علاج نبوي للشذوذ الفكري....!!
لم تذق الأمة ويلات ومصائب مثلما ذاقت بسبب بعض الأفكار الشاذة التي تبناها بعض أفرادها وأردوا تعميمها على جميع ألأمة ، فكم خسرت من أرواح وأموال وثروات هي أحوج ما تكون إليها ؟؟ بل أكبر من ذلك كم خسرت من مبادئ وقيم ؟!! وكم تسببت تلك الأفكار في ضعف مكانة الأمة وهوانها بين الأمم ؟؟ولك أن تعيد قراءة التاريخ من يوم خروج الخوارج إلى يوم الناس هذا وتقف عند مصائب الأمة العظام وتتأمل في دور الأفكار الشاذة وأثرها في تلك المصائب وسترى ما لا تنوء بحمله الجبال من الحقائق المذهلة والمواقف المروعة الناتجة عن فكرة شاذ ورأي مشوه .
بين أيدينا حادثة وقعت بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم – وراءها فكر شاذ ودافعها خلل فكري ، فوقف لها النبي الحكيم والمربي العظيم – صلى الله عليه وسلم - معالجًا علاجا قيّدها قبل أن تسرح ؛ بل دفنها قبل أن ترى الحياة ، نقف عندها لنحقق من جهة قوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ولنتعلم درساً نبوياً في التعامل مع الفكر الشاذ مهما كان صاحبه أو مصدره .
الحادثة :
عن أنس – رضي الله عنه – قال : جَاءَ ثَلاثةُ رهْطٍ إلى بُيُوتِ أزواجِ النّبي – صلى الله عليه وسلم - ، يسألون عن عِبادةِ النّبي – صلى الله عليه وسلم - ، فلما أُخبُروا كأنّهم تقالُّوهَا وقالُوا : أين نحن من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد غُفرَ لهُ مَا تقدّمَ مِن ذنبِه ومَا تأخر ؟ . قال أحدهم : أمّا أنا فأُصلي الليلَ أبدًا،وقال الآخر : وأنا أصومُ الدهرَ ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا أعتزلُ النّساء فلا أتزوجُ أبدا ، فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليهم فقال : " أنتم الذي قلتم كذا وكذا ؟!أمَا والله إنّي لأخشَاكم لله وأتقاكُم لَه ؛ لكني أصومُ واُفطِر ، وأُصَلي وأرقُد ، وأتزوّج النَساء ، فمَن رغبَ عَن سُنتي فليسَ مِنّي " متفق عليه
بجلاء يتضح لنا كيف أن الفكر الشاذ يبدأ سهلا وبسيطاً ومجرد فكرة طرأت ببال أحدهم أو بعضهم ومرت على خاطرهم ، فأرادوا تأصيلها ، فلما لم يقتنعوا بما سمعوا أو رأوا ؛ أخذوا يبررون لأنفسهم شذوذهم بمبرر قد يكون مقبولا عندهم فقالوا ( وأين نحن من رسول الله ) ولم يكتفوا بما وجدوا ، وهكذا كل فكر شاذ إذا لم يقتنع بحال معينه فإنه يختلق لنفسه ما يبرر به شذوذه ، ومن مصائب الفكر الشاذ - كما تلاحظ في الحادث السابق – أنه يدعي الكمال ويستهين بمن حوله مهما كان شأنهم فهنا تأمل أولاً " تقالَّوها " أتدري ما هي ؟؟ عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قالوا مبررين : ( قد غفر له .... ) .
فكرة شاذة ظاهرها الكمال أو السعي للكمال ، وطلب الكمال كمال ، لكن لمّا يكن من طريق شاذ فإنه يصبح نقصا وعيباً وإن كانت حقيقته كمالا ، فطلب القرب من الله والتعبد له كمال ، لكن لما جاء من غير هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – وبوسيلة مناقضة للفطرة والواقعية أصبح شاذاً وخروجا عن الجادة والصواب .
كيف عالج نبينا – صلى الله عليه وسلم – هذا الفكر ؟
هذه إشارات أرجو أن أكون وفقت فيها ، وهي إن كانت غير موفقة مردودة علي ورسول الله – صلى الله عليه وسلم - منها بريء ، واستغفر الله من أن أريد التقول على الله ورسوله ، لكن دروس نتعلمها من هديه العظيم – صلى الله عليه وسلم – ومن تلكم الدروس في حديث حادثتنا لعلاج الفكر الشاذ :
1- حصر نطاق الفكرة :
الفكرة الشاذة قبل أن تنتشر ويصبح لها أتباع ؛ نطاقها يكون محدودا بمصدرها ومن حوله ، فالأصل أن يتم تحجيمها بمكانها وزمانها وأصحابها ومنع انتشارها بقدر المستطاع ، لأنه بعد أن تنتشر ويزداد أصحابها تزداد صعوبة القضاء عليها أو توقيفها ، ها هو المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يأتيه خبر الفكرة الشاذة فيذهب إلى دعاتها فيواجههم بالحقيقة ويحصرهم فيقول : " أنتم " ( يا أصحاب الفكرة الشاذة ) " أنتم الذي قلتم كذا وكذا ؟! " .
