاني الذي يمتعض لأجله مُنْكرُ لقبِ (الشريف)، بما أرجو أن يزول معه امتعاضُه، وأن تسخو نفسُه لغيره بهذا الوصف الموافق للحقيقة: أن الشريفَ شريفُ النسب حقًّا.
وأمّا المعنى الثالث: فهو أنّ تلقُّبَ المتلقبين به فيه تعالٍ وتكبُّرٌ على الناس، وأنه ضربٌ من الافتخارِ المتضمّنِ احتقارَ الآخرين. وأدلّة تحريم التكبُّر والتعالي ... وتلك الأخلاق الذميمة أشهر من أن تُورَدَ للاستدلال بها على ذلك.
والجواب عن هذا المعنى يكون بعد تقرير المسألة علميًّا، بعيدًا عن هذه الإجمالات والإسقاطات غير العلميّة.
فهل مجرّد التلقّب بـ(الشريف) يُوجب التكبّر والتعالي على الناس؟ ما دليل هذا الإيجاب؟
إنّ ذكر المرء ما أنعم الله تعالى عليه من النعم، كأن يقول: أنا غنيّ، أو قويّ، أو نسيب، أو غيرها = لا يكون بمجرّده تكبّرًا وتعاليًا؛ إلا إذا كان قد قصد بالذكر التكبّرَ والتعالي. أما إذا قصد بهذا الذكر معنىً آخرَ غيرَ مذموم، فلا يكون ذكره لتلك النِّعَم بمجرّده ممنوعًا، كما قال –صلى الله عليه وسلم- : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ...)).
وكذلك التلقّب باللقب الذي فيه تشريف، إذا كان بحقّ، كلقب الأمير لمن كان أميرًا حقًّا، والمدير لمن كان مديرًا، ومفتي القطر الفلاني لمن كان مفتيَه، والدكتور لمن نال شهادة الدكتوراه (بغض النظر عن أي وجه آخر لكراهية هذا اللقب) = كلّها ألقابٌ لا يلزم من التلقّب بها أن يكون صاحبها متكبّرًا متعاليًا، ولا يلزمُ أن يكون مقصوده من التلقّب بها الفخر والخيلاء. لقد تلقّب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بـ(أمير المؤمنين)، وقبله أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- بـ(خليفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-)، وهما لقبان تشريفيّان. وتلقّب الأوس والخزرج بالأنصار، وما زال الرجلُ مِنْ ذريتهم يتلقّب (ممّن صحّت نِسْبَتُهُ إليهم) بالأنصاري، وهي نسبة تشريفٍ لعمل أخروي، هو مناصرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. وقبل ذلك تلقّب سيدُ الأولين والآخرين برسول الله ونبي الله –صلى الله عليه وسلم-، ولا كان في ذلك إلا الحق، ولا كان ذلك من الكبر والتعالي في شيء. فلمَ كان (الشريف) وحده الذي يقتضي التكبّر والتعالي؟!!!
وهذه الألقاب التي لم ينكرها أحد، مع تضمّنها معنى التشريف لصاحبها، عامّتُها إنما تلقّب بها صاحبها ابتداءً. بخلاف لقب (الشريف)، الذي تلقّب به آل البيت من قرون طويلة، فأصبح عَلَماً لهم، ولقبًا يدل على قبيلٍ من الناس، كما تلحقُ ألقابُ الأجدادِ الأحفادَ، وكما يرث الخلفُ لقب السلف في أنساب القبائل والبلدان والصنائع. وهذا التوارث للقب (الشريف) يجعله أولى قبولاً من لقب حادث؛ لأن تقصُّدَ التعالي والتفاخر فيه أبعد من اللقب الذي يستحدثه المرء لنفسه؛ من جهة أن اللقب الموروث ينشأ صاحبه وهو ملازمٌ لاسمه، ويشاركه فيه غيره من أبناء قبيلته الكبيرة، فلا يكون له في نفسه ما للقب الذي ينفرد به ويبتدئه هو دون من سبقه من آبائه وأجداده.
المقصود: أن لقب (الشريف) لا يلزم منه التكبّر والتعالي، ولا دليل على أن كل تلقّب به لا بُدّ أن يكون محتقرًا لعباد الله مستخفًّا بغيره.

---------------------------------------هوامش من أصل مقال الشيخ -----------------------------------------

(1) انظر كلام حرب الكرماني في مسائله للإمام أحمد وإسحاق (361، 365)، وكلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في اقتضاء الصراط المستقيم (1/419-461).

