خطوة في بداية الطريق.
لا أشغل نفسي ببدايات ثورات الطوارق في مالي منذ استقلالها حتى الآن لأن تاريخ ذلك معروف لدى الغالبية العظمى من الناس وموجود في الانترنت ومواقع التواصل الأخرى , وكل ما يعنيني أن أتحدث عن أمور كانت ولازالت سبب الإعاقة لنجاح ثورات الطوارق, ولا أدعي أن ما أقوله هو الحقيقة الكاملة والمطلقة , وأرى أن ما أقوله لايعدو أن يكون استشهادا مني في تشخيص مواطن الداء بغية العلاج والانتقال من الواقع إلى المأمول.
كما أنني من خلال هذه السطور أود أن أذكر بأنه لاينبغي فتح عين واحد تجاه النجاحات التي أحرزتها ثورة التسعينيات وأهمها أن يعرف شعب الطوارق في (مالي) أن له قضية, وأنه مثل شعوب العالم التي تحارب من أجل حريتها, وإثبات وجودها, ولم ينصف الحقيقة من يشك أو يشكك فيما قدمته ثلة من الشباب الطوارق بلا قوة إلا قوة الإرادة, ولا دعم إلا صلابة مواقفهم ومطالبتهم بحق شعبهم في العيش, وأظنك أخي الكريم لايعجزك التفريق بين حصد المكاسب وبين المحافظة عليها فالكسب شيء والمحافظة عليه شيء آخر.
كذلك فإن الثورة بمعناها الأوسع هي الخروج عن الوضع الراهن إلى أفضل منه أو أسوأ, وكل ما أرمي إليه ليس كيل التهم جزافا, على الثورة والثوار وإنما غرضي التذكير بالسياسة التي نأمل أن توضع فلم توضع.
رأس مال الثورة.
رأس مال الثورة في كل تجارب العالم هو العنصر البشري الثائر, فهو الضامن الأساسي لبقائها, وهو الحاضن الأهم لها, وقد جرى من قصد أو غير قصد تبديد هذا الرصيد الشعبي, في خلافات تافهة بين القادة الثوار أنفسهم , واستطاعوا أن يخدعوا الشعب المغلوب على أمره بأن هذه الخلافات كانت أساسا بين الشعب نفسه, وجرت أحداث وئدت من خلالها - وللأسف الشديد- مكاسب الثورة وهي حية والله المستعان وتم إشغال الشعب بنفسه وبخلافاته, ولم يوفق القادة الثوار في احتواء السلوكيات الهادمة لأهداف الثورة عن طريق التعليم و التكوين و الإدماج و جعله يعيش الأشياء من داخلها لا من خارج سياقاتها و النهوض به من غياهب التخلف وظلمات الجهل إلى فساحة العلم.
الثورة تأكل نفسها:
لكل ثورة من الثورات غذاؤها, وفاتورتها التي يدفع ثمنها الأبرياء والناس الضعفاء الذين يفترض أن الثورة هي من جاءت لإنقاذهم من براثين العدو الجاثم على صدورهم.
ولكن المشكلة الكبرى التي جابهت ثورة الطوارق تكمن في أن النخب في المجتمع الطارقي لم تكن مستعدة للتعاون ولا للتعامل الايجابي مع هذا الوضع الجديد, وفضل كثير منهم الدوران في فلك المستبد, عن الدخول فيما يرونه متاهات نحو المجهول, وظلت هذه النخب تسابق الزمن في اقناع الناس بهذا الفكر قبل أن تستقر الثورة على حال.
وكانت حكومة مالي من الجانب الآخر,دأبت في تبديد جهود الثوار الطوارق بالأكاذيب والاتفاقيات الوهمية, والأماني الكاذبة, وسعت جاهدة في جعل الشعب يندم على التعاطف مع الثوار, تارة بالقتل وإهلاك الحرث والنسل, وتسميم الآبار, وتهجير قرى بأكملها, وكل ذلك من اجل أن تفشل الثورة, وتوأد من جديد وحتى يقول شبابها( ليست هذه هي الثورة التي قمنا بها) فيرضخوا ويقبلوا الأمر الواقع, ويقبلوا الاندماج والهدايا والصلات, وقليلا من الفتات, بدلا من تحقيق أي هدف من الأهداف التي ثاروا من أجلها.
