التكفير: الوجه الثاني للحرب على الأمة الإسلامية
عبد الله بن بيه
إن هذه الأمة التي ابتليت بحروب يشنها عليها أعداؤها متذرعين بمختلف الذرائع ومتوسلين بشتى الوسائل، تارة بسبب جريمة سفيه ـ لم تثبت ـ يهلك من أجلها فئات من الناس، وتارة من أجل دعوة أسلحة دمار لم توجد، وتارة من أجل إيجاد ديمقراطية بالإكراه تشن حرب يحرق فيها الأخضر واليابس. إنها حرب أو حروب تفتقر إلى حد أدنى من المنطق وقد أوضحنا ذلك في مناسبات عدة وفي حوارات عديدة في أكثر من عاصمة غربية.
لكن الذي يهمنا اليوم هو حرب أخرى تشنها طوائف من هذه الأمة على الأمة الإسلامية لتخريب بيوتها من الداخل ليست أقل ضراوة ولا أقل منطقية من تلك التي تأتي من وراء البحار، تارة تحت عنوان الاختلاف في المذهب، وتارة تحت عنوان الولاء والبراء والعلاقة مع الكفار إلى غير ذلك من العناوين التي لا تقيم وزناً للمصالح والمفاسد ومآلات الأفعال ولا تدرك خطورة التكفير في الشرع الحنيف.
وفي هذه المقالة اليوم نستعرض بعض النصوص في خطورة التكفير:
قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا([النساء: 94]. وفي الأحاديث الصحيحة النهي الشديد والوعيد لمن يرمي غيره بالكفر، فقد روى البخاري وأحمد: «من رمي مؤمنًا بكفر فهو كقتله». «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما».
والأحاديث بمثل هذا المعني كثيرة، وما ذلك إلا لما يستلزمه الكفر من النتائج الخطيرة التي من جملتها إباحة الدم، والمال، وفسخ عصمة الزوجية، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، وغيرها من البلايا والرزايا نعوذ بالله تعالى منها.
هذا وقد اختلف العلماء في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق، إلا أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد حذّر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال الإمام السبكي: «ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتكفيره صعب».
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: «لا أكفر إلا من كفرني».
قال الشيخ: وربما خفي لسبب ما هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك، رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما»، وكأن هذا المتكلّم يقول: الحديث دلّ على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر أو المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه.
وقد بالغ الإمام أبو حامد الغزالي حتى نفى الكفر عن كل الطوائف فقال: هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.
***
وقع التكفير لطوائف من المسلمين يكّفر بعضها بعضًا، فالأشعري يكفّر المعتزلي زاعمًا أنه كذّب الرسول في رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات وفي القول بخلق القرآن، والمعتزلي يكفّر الأشعري زاعمًا أنه كّذب الرسول في التوحيد، فإن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء.
قال: والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق، ووجهه أن كل من نزل قولاً من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقصًا فهو من التعبد، وإنما الكذب أن ينفي جميع هذه المعائر ويزعم أن ما قاله لا معنى له إنما هو كذب محض، وذلك هو الكفر المحض، ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازمًا لقانون التأويل؛ لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر».
وكلام الغزالي الذي لا يسلمه له بعض من العلماء هو نموذج من التشديد على من يستسهل إطلاق الكفر على الناس.
«وفي جامع الفصوليين روي الطحاوي عن أصحابنا: لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها؛ إذا الإسلام الثابت لا يزول بالشك، مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المُكره».
أقول: قدمت هذا ليصير ميزانًا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل، فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة، فليتأمل أحد ما في جامع الفصوليين.
وفي الفتاوى الصغرى: «الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر».
وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم، زاد في البزازية: «إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل، وفي التتار خانية: لا يكفر بالمحتمل؛ لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية والاحتمال لا نهاية معه».
«والذي تحرر أنه لا يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكور لا يفتى بالتكفير فيها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها». أ.هـ كلام البحر ـ باختصار ـ .
ومثله نص عليه في تنوير الأبصار مع شرحه رد المحتار، وعلق ابن عابدين على قوله: ولو رواية ضعيفة بقوله: قال الخير الرملي: أقول: ولو كانت الرواية في غير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعًا عليه».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أن ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفًا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع، لكن للناس نزاعا في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع ـ والمقصود هنا ـ أن ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ أو لإمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم، بل في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما». * د. عبد الله بن بيه: وزير العدل الموريتاني –السابق- نائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
منقوووول