عرض مشاركة واحدة
قديم 06-19-2012, 08:53 PM   #6
عضو مؤسس


الصورة الرمزية م الإدريسي
م الإدريسي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 61
 تاريخ التسجيل :  Mar 2009
 أخر زيارة : 09-06-2012 (03:33 PM)
 المشاركات : 419 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
35 المحاورة بين الشاعر والقصيدة



في المقطع الآتي يطلعنا الشاعر على مضمون المحاورة التي جرت بينه وبين الزائرة الموقرة, بعدما فرغ من تهيئة سبل الراحة لها, من أجل التعرف عليها وعلى أبيها, ثم ينقلنا إلى شخصية الشيخ الشاعر (إغلس) الفذة, فيحدثنا عن مكانته في العلم والكرم والشجاعة ومحاسن الأخلاق, ثم يشيد بمبادرة (إغلس) المباركة في محاولة إنعاش النشاط العلمي في إقليمه, وكل ذلك بأسلوب عجيب ولغة جذلة رائعة, فيقول:

فقلتُ لها: ممَّن؟ أمن أهل بابلٍ... أبيني لنا, أم أنتِ من أهل فارس؟
فإن لا تكوني من أكارم قومهم... فمن كرْمهم, أو من بناتِ المَراقس
وإلا, فأنتِ دُرَّةٌ صدفيَّةٌ... ثوتْ حِججاً مغموسةً في المَغاطس
فقالت: أبي تَهذي, أبي؟ أوَ لم تكن... بأنسبِ نسَّابٍ وأفرسِ فارس
فقلتُ لها: سبحان منك! تنسَّبي... فقالت: ومنكَ! إنني بنتُ هاجس
فقلتُ لها: أيُّ الهواجس؟ إنني... أراكِ ابنةَ الوضَّاح خُس بن حابس
فقالت: لقد أعييتَني, فعِ أنتسبْ... فقلتُ لها: قولي, يعِ القولَ هاجس ي
فقالت: نماني (ابنُ اليماني), ومن تَطبْ... مغارسُه, يطبْ بطيب المَغارس
تبسيط المقطع السابق:
(فقلتُ لها: ممَّن؟ أمن أهل بابلٍ... أبيني لنا, أم أنتِ من أهل فارس؟
فإن لا تكوني من أكارم قومهم... فمن كرْمهم, أو من بنات المراقس
المفردات: بابل: اسم موضع بالعراق, ينسب إليه السحر والخمر, ويُقال ـ واللَّه أعلم ـ: إنّ اللَّه ـ عزّ وجلّ ـ لما أراد أن يُخالِفَ بين أَلْسِنة بني آدمَ بعث ريحاً, فحشرتهم من كلِّ أُفُق إلى بابل, فبلبل اللَّه بها ألسنتهم، ثمّ فرَّقتهم تلك الرِّيحُ في البلاد, والبَلْبَلةُ: بَلْبَلةُ الأَلْسُن المختلفة.
فارس: هم الفرس, والفارس: الحاذق بركوب الخيل, و صاحب الفراسة بالكسر الاسم من قولك تفرست فيه خيرا, وهو يتفرس أي يتثبت وينظر, تقول منه رجل فارس النظر.
أكارم: جمع كريم, والكرم: ضد اللؤم, السخاء وسعة الصدر, والصفح وحب الأخلاق الحميدة. يقال: تكرَّمَ فلان عما يشينه إذا تنزه، وأَكْرَمَ فسه عن الشائنات, الكرم شجر العنب والكرم أيضا القلادة يقال رأيت في عنقها كرما حسنا من لؤلؤ.
كرمهم: الكرْم العنب, ويسمي الكَرْمُ كرْماً؛ لأن الخمر المتخذ منه يحث على السخاء والكَرم, ويأمر بمكارم الأخلاق, فاشتقوا له اسما من الكَرَم للكَرم الذي يتولد منه, فكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسمى أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المرء المؤمن أولى بهذا الاسم الحسن وأنشدوا: والخَمْرُ مشتقَّة المعنى من الكرَمِ؛ ولهذا المعنى سموا الخمر راحاً؛ لأن شاربها يرتاح للعطاء أي يخفّ.
المراقس: جمع مرقس: من أسماء امرئ القيس, وسمي امرؤ القيس بذلك؛ لأنه كان يقول الشعر على لسان إبليس, ومرقس من أسماء إبليس عند الجاهلية, ولقب شاعر طائي، واسمه عبد الرحمن أحد بني معن بن عتود, واسم رجل من الرهبان.