ولابن قتيبة الدِّيْنَوري (ت276هـ) كتابٌ مفردٌ مطبوع في بيان فضل العرب والردّ على الشعوبية، وهو كتاب (فضل العرب والتنبيه على علومها)، وللحافظ زين الدين العراقي (ت806هـ) كتاب مطبوع: (محجّة القُرَب في فضل العرب).
(2) صحيح البخاري (رقم 843)، وصحيح مسلم (رقم 595).
(3) صحيح مسلم (رقم 266)، وصحيح ابن حبان (رقم 5721، 5722).
(4) صحيح ابن حبان (رقم 484، 2981). وانظر أيضًا: مسند الإمام أحمد (رقم 1534)، وتهذيب الآثار لابن جرير الطبري - الجزء المفقود - (678-684)، وصحيح ابن حبان (رقم 2982).
(5) لقد أراد الله تعالى لدين الإسلام أن يكون دينًا خالدًا باقيًا إلى قيام الساعة، كما أراد الله تعالى له أن يكون أيضًا دينًا عالميًّا غير قوميّ. والخلود والعالميّة خصيصتان لم توجد في دين من الأديان قبل الإسلام، فكل الأديان -ما عداه- محدودة الزمن بالنسخ أو التحريف والضياع، ومحدودة المدعوين بها، فهي أديانٌ لأقوامٍ مخصوصين بها، لا تتجاوزهم إلى غيرهم، فضلاً عن أن تكون أديانًا عالميّة.
وكون الإسلام عالميًّا خالدًا يستدعي أن لا يكون اختيار أول المدعوين به مبنيًّا على قصد إصلاحهم به فقط؛ لأنَّ هذا المقصد هو نفسه الذي كان يُقصد من الأديان القوميّة والمحدودة الزمن، ولذلك كان الرسل الأُوَل عليهم السلام (قبل رسولنا –صلى الله عليه وسلم-) كالأطباء للمرضى، يُبعثون لأحوج الأمم للعلاج وأشدّهم داءً، وإن كانت تلك الأمم ليست مؤهلة لحمل الشريعة، ولذلك يُبعث النبيّ يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، ويُبعث النبيّ وليس معه أحد؛ لأن غرض إرسال الرسل هو إصلاح الفساد، أو إعذارٌ وإقامةٌ للحجّة. فقصد الإصلاح وحده هو القصد الأكبر من بعثة الرسل قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام بالأديان القوميّة غير الخالدة، فلا يمكن أن يكون قصد الإصلاح وحده سببًا لاختيار الأمة التي ستكون أوّل حامل للدين العالمي الخالد وهو دين الإسلام، بل لابُدّ أن يكون اختيارُ هذه الأمة التي ستتولى أمانة نشر هذا الدين دالًّا على أنها هي سيتحقق على لديها تمكينه في الأرض على وجه الخلود والعالميّة، وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت هي أولى الأمم بحمل الدين وأحقّها بتولّي قيادة الناس فيه، وهذا لا يكون إلا إذا كان نجاحُ دعوة الدين الأولى في تلك الأمّة أعظمَ نجاحٍ وأقواه. ولو كان في الأمم سوى تلك الأمّة من هي أقوم بهذا الدين منها، للزم من واجب تمكينه (خالدًا وعالميًّا) أن تكون هي حاملةَ الدين وقائدةَ الناس إليه دون غيرها.
فلمّا اصطفى الله تعالى خاتمَ الرسل من أصرح نَسبٍ في العرب وأفضلهم فيه، ولمـّا جعل الله تعالى مصدريه التشريعيين (الكتاب والسنة) على لغة العرب، وجعل القبلة والمحجّة ومسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في بلاد العرب، وغير ذلك من وجوه الاصطفاء الدالّة على قَصْد التشريف والتكليف = دلّ ذلك على أنهم أولى الأمم بحمل هذا الدين، وهذا لا يكون إلا إن كان العربُ أقدرَ الأمم على حَمْله، وهذا ما لن يحصل إلا إذا كانوا أكثر الأمم قبولاً لتعاليمه جبلّةً وطبيعة، وقد أثبتوا ذلك بتمكينهم للدين، ونشره في الخافقين، وبكونه سيبقى خالدًا عالميًّا تحقيقًا لموعود الله تعالى فيه، وتحقيقًا لأحقّيّة العرب بالاختيار الإلهي لهم ليكونوا هم أول حامليه، ولاستمرارِ ارتباط هذا الدين بالعرب لغةً وبلادًا.
قال الله تعالى عن القرآن الكريم: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ"[الزخرف:44]. أي: إن القرآن لَشرَفٌ لك يا رسولنا وشرفٌ لقومك أيضًا. (تفسير الطبري: 20/602-603).

.... يتبع....


 
 توقيع : اليعقوبي

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس