|
المنتدى التاريخي منتدى يهتم بتاريخ إقليم أزواد . |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||
|
||||||||
تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:1
تمبكتو ، وثلاثية ؛ الملح .. والذهب .. والكتاب : مدخل وتمهيـــــــــد : هذه المدينة ؛ الصحراوية .. الإفريقية .. والعربية الإسلامية العتيقة .. العالمة .. المثقفة .. التي تنطق أزقتها ، وحارتها - القديمة ، المتعبة - بلسان العلم ، والمعرفة .. إنها مخزوننا المعرفي الفياض ، وذاكرتنا الحية الوقادة .. وعبق تاريخنا المجيد ... المسكونة بمفردات التاريخ ، ونضالات الأسلاف .. المخضبة بدماء مجاهدينا الزكية ... المتثاقلة بصحائف بطولاتهم ، وبيض وقائعهم .. المترنمة بتسبيحات ، وأذكار أوليائنا ، وصالحينا .. المتمنطقة برياضهم ، ومزاراتهم المباركة .. هذه المدينة هي التي تسطيع أن تفخر - بحق - بأنها ابنة التجارة ، والثقافة بجدارة ، وأنها الثمرة الطيبة لتلاقح ثقافات أقوام ، وأثنيات تقاطرت عليها من شتى بقاع العالم ، فكانت المكون الحقيقي لنسيجها السكاني : طوارق ، وزنوج ، وعرب ، وغيرهم ، تحت مظلة الإسلام العظيم .. الأمر الذي جعلها في عصورها الذهبية تمثل النموذج الأكمل لتعايش ، بل وانصهار مختلف الأجناس ، والأعراق ، والقوميات في بوتقة الحضارة الإسلامية في أرقى الصور ، وأجمل المعاني ، في منطقة جنوب الصحراء ، وحوض النيجر الأوسط .. وكانت القنطرة ، والجسر المتين الذي عبره الإسلام إلى عمق أعماق إفريقيا .. والمنارة الباسقة التي أضاءت أنوارها الأرجاء .. وهي الواحة الظليلة التي أحتضنت بين جنباتها العلماء ، والفقهاء ، وطلاب العلم ، والمعرفة ، والتجار ، والرحالة ، وعشاق استكشاف العوالم المجهولة من كل أصقاع الدنيا ؛ من الشرق ، والغرب ، ومن الشمال ، والجنوب .. وظلت تمبكتو هذه المدينة الساحرة ولعدة قرون ، عالم إسلامي مصغر ؛ بمعنى أنك تجد فيها العراقي ، والشامي ، والحجازي ، واليماني ، والمصري ، فضلا عن أهل بلاد المغرب ، كما تجد الأندلسي ، وغيرهم ، وبقي ذراريهم ، وحفدتهم هناك إلى يومنا هذا .. ويمثل الآن ما أنتجته عقول هؤلاء ، وأولئك من ثمرات فكرية ، وعلمية ، وأدبية ؛ تراثا ثقافيا ، وحضاريا ثرا مازالت تزخر به مكتبات المدينة ، ومساجدها ، وزواياها العتيقة ، وهو بلا شك خير شاهد ، وأعظم برهان على الدور الإيجابي ، والبناء الذي أنجزه الأسلاف الأماجد هناك . إن هذه المدينة - أيها الكريم - في كلمات قصيرة : تمثل قصة مشوقة ، مليئة بالعبر ، والدروس ، لتجربة إنسانية مميزة في مكان مميز .. وزمن مميز .. وبعبقٍ ، وشذىً مميزين .. وعليه فلا غرابة أن تختار عاصمة للثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا للعام ( 2006م ) ، وهو أمر ربما أثار عند الكثيرين - من القراء ، والمهتمين - التطلع لمعرفة المزيد عن تمبكتو .. وما هي الدوافع ، والأسباب من وراء هذا الإختيار ؟!!! سأحاول - بعون الله - في ثنايا هذا الحديث المقتضب عن هذه الحاضرة الإسلامية العتيقة أن أجعل القاريء الكريم يقترب من