المحتوى: بعد فراغ الشاعر من توفير سبل الراحة والطمأنينة لزائرته, فاتحها ليماقسها في حوار شيق لطيف؛ تأنيسا لها بمحاورته, حوار سيبقى لوحة فنية خالدة في المتاحف الأدبية, تخطف أنظار المرتادين, فقد استخدم هذا الفنان في تشكيلها مهاراته الفنية بكل إتقان, كما لونها بروائع التلاوين, وأودعها من الإشارات والإيحاءات ما يسلب الألباب مدى الأزمان, وتجلت فيها مقدرته الأدبية وثقافته الحضارية واضحة للعيان, فطاف بالحضارة العربية بفرسانها ومراقسها وشياطين شعرائها, ورهبانها وعماليقها وفصحائها, والحضارة الفارسية بكياسرتها وتيجانيها وتناميقها, وسحرتها, ودنانها وأباريقها, وغاص في محيطات البحار كل عميقها, كل ذلك محاولة منه لإدراك كنه زائرته بعد ما سحرته برونقها, وهي تتمايل في طريقها, وأسكرت عقله ببريقها, لا بارتشاف ريقها, وانطلق الحوار الشيق على مقتضى أدبيات استقبال الضيوف المكرمين, وقانون الدخول في خصوصيات الأذكياء المحترمين, فأبدى الشاعر لزائرته غاية الإعجاب بمنظرها, وطوى في ذلك الاستفسار عن مخبرها زيادة على ما فهمه من ملامح مظهرها, وكان الشاعر يحاول استجلاء حقيقة هذه الزائرة عن طريق سبر ما ظهر له من الصفات, فيضع أمامها مجموعة منوعة من الخيارات, فمن ناحية سلبها للعقول وتضليلها للأحداق, فيتوقع أنها قادمة من بلاد بابل في العراق, فهي لا تعدو أن تكون سحرا يغير النفوس ويعمي الأبصار, أم خمرا يغطي العقول بأكثف الأستار, وبالنظر إلى أبهتها في كسوتها وتاجها المزخرفين, إضافة إلى دهائها وذكائها الخارقين, فربما كانت قد نشأت تحت أفياء إحدى الحضارات القديمة, أوتربت في أحضان بعض الأسر الملكية العظيمة, إن لم تكن من بنات بعض الفرسان المعدودين, أو منتمية إلى واحد من البلغاء المشهورين.
وكأن الشاعر في البيت الثاني يحاول محاصرة زائرته بين ثلاث خيارات لا رابع لها, فهي في النهاية إما أن تكون من بنات هؤلاء الملوك وكرائم هؤلاء الكرام, وإما أن تكون عنقودا من عناقيد الأعناب التي تعصر منها الخمور التي تنسب إلى تلك البلدان, وإلا فهي من بنات امرئ القيس أو غيره من الشعراء المشهورين بالبلاغة الساحرة.

(وإلا, فأنتِ درةٌ صدفيةٌ... ثوتْ حِججاً مغموسةً في المغاطس)
(فقالت: أبي تهذي؟ أبي, أو لم تكن... بأنسب نسَّابٍ وأفرس فارس)

