راجعوا معي لعلنا نصل إلى نتيجة
"بالوضع"
لنا معها ثلاث وقفات:
الأولى : معناه في اللُّغَة
حَيْثُ إِنه : يدل على خفض الشيء وحطه ، تقول : وضعت الكتاب على الأرض ؛ إِذَا حططته .
وكلمة : (بالوضع) جار ومجرور متعلق بـ(المفيد) ، والباء في كلمة : (بالوضع) تحتمل معاني ، ومنها : المصاحبة ، أي : الكلام هو اللفظ المركب المفيد إفادة مصحوبة بالوضع .
الثانية : معناه في الاصطلاح
هو : جعل اللفظ دليلاً على معنى ، وفق الاستعمال العربي . قال الشيخ المحمود بن الشيخ حماد الإدريسي, في كتابه : الجوهر اللامع, نظم جمع الجوامع, لابن السبكي:
والوضع عند القوم جعل المبنى*واللفظ مقصودي دليل المعنى, وهذا الوضع العربي يشمل اللفظ على جهة الانفراد والنظم . فأما الانفراد فتكون الكلمة المراد بها معنى ما قد استعملها العرب للمعنى نفسه . كـ(زيد) ؛ فإنه لفظ عربي جعلته العرب دالاً على معنى ، وهو ذات وضع عليها لفظ : (زيد) .
وكذلك يُقَال في نظم الكلام وضم بعضه إِلى بعض ؛ إِذْ لابد من صحة تركيبه وعَوْد ضمائره وما إِلى ذلك .
الثالثة: ثم هل الوضع يُرَاد به - أَيْضاً - القصد ؛ أَيْ : أن يكون الكلام مقصوداً ؟ قولان .
أحدهما : إثبات ذلك ، وبه قطع ابن مالك وخلائق ، وعليه جمهور شرَّاح المتن .
الثاني : نَفْيُ ذلك ، ورجَّحه أبو حَيَّان .
ومِنْ ثَمَّ يكون لكلمة : (بالوضع) معنى يتضمّن شيئين :
الأول : الوضع العربي .
والثاني : القصد ، على الصحيح .انظر: شرح الأجرومية للأسمري - (1 / 20).
وخرج بالتفسير الأول ما ليس بعربي، ككلام الأعاجم، و بالتفسير الثاني كلام النائم،والسكران، ومن تكلم ولم يرد إفهام أحد، ويدخل فيه: كلام البربر، وغيرهم، والصحيح: الأول. انظر: حاشية الآجرومية –عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (1 / 8).
الرابعة: المراد بالوضع العربي، أي أنه باللسان العربي المفهوم المبين ؛ لأننا نحن الآن لا نتحدث عن النحو في اللغات كلها، وإنما نتحدث عن النحو وعن الكلام في اللغة العربية، فالكلام في اللغة العربية الذي يبحثه علم النحو العربي هو ذلك الكلام الموضوع باللسان العربي، لكن لو خاطبنا -تكلم معنا- شخص بأي لغة أخرى بكلام مفيد يسمى كلاما في لغته صحيحا، لكنه لا يسمى كلاما في لغتنا.
والكلام في لغتنا هو: المكون من اسم وفعل وحرف ؛ لأنه ربما كان في اللغة الأخرى مكونا من غير ذلك، فهو كلمة بالوضع لا بد أن يكون باللسان العربي، وربما كان المراد من قوله: بالوضع أن يكون -أيضا- المتكلم قاصدا الإفادة منه، وقد وضعه ليدل على شيء معين في نفسه.
وهذا يخرج به -مثلا- كلام النائم، النائم قد يتكلم كثيرا، لكنه لم يقصد من كلامه هذا أن يفهم من حوله بشيء، ولم يضع هذا الكلام ليدل على عبارات معينة، فهذيان النائم، أو فاقد العقل، أو السكران، أو نحو ذلك يخرج بقوله: بالوضع.
فالكلام -إذن- في اصطلاح النحويين الذي يبحثه علم النحو، وجاء علم النحو لبحثه وبيانه هو ما تركب، أو ما تحققت فيه هذه القيود، أو الشروط الأربعة: اللفظ المركب المفيد بالوضع.انظر: شرح الآجرومية لمحمد خالد الفاضل - (1 / 18).
قال ابن مالك: "كاستقم" قال بدر الدين ابنه: فإنه لفظ مفيد بالوضع.قال الصبان: قوله: "بالوضع" الظاهر أن مراده الوضع العربي, الذي هو قيد لا بد منه في تعريف الكلام, كما قال الشاطبي وغيره؛ ليخرج كلام الأعاجم، لا القصد؛ لأنه أدرجه في الإفادة, كما سيأتي, لكن لا وجه لزيادته في بيان انطباق التعريف على المثال, مع تركه في نفس التعريف، فكان الأولى زيادته في التعريف أيضا. ثم حمل الوضع على الوضع العربي مبني على أن المركبات موضوعة, وهو الصحيح, لكن وضعها نوعي, فهو المراد في التعريف.
وقال أيضا: "مفيد" فائدة يحسن السكوت عليها "كاستقم" فإنه لفظ مفيد بالوضع فخرج باللفظ غيره من الدوال مما ينطلق عليه في اللغة كلام كالخط والرمز والإشارة.
وبالمفيد المفرد نحو زيد، والمركب الإضافي نحو غلام زيد، والمركب الإسنادي المعلوم مدلوله ضرورة كالنار حارة، وغير المستقبل كجملة الشرط نحو إن قام زيد وغير المقصود كالصادر من الساهي والنائم.