تلك الأسباب ، والدوافع من خلال رسم صورة ناطقة للمراحل التاريخية التي مرت بها المدينة ؛ سياسيا ، واقتصاديا ، وثقافيا ... تعاقب الدول على بسط سلطانها على تمبكتو : فتمبكتو - أيها القاريء الكريم - تأسست كمشتى ، ومصيف لقبيلة ( إمقشرن ) الطارقية في القرن الخامس الهجري .. الحادي عشر الميلادي . حيث كانوا يضعون رحالهم هنا في هذا الموقع ( القريب من النهر حينذاك ) طوال فصلي : الشتاء ، والصيف ، وعندما تهطل الأمطار في فصل الخريف ، وينبت العشب ، وتخضر الأرض ، وتدب الحياة في الصحراء ينطلقون بإبلهم ، ومواشيهم شمالا متتبعين للمراعي ، والكلأ ، ومساقط الأمطار في طول ، وعرض المنطقة الممتدة شمالي النهر - على شكل مخروطي - حتى نقطة التقاء الحدود الجزائرية ، الموريتانية ، والمعروفة محليا بإقليم : ( أزواد ) ثم لا يلبثون إلا أشهرا قليلة : ثلاثة أو أربعة - على أكثر تقدير - في هذه الدورة ، ويعودون أدراجهم بعد أن تغور الغدران ، ويجف العشب ، وتشح المياه في تلك المضارب ، والمراتع ، فيعودون من حيث انطلقوا أول مرة ويحطون عصا الترحال ثانية على ضفاف النهر المبارك ( نهر النيجر ) حيث تركوا أمتعتهم أولا في مستودعات من القش ، وأغصان الأشجار ... وهكذا دواليك . يتبع |
06-24-2009, 11:38 AM | #2 |
|
تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:2
وبمرور الوقت ، واستمرار الحركة على هذا المنوال ، وازدياد رواد المكان ، تطور المكان ( المستودع ) إلى قرية ، ومدشر ، فيه القار ، والظاعن ، ثم إلى ملتقى ، وسوق للتبادل بين ( السراح ، والزراع ) أي الرعاة ؛ أصحاب المواشي ، والأبقار ، والأغنام ، والإبل ، والقوافل السيارة ( المقطر/ أو أكبار ، أو أزلاي ) - تسميات محلية لقافلة الملح - وما تحمله من سلع وبضائع الشمال ( ملح أو أقمشة ، أو حرير ، وغيرها ) ، والزراع ؛ وهم أصحاب فلاحة الأرض وما تجود به من خيراتها ، ومعادنها النفيسة : ( ذهب والألماس ونحاس ) ومنتج الكولا وعاج الفيل ، وريش النعام .. الخ .. كانت هذه هي البداية الحقيقة لهذه المدينة العظيمة : تمبكتو ... وإذا كانت بعض المدن ، والجهات قد تصاب ( بلعنة المكان ) أو الجغرافيا ، فإن بعضها - أيضا - قد يحظى ، ويفوز ( ببركة المكان ) كما هو حال هذه المدينة ... اقرأ ماذا يقول عن نشأتها - ابنها البار - " عبد الرحمن السعدي " في كتابه القيم ( تاريخ السودان ) : " هذه البلدة الطيبة .. الطاهرة .. الزكية .. الفاخرة ذات بركة .. ونجعة.. وحركة ( ... ) ما دنستها عبادة الأوثان .. ولا سجد على أديمها قط لغير الرحمن .. مأوى العلماء .. والعابدين .. ومألف الأولياء .. والزاهدين .. وملتقى الفلك السيار .. " وأهل المدينة ومنهم مؤرخها الشهير " محمود كعت " - صاحب كتاب : تاريخ الفتاش - يعتبرون هذه الميزات - التي ذكرها السعدي - من أسباب نهضتها .. وازدهارها .. ونموها المطرد ، وحصن حصين لها يحفظها من الأعداء ، وأصحاب الأطماع السياسية المتربصين بها دائما في كل وقت وحين ، ويتحينون الفرص للانقضاض ، واحكام السيطرة عليها ، والإستحواذ على ما تزخر به من خيرات ، وكنوز ، وأموال ، وثروات يسيل لها لعاب الكثيرين ... ويرجع كعت - أفضليتها كذلك - إلى تغلغل الإسلام في مختلف أوجه الحياة فيها ، وكثرة العلماء ، والأولياء الذين تضمهم جنباتها ، فتكاد لا تخلو ضاحية من ضواحيها ؛ من زاوية ، أو ضريح لعالم ، أو ولي مشهور ، يشار له بالبنان ، الأمر الذي جعلها تفضل سائر المدن ، والأسواق التجارية في السودان ، وبلاد المغرب ... هذا وبعد أن ذاع صيت المدينة ، وبغلت شهرتها الآفاق ، بسبب ما تناقله الركبان إلى كل الأرجاء عن ازدهارها التجاري ، وما يعرض في أسواقها من معدن الذهب النفيس ، وما اشتهر في الغرب عن جودة ذهبها ، والأرباح الطائلة التي يجنيها التجار من بلاد المغرب المترددين عليها ، وربما للدور الريادي الذي اطلعت به في نشر الإسلام في النطاق الإفريقي جنوبي الصحراء ، كل هذا مجتمعا جعل القادة الدينيين ، وأصحاب الحكم ، وكذلك الفئة الباحثة عن جمع الثروات ، وجني الأرباح في الغرب جعلهم يوجهون الإهتمام إلى هذه المنطقة ، ويشجعون ، المستكشفين ، والمغامرين إلى الإتجاه صوب هذه النقطة الجاذبة ، المشعة ، المتوهجة ، في أقصى بلاد المسلمين . ومن المعلوم - آنذاك - أن الغرب كان يستكشف لكي يستحوذ ، ويبتلع ما استكشفه - إن كان يستحق الإبتلاع - وهنا طورت الفكرة حتى يضفى عليها طابع السمو ، فتصبح كأنها هدف نبيل غايته ومبتغاه البحث ، والإستكشاف العلمي البحت ، ووظفت الجمعيات الجغرافية ، والشبان ، بل والباحثين الكبار المتحمسين ، والباحثين عن سبق علمي ما ، وظفوا ، ودعموا دعما سخيا لتحقيق الأهداف ، والمآرب البعيدة للساسة وغيرهم من النخب ذوي التوجهات الإستعمارية ، والتوسعية في العالم ، خارج أوروبا ، تلك القارة العجوز التي نضبت مواردها ، وشحت ثرواتها ، وضاقت بأهلها حتى أصبح همهم ، وشغلهم الشاغل هو التوسع في أرض الغير ، واغتصاب موارد ، وخيرات الغير ، وتكون رأي عام جعل الكثير من هؤلاء يتمنون، ويحلمون بالوصول إلى الأماكن ذات الشهرة ، والبعيدة عن أوروبا - نسبيا - فكانت تمبكتو من ضمن هذه الحزمة من الأهداف ، والأماكن التي صُوب نحوها السهم ، وجُيشت النفوس ، بغية الوصول إليها وفك لغزها ، وطلسمها المحير ، وقرأنا عن طائفة من الرحالة ، والمستكشفين في الغرب كان حلمهم الأكبر الوصول إلى تمبكتو ، والكتابة عنها ، وقد دفع بعضهم حياته ثمنا لهذا الحلم ، وتمكن البعض من زيارتها ، بشق الأنفس ، والكتابة عنها في القرنين 18/19 الملاديين ، كمنجو بارك .. ود/ هنري بارث .. ورينيه كاييه .. وفيلكس دي بوا .. وبول مارتي .. ( الأخيران وصلا بعد الإحتلال ) ... وغيرهم .. وسنستعين ببعض ما دونوا ، ولاحظوا ، وكتبوا ، وما استطاعوا جمعه مما تفرق من تاريخ المدينة ، وأهلها في طيات ، وثنايا هذا الحديث دون أن يكون أعتمادنا الكلي عليهم ... وفي معرض تعليقه عن اختيار مدينة كبيرة عامرة في هذا المكان يقول أحدهم وهو الرحالة الفرنسي ( رينيه كاييه ) : - بعد زيارته للمدينة في القرن التاسع عشر الميلادي - مندهشا " إنني لا أعرف الدافع إلى إقامة