9. الجنوح إلى المختصرات:
ومن أهم ما تميزت به المدرسة المالكية بالغرب الإسلامي كثرة الجنوح إلى المختصرات حتى أنّه ما وجد كتاب من أمهات الكتب إلاّ واختصر وربما احتاج هذا الاختصار إلى اختصار.
وقد بدأت هذه الظاهرة في أوائل القرن الثالث الهجري ثم ازداد انتشارها في القرن الرابع ثم تضخم حجمها بشكل ملفت للانتباه في القرن السابع الهجري ، ولعلّ الأسباب من وراء ظهور هذه الظاهرة :
#أنّ المتأخرين صعب عليهم استيعاب المطولات وشقّ عليهم قراءتها لطولها وكثرة ما ورد فيها.
#ضعف الهمم وفتور العزائم فقد يقصد الإنسان إحدى هذه الأمهات لكنّه ما إن يرى حجمها حتى يتسرب إليه الملل وتركبه السآمة خصوصا في وقت أضحت فيه القراءة تعطى لها فضول الأوقات.
#قصور الفقهاء على الابتكار والإبداع فبدل أن يبدعوا كما أبدع أسلافهم ركنوا إلى مؤلفاتهم يهذبونها وينقصون منها ويزيدون.
#رغبة العلماء في عدم حرمان طلبة العلم من ثمرات الأمهات وتمكينهم من الإطلاع على أكبر قدر ممكن خصوصا وأنّها كثيرة ويعسر الإحاطة بها.
#تنقيتها من الحشو الزائد والكلام الطائل والذي لا ينفع ذكره ولا يضر تركه وإظهار الأهم فقط ممّا تتم به الفائدة ويقع به النفع.
إنّ المصنفات الأولى التي صنّفت في وقت مبكر كانت كبيرة الحجم واضحة المعاني سهلة العبارة مثل مدونة سحنون، والواضحة لعبد الملك بن حبيب والمستخرجة للعتبي والنوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني وغيرها من المصنفات التي تعتبر أمهات الفقه المالكي في الغرب الإسلامي والتي نالت أكبر قسط من الاختصار والتهذيب ولا سيما المدونة التي اختصرها زهاء مائة عالم أو يزيد، بل ما ألّف عالم من التأليف شيء إلاّ كان اختصار المدونة من جملتها، وإن جولة سريعة في كتب التراجم بعد القرن الرابع الهجري ينبئك بصدق ما أقول، فقد اختصرها فضل بن سلمة الجهني ثم اختصرها محمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي صاحب المختصر المشهور، ثم جاء من بعدهما محمد بن عبد الملك الخولاني البلنسي، واختصرها عبد الله محمد بن أبي زمانين واختصرها ابن أبي زيد القيرواني، وأبو القاسم اللّبيدي، والبرادعي صاحب التهذيب والذي اختص مختصر ابن أبي زيد القيرواني السابق الذكر ثم جاء بعد هؤلاء عثمان بن الحاجب الذي اختصر تهذيب البرادعي الذي سيختصره فيما بعد خليل بن إسحاق الجندي.
كما اختصرت الواضحة ومن أهم من اختصرها "الفقيه خلف بن القاسم الأزدي المعروف بالبرادعي، وفضل بن سلمة الجهني وابن فرحون".
أمّا المستخرجة فقد نالت حظها من الاختصار أكثر ما حظيت به من الشرح، ومن أهم مختصيريها فضل بن سلمة الجهني، ويحي بن عمر الكناني، وإبراهيم بن شنظير، ومحمد بن عبد السلام سحنون، وبن أبي زيد القيرواني وغيرهم.
ولمّا أدخلت الموازية بلاد الغرب الإسلامي من طرف درّاس بن إسماعيل الفاسي تلقفتها أيدي العلماء بالتهذيب والاختصار، وكان أول من اختصرها فضل بن سلمة الجهني كما جمع بينها وبين العتبية في كتاب واحد.
ورغم اختصار هؤلاء لأمهات الكتب إلاّ أنّ كتبهم كانت تفي بالغرض وتستجيب للطلب وتتوافق مع النية التي دفعت لهذا العمل، فقد جاءت على قلة عباراتها واضحة تهدي إلى الهدف وتوصل إلى الغرض.
ولكن خلف من بعد هؤلاء من عقّد الفقه باختصاره وصعّب فهمه وإدراكه ممّا صعّب فهمهما وعسرّ فقهها مما اضطر النّاس معها على الاستعانة على فهمها بكثرة الشروح والحواشي، وهكذا وجد الفقه نفسه في دائرة مغلقة يعسر الخروج منها فمن بسط إلى اختصار إلى اختصار الاختصار ثم إلى شرح الاختصار ثم إلى وضع الحواشي على الشروح، والنتيجة كما قال القباب نصل إلى كتب لا يفهمها المبتدئ ولا يحتاج إليها المنتهي.
وقد كان الشاطبي لا يعتمد على كتب المتأخرين المختصرة ويحث على الرجوع للأصول والمؤلفات القديمة حيث يقول "فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان وخصوصا علم الشريعة التي هي العروة الوثقى والوزر الأحمى" .