إذاً حدّد مصدرها وحصرها فيهم ؟ والقضاء على المصدر معناه بتر العضو الفاسد من أصله وقبل أن ينتشر الداء فيعم البدن .
2- المبادرة قبل انتشار الفكرة :
كم من فكرة شاذة لم تلاقِ موقفا مسئولا ، أو لاقت تساهلا وتغافلا ، فجرّت على المجتمعات ما لم يكن في الحسبان ، وربما سمع بها القوم لكنهم لم يتحركوا لإيقافها إما استهانة بها وبأصحابها أو اطمئنانا إلى ما هم فيه ، وما انتبهوا إلا وقد بدأت تنشر سمومها وتظهر قبحها ، فلو أن الأفكار الشاذة تتعرض للتوقيف مباشرة ظهورها لكان على الأقل إن لم تمت في مهدها يقلّ ضررها ويضعف شرها.
تأمل دلالة قول الصحابي – رضي لله عنه - عن تصرف النبي – صلى الله عليه وسلم –حيال الفكرة الشاذة التي جاء بها الرهط ، قال :" فجاء إليهم " فالمسألة تستحق أن يتحرك ويكسب الوقت قبل أن تتسع دائرتها وينتقل شرها عن مصدرها ، ويظهر ذلك جليا في قوله : " فجاء " فاستخدام حرف العطف ( الفاء ) لم يكن عبثاً وهو يدل في العربية على ( الترتيب والتعقيب) ،
أُخبر بخبر الثلاثة فذهب إليهم مباشرة ليوقفهم عند حدهم وبمثل هذه الخطوات الحكيمة تعالج مثل هذه الأمراض الخبيثة .
3- إعلان الواقعية ورفض الكمال الشاذ :
النفوس السليمة ترغب في الكمال ، والهمم العالية تسعى إليه ، لكنه عندما يأتي بعيدا عن الواقع مجانبا للفطرة ، معرّضاً النفس للخطر ؛ عندها لا يصح عقلا ولا يقبل شرعا البحث عنه ، والعيش بواقعية هو نوع من الكمال ، والأفكار الشاذة غالباً بل ربما دائما تكون بعيدة عن الواقع إمّا إفراطاً أو تفريطاً ، فهؤلاء الرهط وما أكثر الرهط في زماننا الذين يجنحون عن الواقعية بحثا عن الكمال ، هؤلاء أردوا الكمال بدون واقعية ، واقعية الفطرة ،واقعية حقوق النفس ، واقعية قدرات البشر ، واقعية الحاجات والضرورات ، وهكذا ظنوا أن الواقعية نقيض الكمال ، فكان لا بد من إعلان الواقعية ، وإن ظنها البعض ليست كمالاً فالخطأ في فهمه لا فيها ، فالنوم للإنسان كمال ، والزواج كمال ، والطعام والشراب كمال ، ولا يضير أن يظنها صاحب فكر شاذ نقصاً فهو شاذ أصلا .
بكل واقعية يعلن النبي – صلى الله عليه وسلم - :"أصومُ واُفطِر ، وأُصَلي وأرقُد ، وأتزوّج النَساء " وهل بعد كماله كمال .
فلا يخطف لمعانُ الكمال الشاذ الأبصارَ فيمنع من رؤية كمال الواقعية .
4- الحكم وإن كان قاسياً :
ما إن تظهر فكرة شاذة إلا ويختلف الناس حولها بين مؤيد لها ومعارض ومتحفظ ومستغرب ومستهين ومبالغ ، وتبقى وجهات نظر سطحية غالبا ، لكن أن يقف أهل الرأي والاختصاص لإصدار الحكم المناسب حولها هو المطلب الرئيس لقطع الألسن من جهة ولتعريتها وتبيين حقيقتها للناس من جهة أخرى ، وقد يكون الحكم فوق ما يتصوره الناس وأكبر مما يتوقعونه لكنه الحق فلا مانع من التصريح به بل هو الأصل وبه تقف الأفكار الشاذة عند حدها وتُعرف على حقيقتها .
هذا النبي الرحمة يعلن الحكم ويبين الحقيقة أنها ليست مجرد زيادة ركعات أو مواصلة صيام إنها خروج عن الهدي الصحيح فلذلك كان الحكم:” مَن رغبَ عَن سُنتي فليسَ مِنّي ".
ليس من أتباعه ولا ممن يسير على طريقته ويقتدي به ، وإن زعم أنه يريد رضوان ربه .
وأخيراً :ما أعظم هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وما أحوج العالم لتعاليمه ؟!!
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وألهمنا رشدنا ، وبصرنا بعيوبنا ، واصرف عنا شذوذ الأفكار والأقوال والأفعال يا رب العالمين ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحابته ...آمين
منقول ...
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|