مدينة كبيرة كهذه وسط الصحراء " ثم يستدرك فيقول : " الأمر الذي يدعو إلى الإعجاب بالجهود التي بذلها مؤسسها ...!!! " ونحن نقول له : إذا كانت أوروبا تعتز باكتشافها للأمريكيتين ، وإقامة دنيا جديدة هناك ، وعالم جديد يقوم على إقصاء الآخر ، بل وتهميشه ، وإبادته ( ربما بمنطق التخلية قبل التحلية ) !!! فإن من حق العرب المسلمين ( العرب ، والطوارق ) - كذلك - أن يفخروا ، ويعتزوا بجهدهم المتميز في تأسيس ، وتعمير أغلب المراكز التجارية ، والثقافية في إفريقيا جنوبي الصحراء ، بل واختلاطهم ، والتحامهم الرائع ، والجميل بمن كان قبلهم من الشعوب ، والأقوام ، والقبائل ، دون إقصاء أو تهميش ، أو إبادة ... وقد رفعكم صيتها - تلك المدن التي تندهش من إقامتها - وسمعتها من أقاصي أوروبا ، وركبتم الصعاب ، والمخاطر الجمة حتى تمكنتم من رؤيتها ، والكتابة عنها ... أفلا يستحق في رأيكم هذا الإنجاز الإشادة ، والإعتبار ، والتنويه ، كعمل ، واختيار موفق ؟!!! وهنا يحضرني قول منصف لأحد الباحثين المهتمين بتاريخ المنطقة : ... وكان مما يحسب لهم - العرب - ومن جرأتهم إقدامهم على اختراق الصحراء الكبرى ، وتوغلهم في العمق الإفريقي ، وإقامتهم للمحطات التجارية لقوافلهم عند نقاط التقاء سكان الصحراء ، مع سكان مناطق السافانا ، والغابات الوعرة .. ويقينا أن إيمان هؤلاء الكبير بالإسلام ، وبرسالته العظيمة ، وضرورة تبليغها - للناس كافة - كان العامل الأهم في نجاحهم الباهر في هذا الإختراق ، وهذا الإنجاز وذاك التمازج ، والإختلاط السمح .. وإذا كان الكتاب الغربيون قد سعوا لزيارة المدينة ، والكتابة عنها فإن الكتاب ، والرحالة العرب كانوا السباقين إلى المنطقة و الكتابة عنها منذ وقت مبكر جدا قبل أن تتفتح عيون الغربيين على الرحلة ، والإستكشاف ، فنجد الحديث عن المنطقة ، عند البكري ... والعمري .. وابن بطوطة .. وابن خلدون .. وحسن الوزان ( ليون الإفريقي ) وربما من خلال كتابات الأخير عن تمبكتو سمع في الغرب عنها أول ما سمع .. وكان أول من أرخ للمدينة هو : عبد الرحمن السعدي - وهو عمدتنا في هذا الحديث - تحدث عن نشأة المدينة .. وتطورها .. والمراحل التاريخية التي مرت بها .. كما تحدث باستفاضة عن حياة الناس فيها .. وأنماط عيشهم .. والحياة الثقافية و العلمية فيها .. وذكر الدول التي حكمتها ، وبسطت سيطرتها عليها .. ومدد تلك السيطرة ، وذلك الحكم . فذكر أن الطوارق - وهم المؤسسون - قد حكموا تمبكتو حوالي أربعة عقود وكان ذلك في عهد المرابطين وقد تأسست المدينة ابتداء في زمنهم ... |
|
06-24-2009, 05:54 PM | #3 |
مراقب عام القسم الأدبي
|
بسم الله الرحمن الرحيم موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . بحث جميل ورائع, يا(ولت فرش)وقد تعودنا منك مثل هذه المقالات المهمة التي تضع النقاط على الحروف ونشكرك عليها شكر الازهار, لنفحات الأمطار. ونرجو منك الاستمرار في هذه المقالات الموفقة التي تعطي صورة مشرقة عن تاريخ المنطقة. |
غــدا أحلـــــــى .. لاياس ... لاحزن.. لا قنوط من رحمة الله.