10. علم الرواية والدراية:
لا نختلف أنّ المنهج الذي سلكه مالك وأسّسه لمذهبه يقوم على الدراية والرواية أي الحديث والفقه، وهذه الازدواجية ظلت على مدى الأزمان تمنح المذهب قوته وتعزز مصداقيته عند أتباعه في جميع الأقطار والعصور وعلى هذا الدرب صار علماء المدرسة المغربية، حيث كانوا يروون الحديث ويستخرجون منه الفقه، أي كانوا محدثين وفقهاء ويظهر هذا جليا في كتب كثير ممّن تشرفت هذه المدرسة بانتسابهم إليها وانتمائهم لأصولها أمثال ابن عبد البر من خلال كتبه الاستذكار والتمهيد والكافي، ومن خلال كتاب المنتقى للباجي وغيرهما، وقد صرّح ابن عبد البر بهذه الازدواجية وهو يتحدث عن كتابه التمهيد حيث يقول "إن الهدف منه هو تخريج ما في الأخبار من المعاني والفقه".
والمتتبع للأمهات يجدها تستند في الكثير من مسائلها إلى الدليل اللهمّ إلاّ في بعض المسائل التي يعسر الاستدلال لها، وربما لأجل هذا رُمي الفقه المالكي بأنّه فقه غير مؤصل تحكى فيه المسائل مجردة من الدليل ويُستند فيها إلى أقوال الرجال بدل الاستناد إلى النصوص من الكتاب والسنة، والذي يجب أن يعلم أنّ المسائل الفقهية يعسر فيها تقييد الدليل لكل جزئية من جزئيتها، ذلك لأنّ النصوص متناهية أمّا الوقائع والنوازل فغير متناهية وهذا ما أشار إليه بن خلدون في مقدمته حيث قال "إن الوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص، وما كان فيها غير ظاهر في النصوص فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما" ، ويقول الشهرستاني "إنّ الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعا أيضا أنّه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور أيضا ذلك، والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى عُلم قطعا أنّ الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بعدد كل حادثة اجتهاد".
ومع ذلك لم يُترك الحبل للغارب فيما كتبه المغاربة لغير دليل بل حاولوا جهدهم الاستدلال ما أمكن، ومما يذكر في هذا المجال كتاب التعليق على المدونة لابن الصائغ عبد الحميد القيرواني وهو كتاب يعد من أفيد الكتب في الفقه المالكي حيث كان غالبا ما يذكر في كل كتاب أو باب مستنده من الكتاب والسنة شارحا ومعللا.
ويظهر الاستدلال جليا في كتاب شرح التلقين للمازري وهو كتاب يمتاز بدقة التحرير وعدم الاقتصار على مجرد نقل النصوص بل يذكر مع ذلك الأدلة من الكتاب والسنة ، وكتاب مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل على كشف أسرار المدونة لعلي بن سعيد الرجراجي وهو من أروع ما ألف المغاربة في الفقه المقارن المستند إلى الأدلة.
إلاّ أنّنا لا نبرئ ساحة هذه المدرسة من انتهاجها المسلك التجريدي لاسيما في المرحلة التي طغت فيها كتب المختصرات التي لا تتسع بحكم طبيعتها لسرد الأدلة ويسعى أصحابها لإعطاء الأحكام الفقهية المجردة كمختصر سيدي خليل ورسالة ابن أبي زيد القيرواني والعشموية والمرشد المعين وغيرهم من كتب المختصرات، والتي كانت نصوصها أشبه بالنصوص القانونية المجردة حتى كأنّك لا تكاد تميز بينها وبين أي تأليف في غير فنون الشريعة الإسلامية.
إلاّ أنّ الأمر انبرى له من المتأخرين من أرجعوا لهذه النصوص روحها وأحيوها بعد موات حيث رجعوا للجمع بين علم الفقه ورواية الحديث، ومن أمثال هؤلاء المرحوم محمد المدني بلحسني الذي تصدى لشرح خليل والمرشد المعين بالدليل ، والحافظ المحدث أحمد بن الصديق الغماري الذي شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني بشرح مطول خرّج فيه ما اشتملت عليه من الفروع الفقهية بإيراد الأحاديث الواردة في كل مسألة سمّاه تخريج الدلائل لما في رسالة القيرواني من الفروع والمسائل ، وغيرها كثير بما لا يتسع المقام لذكره.
وهكذا يتضح أنّ فقه مدرسة الغرب الإسلامي فقه له أدلته، وإلاّ لما استطاع هؤلاء أن يردوا المسائل إلى أصولها وأن يؤصلوا للفروع عل اختلافها وتنوعها.
هذه بعض خصائص مدرسة الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى بالغرب الإسلامي وليست كلها، فهي تمثل إضاءات لما احتواه المذهب من ذخائر وكنوز ظلت على مدى السنون تزوده بما ضمن استمراره وبقاءه.
منقــــــــــــــــــــول