الوحدة الموضوعية في شعرهم.
ومن الملا حظ أيضا أن الأديب عندنا يحاول أن يحدث امتزاجا مدهشا بين عدة مشاعر متشاكسة, وأخيلة متناقضة, نوعا ما, فهو غير عابئ في أن يجمع بين أغراض هي في مسمى الشعر سواء, ولكن مقاصدها شتى , فنجده يطـرق عدة أغراض شعرية من غزل ومدح وفخر وهجاء ورثاء, ثم نراه بعد ذلك يتقمص شخصية شاعر الزهد والصفاء الروحي, وهذا بلا شك قد يجعل الفكرخاسئا أمام تحديد الشخصيات الأدبية عندنا فقد اختاروا لأنفسهم هذه الموسوعية المدهشة.
ومن المعلوم لدى من تمعن في ملامح الأدب السوقي وضوح ظاهرة التقليد للقصيدة الجاهلية , حتى أصبح ذلك عادة متجذرة,وعقيدة متأصلة لدى الغالبية الساحقة من أدبائنا وشعرائنا, ويرون ذلك غاية لا يدركها إلا من فررعن ذكاء أدبي راق, وتجربة لغوية ناضجة, وأن ذلك دليل قوي على مدى رسوخ أقدامهم في اللغة العربية, حيث أنهم جـاروا في قصيدهم أساليب بلغاء اللغة ومصاقيعها وحاكوهم في طريقتهم, وزاحموهم في تعابيرهم, مع بعد الفارق الزمني والمكاني بينهم .
ولا نلوم من قال أن هذه الظاهرة حالت فعلا دون استقلالية شعرائنا,حيث إن بعضهم لم يقدر على صياغة المعاني فـي قوالبهم الخاصة, أو يضربوا المعاني والخواطر الجاهلية القديمة في عملة سوقية صحراوية جديدة,وأدى ذلــك إلى عجـزه عن القيام ككيان أدبي قائم بذاته, ولا ننسى أن هذا الاتكاء على التعبير الجاهلي,وأساليبهم القديمة, والتـردد في هـذه الحوافر , التي طرقها امرؤ القيس وطرفة وزهير وعنترة والأعشى وغيرهم, يعد عند الغالبية من أدبائنا, واجبا مقدسا, لا يجوز الخروج عنه, ويرون الهجرة عن هذه الأساليب نوعا من القطيعة للغة العرب الأم التي نزل بها القرآن, ونطق بها أفصح من نطق بالضاد, محمد صلى الله عليه وسلم.
ويرون أن هذه الدعوات التي ظهرت في العالم العربي تنادي بتجديد وتحديث الشعر قد أظهرت فشلها,وكشفت عن وجهها المزيف, عندما قادت ثورة عارمة على الشعر العمودي, فجاءت بشعر التفعيلة, الذي يعد تقويضا لبنيان القصيدة العربية العتيقة, وهدما للقافية التي تعتبرمن أهم عناصر الجمال في الشعر العربي, وسر تحديه لأي شعر كان , وقد توفرت لدى أدبائنا جميع دواعي الاجتهاد في الشعر, ولكنهم طبعوا على هذا النوع من التقليد،شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الشعراء الذين يفضلون طريق التأصيل والعودة إلى النموذج القديم ولم يكونوا بدعا فـي ذلك أونبتة تاريخية غريبة, فمنذ انهيار النهضة الأدبية الذي تلا اجتياح التتار للخلافة الإسلامية, لم يوجد ما يستحق أن يطلق عليه الاسم الحقيقي للإبداع في الأدب و الشعر, إلا أن أيا من تلك العصور التي يسمونها بعصور الانحطاط, لم تخل من نماذج حية وأسماء لامعة من الشعراء والأدباء, الذين يعيدون إلى ذاكرة التأريخ أمجاد الماضي وآمال المستقبل,ولكنها لا تتعدى أن تكون ضحلا من عِد، إذا قيست بما أودعه المتنبي شعره من الحكم والأوابد التي عصب بها جبين الزمان, وملأ بها الدنيا, وشغل بها الناس .
و لنا عودة بإذن الله .