المفردات: درة: واحدة الدر, و هي اللؤلؤة العظيمة الكبيرة.
صدفية: منسوبة إلى الصدف, صدف الدرة غشاؤها, وكل شيء مرتفع عظيم كالهدف و الحائط و الجبل و الناحية و الجانب فهو صدف.
ثوت: ثوى بالمكان و فيه ثواء وثويا: أقام و استقر.
حججا: بوزن عنب, جمع حجة, والحجة بالكسر: السنة.
مغموسة: غمسه في الماء مقله فيه, ومَقَلهُ في الماء: غَوَّصَه فيه, يقال: غَمَست الثَّوبَ واليدَ في الماء، إذا غططتَه فيه.
المغاطس: الغطس في الماء الغمس فيه, الغين والطاء والسين أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على الغَطِّ. يقال: غطَطْتُه في الماء وغَطَسته.
أبي تهذي؟: أتهزأ بي: أتسخر بي؟ الهُزْءُ: السُّخْرية، يقال: هَزِيءَ به يَهْزأُ به، واسْتَهزأَ به، وتَهَزَّأَ به.
أبي: والدي.
أنسب نساب: أعلم بالأنساب, وأرق نسيبا, وأهدى إلى الصراط المستقيم, رجل نسابة أي عالم بالأنساب, والهاء للمبالغة في المدح, ونسبت الرجل ذكرت نسبه, النون والسين والباء كلمةٌ واحدة قياسُها اتِّصال شيءٍ بشيء. منه النّسَب، سمِّي لاتِّصاله وللاتِّصالِ به. تقول: نَسَبْتُ أنْسُِبُ. وهو نَسِيبُ فلانٍ. ومنه النَّسيبُ في الشِّعر إلى المرأة، كأنَّه ذِكْرٌ يتَّصِل بها؛ ولا يكون إلاَّ في النِّساءِ. تقول منه: نَسَبْتُ أنْسُِبُ. والنّسيبُ: الطريق المستقيم، لاتِّصال بعضِه من بعض, وبالمرأة نسبا ونسيبا ومنسبة شبب بها في الشعر. والنساب والنسابة العالم بالنسب. وهذا الشعر أنسب، أي أرق نسيبا.
أفرس فارس: أعلم بالفراسة, أثبت نظرا, وأحذق بركوب الخيل, فارس: أي صاحب فرس, و الفراسة بالكسر الاسم من قولك تفرست فيه خيراً, وهو يتفرس أي يتثبت وينظر, تقول منه رجل فارس النظر وفي الحديث { اتقو فراسة المؤمن } و الفراسة بالفتح والفروسة والفروسية كلها مصدر قولك: رجل فارس على الخيل, وقد فرس من باب سهل وظرف أي حذق أمر الخيل, وأحكم ركوبها فهو فارس بالخيل, وفلان صار ذا رأي وعلم بالأمور فهو فارس بالأمر عالم بصير, وفرسَ السبعُ فريستَه، إذا حَطَمها. ويقال: فَرسْتُ عنقَ الشَّاة، إذا اعتمدتَ على الفِقْرة ففصلتَها مِن الأخرى, الفاء والراء والسين أُصَيل يدلُّ على وطءِ الشَّيء ودقِّه, وممكنٌ أن يكون الفَرَس من هذا القياسِ؛ لركلِهِ الأرضَ بقوائمه ووَطْئِه إيَّاها.