وكان الغالب من الثوار ينقصهم العقل العلمي والاجتماعي الذي يجمع بين الثورة و الاحتفاظ على مكاسب الانتصارات, وكان غالب قادتها حاولوا جني ثمرة الثورة قبل نضوجها,وانتفخت بها جيوبهم قبل أن يجف دم رفاقهم ولم يستطيعوا أن يثبتوا للعزل من الشعب أن الثورة جاءت لإنقاذهم وإخراجهم من النفق المظلم الذي جعلوهم فيه, فصارت مصدرا من مصادر التربح والاسترزاق بدل ان تكون مشروع تحرير هادف وكانت هذه الثورة من هذه الحيثية تختلف عن باقي الثورات العالمية التي سبقتها لأمور:
1- أن غالب الثورات إنما يستفيد منها ويستمتع بها أحفاد وخلف من قام بها, بخلاف ثورة الطوارق في 1991م فإن قادتها هم أكثر المستفيدين منها, وجرت محاولات متكررة منهم لجعلها ترتبط بهم في كل شيء وقعدوا مزجر الكلب لكل من تسول نفسه أن يبعثها من مرقدها, أن يوقظها من ثباتها.
2- أن الشعب أكثر تضحية من (الثوار) فلم يدخر شعب الطوارق - الثائر بطبعه- جهدا في إيوائهم وبذل الوسع في مساعدتهم رجالا ونساء, ولكنهم بدل أن يقدروا هذا الموقف من شعبهم فإنهم شدوا الأمتعة, وأداروا ظهورهم له واندمجوا في الجيش المالي الذي استطاع أن يثأر لجنوده منهم بقتل وتشريد الطوارق والعرب في الشمال وتم كل ذلك أمامهم بدون أن يقدموا حتى رسالة عزاء ومواساة إلى شعبهم ولم نسمع أن قائدا من قاداتهم استنكر شلالات الدماء التي أريقت في (ازواد).
2- أن هذه الأحداث أثبتت أنهم لا يملكون رؤية, ولامشروعا قوميا يستطيع البقاء مع الزمن, لمجابهة مكر الليل والنهار الذي يدبره العدو لهم , حتى إن بعض من يبالغ في نقد (إشومار) يرى أن ذلك ينم عن صفقة غير معلنة بينهم وبين (مالي) أدت إلى سكوتهم عن التنكيل بالشعب مقابل المناصب العالية, والرتب السهلة, والمنح المجانية, بدليل أننا ما سمعنا أن أحدا من القادة سجن في قضية أو ناله أي أذى من أجل الدفاع عن الشعب أوالتمسك بمبادئ الثورة كما هي العادة في جميع ثورات العالم.
وليس هدفي في هذه العجالة فتح مسارب الآلام كلها وهي كثيرة وأنا على اطلاع بها جيدا ومع ذلك فإنني أعي جيدا أن الواجب على كل منصف للتاريخ أن يساهم بقدر وسعه في ترتيب شتيت الذاكرة الجماعية لأمته بغية العلاج, واتقاء موطن الداء.
جيل الثورة:
لم تستطع ثورة التسعينيات أن تنشئ جيلا ثوريا بل أنتجت لنا جيلا مقسما خائفا من المستقبل ومتوجسا من الآخر وجرى الدوس على كثير من الأعراف القبلية التي استطاعت عبر أزمان ضاربة في أعماق القدم المحافظة على أبهى وأرقى صور التعايش بين جميع مكوناته, وحل محلها فجوات ومسافات لم يوفق قادة الثورة في ملإ فراغاتها, وأصبحت الثورة بسبب أخطائهم وخلافاتهم عبئا ثقيلا على المجتمع وصارت مع الأسف الشديد إن لم يخونني التعبير مثل الماء العذب في أصول الحنظل كلما ازدادت ريا ازدادت مرارة .
وهذا خير وصف لحالتها فيفترض بعد مرور عقد من الزمن من انطلاقها أن يكون هناك قدر من النضوج في المواقف, ووضوح الهدف, واستشعار المسئولية, وحصل العكس من ذلك , ورأى قادة الثورة ولاأشغل نفسي بذكر الأسماء فهي معروفة أنهم هم الثورة وأنهم أهم مكاسبها, وملوا الدنيا وشغلوا الناس , بخروجهم وانسحابهم من وحدات الجيش (المالي) ثم رجوعهم إليها من غير أي مكاسب تذكر ولافائدة منتظرة , وتزيد فترة الثورة ويزيد معها عدم شعور قادتها بالمسئولية , تجاه الشعب والأمة وذلك أمر هين إن صدر ممن لا تتعلق به مصائر الناس ولاشك أن خطورة هذا الأمر تزداد سوءاً بازدياد أهمية الموقع الذي يشغله الإنسان.