و قال أيضا: قوله: "والمركب الإسنادي المعلوم إلخ" جرى في إخراج الضروري وغير المقصود من الكلام على ما ذهب إليه المصنف, ونقله في شرح التسهيل عن سيبويه, والراجح خلافه, كما ذهب إليه أبو حيان وغيره، فالمراد بإفادة اللفظ فائدة يحسن السكوت عليها دلالته على النسبة الإيجابية أو السلبية, سواء كانت حاصلة عند السامع قبل أو لا. قصد بها المتكلم الكلام أولا، طابق كلامه الواقع أولا.
قال الأشموني:
تنبيهات: الأول اللفظ مصدر أريد به اسم المفعول أي الملفوظ به كالخلق بمعنى المخلوق. الثاني يجوز في قوله كاستقم أن يكون تمثيلًا وهو الظاهر فإنه اقتصر في شرح الكافية على ذلك في حد الكلام، ولم يذكر التركيب والقصد نظرًا إلى أن الإفادة تستلزمها لكنه في التسهيل صرح بهما، وزاد فقال: الكلام ما تضمن من الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاته فزاد لذاته، قال: لإخراج نحو قام أبوه من قولك جاءني الذي قام أبوه وهذا الصنيع أولى لأن الحدود لا تتم بدلالة الالتزام، ومن ثم جعل الشارح قوله كاستقم تتميمًا للحد.
تقسيم الكلم:
"واسم وفعل ثم حرف الكلم" قال الأشموني: الكلم مبتدأ خبره ما قبله أي الكلم الذي يتألف منه الكلام ينقسم باعتبار واحده إلى ثلاثة أنواع: نوع الاسم ونوع الفعل ونوع الحرف فهو من تقسيم الكلي إلى جزئياته لأن المقسم وهو الكلمة صادق على كل واحد من الأقسام الثلاثة أعني الاسم والفعل والحرف. وليس الكلم منقسمًا إليها باعتبار ذاته لأنه لا جائز حينئذ أن يكون من تقسيم الكل إلى أجزائه؛ لأن الكلم ليس مخصوصًا بهذه الثلاثة بل هو مقول على كل ثلاث كلمات فصاعدًا، ولا من تقسيم الكلي إلى جزئياته وهو ظاهر.
قال الصبان: "واعلم أن الشارح حمل الكلم في عبارة المصنف على الكلم الاصطلاحي كما يدل عليه كلامه الآتي في غير موضع، وإن كان قوله أي الكلم الذي يتألف منه الكلام يفيد حمل الكلم على الكلمات لأن تألف الكلام منها لا من الكلم الاصطلاحي فيؤول بتقدير مضاف ليوافق أكثر كلامه أي من أجزائه التي يتركب من مجموعها. وقوله باعتبار واحده يحتمل أن المراد بواحده مفرده الاصطلاحي الذي هو لفظ كلمة، ويحتمل أن المراد به جزؤه أي جزء ما صدق عليه. وعلى كل ففي عبارته حذف مضاف تقديره على الأول مفهوم واحده لأن الانقسام إلى الثلاثة باعتبار مفهوم كلمة لا لفظها. وتقديره على الثاني جنس واحده لأن جزأه فرد من أفراد الكلمة والانقسام إلى الثلاثة باعتبار جنس الكلمة لا فرد من أفرادها ثم انقسام الشيء باعتبار شيء آخر انقسام للآخر في الحقيقة فاتضح قول الشارح لأن المقسم وهو الكلمة إلخ. وبتقريرنا كلام الشارح على هذا الوجه تلتئم عبارته ويسقط ما اعترض به البعض وغيره عليه هنا وفيما يأتي فتنبه. ولك أن تستغني عن اعتبار واحد الكلم في تقسيم المصنف الكلم إلى اسم وفعل وحرف بأن تجعل الكلم في كلامه بمعنى الكلمات وترجع الضمير في واحده إلى الكلم بمعنى الكلم الاصطلاحي على الاستخدام لا بمعنى الكلمات وإلا لأنث الضمير فيصير المعنى واسم وفعل ثم حرف الكلمات أي الأنواع الثلاثة للكلمة، وواحد الكلم الاصطلاحي كلمة وهذا أولى لعدم إحواجه إلى تقدير.
قوله: "لأن المقسم" أي محل القسمة يعني المقسوم. قوله: "صادق إلخ" قال يس: الصدق في المفردات بمعنى الحمل، ويستعمل بعلى فيقال: صدق الحيوان على الإنسان. وفي القضايا بمعنى التحقق ويستعمل بفي فيقال: هذه القضية صادقة في نفس الأمر أي متحققة. قوله: "من تقسيم الكل إلخ" تقسيم الكل إلى أجزائه تحليل المركب إلى أجزائه التي تركب منها.
حاشية العلامة الصبان" على شرح الشيخ الأشموني: على ألفية الإمام ابن مالك - (1 / 30ـ 34).
و قد قرأت في شرح الأثيوبي للآجرومية ما معناه: أن التقسيم هنا من تقسيم الكل إلى أجزائه, و لكن الأجزاء هنا أجزاء عرفية و ليست حقيقية, ولم أتبين ما يريده بذلك, فراجعت التعريفات للجرجاني, و بحثت عن الجزء العرفي, ووجدت تعريفه, و لكن لا يسمن, و لا يغني من جهل, ويمكن أن يراجعه بعض الإخوة لعله يفهم أكثر مني.
عبارة مسلم:
أما عبارة مسلم, فالظاهر أنه لم يقصد بها تقرير مذهبه, و إنما افترضها مقولة لغيره, كما أنه لم يقصد بالمرسل معناه الذي اصطلح عليه المتأخرون, وإنما يقصد كل ما لم يحصل فيه المعاصرة.
و الله أعلم