المحتوى: يرخي الشاعر في هذا البيت ـ بسب إصرار من يحاورها على الصمت ـ للجواز العقلي زمامه, وكأن الشكوك تساوره في حقيقة هذا الشبح الماثل أمامه, فلم يعد بمقدوره ـ حسب ما يتظاهر به ـ التأكد من كون ما يقابله من الأجسام الناطقة أًصلا, فقد استعرض الممكنات الملائمات لمظهره فصلا فصلا, فنهاية سبره واستقرائه المستقصي وتقسيماته, تؤدي به إلى احتمال كون زائرته واحدة من الدر, بل من يتيماته, فبما أنها قد تحدت معرفته الواسعة المتجاوزة للحدود, فلتكن مع عظمتها وبهائها من الدرر العظيمة المعروفة بالركود, فلولا طول التزامها الاحتجاب بأعماق البحار, متلفعة بمروط أصدافها عن أعين النظار, لما طال التجوال مع نسابة بهذا الحجم في هذا المضمار, ويدرك الشاعر ما في العبارة من الاستهتار, والاتهام بالخفاء والاستتار, لكنها استفزاز تعمده كآخر خيار.
وهذا الأسلوب الأخير بما يحمله من استثارة واستفزاز, وبما يوحي به من اتهام بالخرس قد يستشفه من يفهم المجاز, إضافة إلى ما يحمله من الرمي بالاختفاء عن الأنظار, عكس ما ترنو إليه الغواني من سعة السمعة والاشتهار, هو ما أجبر به الشاعر زائرته إلى الخروج من صمتها بالاستنكار, كما هو شأن العظماء عند الاضطرار للانتصار, فقد كانت من العظمة والاشتهار بالمحل اللائق والمقام المجزي, فلا محمل عندها للاستفسار عنها إلا أن يكون صادرا ممن يستهزي, إلا أنها لطفت خطابها وحمّلته تنبيها, وبررت إنكارها بأنها معجبة بالشاعر صنو أبيها, ولم لاتعجب به وهو المصدّر في معرفة النسيب والأنساب, والمستمسك بأزمتهما بإجماع من الشيوخ والشباب, مع ما برز فيه من صدق الفراسة وصوابها, إضافة إلى ولوجه الفروسية من أوسع أبوابها, بجانب استحواذه من الأساليب على كامل نصابها, ولا يمكن إيجاد مبرر لاستنكارها ألطف من إبداء إعجابها؟!

(فقلت لها: سبحان منك! تنسَّبي... فقالت: ومنك, إنني بنتُ هاجس)

المفردات: سبحان منك: العرب تقول: سبحان مِن كذا، أي ما أبعدَه, وسبحان الله, معناه: التنزيه لله, وهو نصب على المصدر, كأنه قال أبرئ الله من كل سوء براءة, والتَّنْزيه: التبعيد.
تنسبي: عرفي بنفسك, اذكري نسبا ما, انتسب إلى أبيه، أي اعتزى.
ومنك: أي وسبحان منك.
هاجس: خاطر, هجس الأمر بالقلب هجساً وقع وخطر, فهو هاجس.

المحتوى: في هذا البيت قد سيطر الإعجاب على الشاعر أيضاً تجاه الجواب المقتضب السابق؛ لما ينم به تعبير الزائرة من شخصية واثقة ومنطق صادق, واستغرب من تمنعها المشوب بالترغيب, وبتظاهرها بالتباعد عن التصريح عكس ما يحاوله من التقريب! فما كان من محاورته اللبيبة إلا أن حاكته في التعبير, وأوجزت في الخطاب كما هو أدب الصغير عند مخاطبة الكبير, وقامت بصرف الكلام إلى وجهة غير التي يترقبها المحاور, فأفصحت بأنها لم تكن إلا من بنات الخواطر.

(فقلتُ لها: أي الهواجس؟ إنني... أراكِ ابنةَ الوضَّاح: خُس بن حابس)

المفردات: الهواجس: الخواطر, جمع هاجس.
أراكِ: أعلمك, الرؤية بالعين تتعدى إلى مفعول واحد, وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين.
الوضاح: الوضاح الرجل الحسن الوجه, وجَذِيمة الأبْرَش بن مالك بن فَهم الأزدي: بعض ملوك العرِب, الوضح: بياض الصبح والقمر والغرة والتحجيل في القوائم وغير ذلك من الألوان.
خس بن حابس: الخس - بالضم - : اسم رجل، ومنه هند بنت الخس, من العماليق, الإيادية التي جاءت عنها الأمثال, وكانت معروفة بالفصاحة نقله ابن دريد, وقال: الخس اسم رجل من إياد معروف، وهو أبو ابنة الخس. وفي نوادر ابن الأعرابي: يقال فيه خس وخص - بالسين والصاد - ، وهو خس بن حابس بن قريط الإيادي. وقال أبو محمد الأسود: لا يجوز فيه إلا الخس - بالسين .