التعديل الأخير تم بواسطة السوقي الخرجي ; 06-24-2009 الساعة 05:56 PM
سبب آخر: تنسيق
|
06-24-2009, 11:20 PM | #4 | |||||||||
مشرف منتدى الحوار الهادف
|
أحسنتي أختي ( ولت فرش ) بإختيارك هذا الموضوع المفيد البعيد عن الأنا التي ابتلي بها سكان منطقتنا وننتظر منك المزيد
|
|||||||||
|
06-27-2009, 03:39 PM | #5 |
|
التمبكتو: ثلاثية ,الملح ,والذهب , والكتاب
منقول
ثم ذكر امبراطورية مالي الإسلامية التي حكمت المدينة زهاء قرن من الزمان ، وكان نمو المدينة العمراني بدأ في عهدهم ، وخاصة في زمن الأمبراطور العظيم : كانكان موسى ( 1312/1337 م ) عندما مر بالمدينة في طريق عودته من رحلة الحج الشهيرة ( 1324م ) وكان مصطحبا معه المهندس ، والشاعر الأندلسي : أبو اسحاق الطويجن الساحلي ، وقد كلفه الإمبرااطور ببناء أول مسجد جامع كبير في المدينة ، بالإضافة إلى بنائه لقصر الملك فكانا ( المسجد الجامع ، والقصر ) بداية لفن معماري متميز عرف - لاحقا - بالمعمار الصحراوي السوداني الأندلسي .. وإذا كان النمو العمراني للمدينة بدأ - كما أسلفنا - في عهد إمبراطورية مالي ، فإن ازدهارها التجاري ، والثقافي ، والديني ، بل وحتى اكتظاظها السكاني بلغ أوجه ، وذروته في عهد امبراطورية الصنغاي ، الذين يذكر السعدي ضمهم للمدينة لمدة مائة عام أو يزيد ... وكان من نتائج استقلال إمبراطورية الصنغاي ( 1493 / 1591 م ) تغير وجهة القوافل التجارية نحو الشرق ، بعد تحرر دولة الصنغاي من نفوذ الماليين ، وإقامتهم لعاصمة جديدة هي مدينة : قاوه ، فتحول محور اهتمام القوافل شرقا ، الأمر الذي جعل المقيمين في ولاته - وكانت تابعة لإمبراكورية مالي - جعلهم يتحولون تدريجيا صوب جارتها الشرقية قاوه ، فكانت تمبكتو تشكل حلقة وصل ، ومحطة مهمة لابد من المرور بها بين المدينتين ( قاوه وولاته ) . ثم ما لبثت أن استقطبت النخب ، وأصحاب المال من المدينتين ، فتدفقت فيها دماء جديدة أضافت لها حراكا ، وحيوية جديدين ، فكان ذلك بداية لتعاظم دور تمبكتو على حسابهما ، على المستويين الإقتصادي ، والثقافي ، واستقبلت في الفترة ذاتها الكثير من الشماليين من كل الحواضر الإسلامية - تقريبا - من بلاد المغرب ، ومصر ، ومن بلاد الأندلس بعد سقوط غرناطة ، آخر المعاقل الإسلامية هناك ، ومن بلاد الحجاز ، واتسعت رقعة المدينة بشكل ملحوظ ، وتضاعفت مساحتها ، وأعيد بناء المنازل بشكل أكثر جمالا ، وتأنقا ، ونظمت الشوارع ، والحارات ، والساحات العامة ... وقد سجلت - كذلك - في هذه الفترة هجرات منظمة لشعب الصنغاي من : ( جِنًّيْ .. وهُمْبْرِي .. وقََاوَه .. وبقية المناطق المجاورة ) ربما كان ذلك بقصد إعادة التوازن إلى المدينة بين العرب ، والطوارق ، والصنغاي ، فكانت خطوة ذكية من السلطات لعلاج التركيبة السكانية المختلة لصالح أهل الشمال ، وربما حتى لا تترك فرصة لإبتعاد المدينة عن محيطها الديمغرافي القريب .... ومع ذلك ظلت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة الجامعة بين كل الأطياف ، والعناصر ، والأثنيات ، فكانت لغة التعليم ، والعلم ، ولغة التجارة ، والإدارة ، بل والحكم ... ويتطرق عبد الرحمن السعدي لسيطرة المغاربة على المدينة ، في عهد السلطان : مولاي أحمد الذهبي ، والفترة المغربية ( 1591/1833 م ) - وهي الأطول - يمكن تقسيمها إلى فترتين : الأولى : وكانت إثر الغزو مباشرة الذي كان على رأسه : جودر باشا -المملوك الإسباني - وقد استمرت أقل من عقدين ، وانتهت بوفاة السلطان / الذهبي ( 1603 م ) ، فانشغل المغاربة بخلافاتهم الداخلية ، وانقطع الإتصال المباشر للحملة المغربية مع المخزن في مراكش . وبذلك بدأت الفترة الثانية : التي تولت فيها فرق جيش الحملة المغربية إدارة شؤون البلاد فكان الباشاوات المغاربة ( الرماة أو الرمة ) هم المباشرين للحكم ، وإن بمساعدة - أحيانا - من إدارة محلية من بقايا ابناء الملوك الصنغاي وبعض الفاعليات الإجتماعية المؤثرة من أهل المدينة ؛ من العلماء .. والتجار .. وشيوخ القبائل.. الخ . وفي القرن التاسع عشر الميلادي ( 1833م ) امتد نفوذ دولة : شيخو آمدو الفلانية - المتمركزة أساسا في منطقة : ماسينا في إقليم موبتي الحالي في وسط البلاد - امتد إلى مدينة تمبكتو ، وفي هذه الفترة تحديدا ولد من رحم الانتماء للطريقة القادرية البكائية الكنتية المشترك : ولد تنسيق فلاني ، كنتي ، طارقي ، للإشراف على شؤون المدينة ، وما جاورها ... ويسوق الباحث الأمريكي ، المهتم بالتاريخ الثقافي ، والفكري للمدينة ؛ د/ جون هنويك ، أسباب النفوذ الكنتي في هذه اللحظة التاريخية ، فيقول : " وحينما برزت قبيلة كنته التي تدعي الأصل العربي !!! ( ... ) وأصبحت تمثل قوة قبلية ، وثقافية ، ودينية ضاربة في جل المجالات الصحراوية ؛ من شرق منطقة القبلة ( في موريتانيا ) إلى تمبكتو ، وأخذت ( القبيلة ) تلعب دور الوسيط فيما بين ضفتي الصحراء خلال القرنين 18/19 الميلاديين ، خاصة فيما بين واحات توات - حيث منطلق الزاوية الكنتية الأول - ( في الجزائر حاليا ) ، وأزواد - في مالي - ( ... ) ويضيف : وقد تمكنت الأسرة الكنتية من لعب دور بالغ الأهمية ... إن على المستوى الديني ، أو السياسي .. " ويبدو أن مدينة تمبكتو كانت الحاضنة لهذا النفوذ ، ثم مركزا أساسيا لإنطلاق الدور الكنتي في عموم الصحراء ، وبلاد السودان ، خاصة في مراحله الأخيرة قبيل الغزو الفرنسي للمنطقة .. ويعطينا الكاتب الفرنسي : فيلكس دي بوا في كتابه الشيق : ( تمبكتو العجيبة ) ملامح ، وصورة أوضح عن أسباب ، وبدايات التنسيق الكنتي الفلاني ، في المدينة ، فيذكر دور الشيخ / سيد المختار الصغير الكنتي - 1773/1853 م - ( كان الشيخ الأكبر لعموم القادرية في شمال وغرب إفريقيا ) في التوسط بين أهل المدينة ، وملك الفلان : شيخو أحمدو وإبرام عقد صلح ، وتفاهم بين الطرفين ، على الوضعية الجديدة للمدينة، وأن ذلك كان بداية استقرار الشيخ /سيد المختار الصغير الكنتي في