المحتوى: ما كانت هذه المصارحة السابقة لتختطف الشاعر كما هو هدف زائرته, فالذي يحلو لذائقتها من الإيجاز والاختصار ليس متلائما مع ذائقته, فما يرضى أن يطفو على السطح ولا أن ينعتق من الإغراق, فلم يزل عنده من النفس ما يكفي لمواصلة السباحة في الأعماق, فها هو ذا لا يسمح بأن يعرج على الحقيقة ذلك التعريج, إذ لا مناص من الانتهاء إليها ولكن بالتدريج, فيتساءل ما إذا كان بالإمكان أن تتساقط هذه الدرر النفائس, من بين ثنايا فتاة سوى بنات السادة الأشاوس, فنراه يلجأ إلى الحدس بعيدا عن مدركات الحس, ليحكم على محاورته بأنها هند بنت الخس, فهي التي تضرب بفصاحتها الأمثال, كما كانت آباؤها من العمالقة الأقيال.

(فقالت: لقد أعييتَني! فعِ أنتسبْ... فقلتُ لها: قولي, يع القولَ هاجس ي)
(فقالت: نماني (ابنُ اليماني) ومن تطب... مغارسُه, يطبْ بطيب المغارس)

المفردات: أعييتني: أفحمتني وأعجزتني, والعي ضد البيان, وقد عي في منطقه فهو عي, و عيي يعيا فهو عيي, ويقال أيضا عي بأمره و عيي إذا لم يهتد لوجهه, وأعياه أمره, والمعاياة أن تأتي بشيء لا يهتدى له.
ع: احفظ, وعى الحديث يعيه وعيا: حفظه, وَوَعَى العَظْمُ: إذا انجَبَرَ بعدَ كَسْرٍ.
واجسي: ذهني, الواجس: الهاجس = الخاطر, والواو والجيم والسين: كلمةٌ تدلُّ على إحساسٍ بشيءٍ وتسمُّعٍ له. تَوَجَّس الشَّيءَ: أحَسَّ به فتسمَّعَ له.
نماني: نمى الرجل إلى أبيه نسبه, و انتمى هو: انتسب, ونميته: رفعته، وعزوته.
ابن اليمان: هو الشيخ الشاعر (إغلس بن محمد بن اليمان), صاحب القصيدة التي يستجيب لها الشاعر.
مغارسه: منابته, جمع مغرس, وهو موضع الغرس, غرس الشجر ونحوه غرسا: أثبته في الأرض.

المحتوى: إلى هنا أدركت الزائرة الكريمة أن مجال جليسها في الخطابة رحب فسيح, وأنه لا ينوي أن يرفع عنها بالكنايات كلفة التصريح, فهي مضطرة إلى تقديم بطاقتها التعريفية وبكل توضيح, فاعترفت بالعجز عن مجاراة هذا البليغ الفصيح, في ميادين الاستعارة والكناية والتلميح, وطالبت بإعطائها الفرصة وإعارتها الأسماع, فقد آن لحقيقتها أن ينكشف عنها القناع, وكأن الشاعر المحاور قد رضي منها بهذا القدر, ولا يبدو أنه تفاجأ بالأمر, فتقبل عرضها بكل انفتاح ورحابة صدر, مبشرا بقدراته في حسن الإنصات وإتقانه لفن السماع, كما هو مقتضى عبقريته التي انعقد عليها الإجماع, فلم يكن ذهنه إلا عبارة عن وعاء مهيأ للاحتفاظ بما يوضع فيه من معلومات, وليست خواطره إلا أداة استقبال جاهزة لالتقاط أدق المسموعات.
ثم فسحت الزائرة المجال للشاعر في استخدام ذكائه ومهارته في علم الأنساب, فاكتفت عن الانتساب إلى أبيها بالانتماء لجدها وعن الأسماء بالألقاب؛ وبما أن الشاعر خبير مبرز في هذا المجال, فقد اكتفى منها بهذا الاختصار والإجمال, ففهم كل ما لمسه من سحرية وجمال, وعلم أنها الخمر لكنها من النوع الحلال, فما أطيب جذعا انبثقت منه شماريخها, وما أجمل تاريخا هو تاريخها, فقد ارتفعت إلى المقام الأجل الأسمى, وذكرت شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.


 
 توقيع : م الإدريسي

قال الإمام العارف ابن قيم الجوزية -رحمه الله : كل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال ).


رد مع اقتباس