تمبكتو ، ومقدمة لما سيطلع به - لاحقا - من مكانة محورية في تحمل مسؤولية الشأن العام في المدينة ، ومحيطها الحيوي ... ويضيف فيلكس : " وكان السلطان يأخذ رأي الشيخ في القضايا ، والمشاكل التي بين المغاربة ، والطوارق ، بل وكل المشكلات في المدينة والمناطق البدوية المجاورة تبحث في مجلسه - زاوية الشيخ - وصار المرجع النهائي في كل قضايا المناطق المجاورة ... " وسنلاحظ نمو ، واتساع هذا النفوذ في عهد الشيخ / سيد أحمد البكاي الكنتي - عندما آلت إليه المشيخة - والذي برز نجمه وعلا شأنه في المنطقة عموما ، نظرا لما تمتع به من علم غزير ومعرفة واسعة وسعة أفق وحنكة سياسية متميزة ودراية فائقة بالشأن العام وعلاقات محلية ، وإقليمية ضافية ، جعلته يتخاطب مع سلاطين وملوك حتى من خارج إقليمه ونطاقه المحلي ، فكانت له مراسلات مع السلاطين والعلماء في مراكش ، والولاة من أسرة أحمد القرمنللي في طرابلس الغرب ، بل وتذكر الوثائق أنه جند الجند لنجدة الأهل في الجزائر عشية الغزو الفرنسي للبلاد وكانت للشيخ ، اتصالات وسفارات متبادلة مع آل الشيخ / عثمان دان فوديو ، في إمارة المسلمين في سَكَتُو ( في نيجيريا حاليا ) واثمر ذلك تعاونا طيبا بين الأسرتين في كل إقليم السودان وكانت للشيخ اتصالات ومراسلات مهمة مع بريطانيا العظمى وتبادل مع البلاط الإنجليزي الرسائل والهدايا - رغم بعد الشقة - وكان الحلقة الأولى في هذه الإتصالات الرحالة الألماني الدكتور / هنري بارث ، الذي زار تمبكتو ، منتحلا صفة شريف من أهل الشام ( 1853 م ) ، فحماه الشيخ البكاي ، ودافع عنه بجرأة ، وبسالة ، أمام سلطات حلفائه الفلان الذين أرادوا الفتك بالرحالة ... وقد رد الوزير البريطاني ( كلارندون ) على الشيخ / البكاي ، بأمر من الملكة فيكتوريا ، بردود منها ؛ قول الوزير : إن الرسالة التي أرسلتها وصلتنا ( ... ) وفهمنا ما فيها وإنه لسرور عظيم لنا ( ... ) إن ما نريده هو أن تفتح عيون العرب في الجنوب لإقامة تجارة بيننا ونحن نقدر ذلك تماما ، ونقدر نظرتك لمهمتنا بكل سرور ، ونقبل هذه الصداقة ( ... ) وأن كل ما يطلبه العرب سوف نلبه دون زيادة أو نقصان ( ... ) ونظرا لأن حكومتنا قوية فسوف نحمي شعبك إذا استعانوا بنا ". وكانت تدار هذا الإتصالات بين الشيخ ، والإنجليز من الممثلية البريطانية في طرابلس الغرب ، والتي كانت بطريقة أو أخرى على علاقة تبعية ، أو تنسيق مع السلطان العثماني في اسطنبول ، ويبدو أن السلطات في طرابلس ، وكذلك الباب العالي على دراية تامة بما يجري بين الشيخ الكنتي ، والإنجليز ، بل وتبين الوثائق التي بحوزتنا عن هذه الفترة أنهما سعتا - طرابلس واسطنبول - لتسهيل ومباركة هذه الإتصالات ، وكانتا راضيتين عنها ، وتشجعانها ، إما من باب النكاية بالنفوذ الفرنسي الزاحف ، والسعي لإعاقة تقدمه المتوقع باستخدام الإنجليز لصده بترغيبهم بمكاسب موعودة في المنطقة ، وإما للتحرش بالوجود المغربي المتقادم والقضاء على بقية الولاء الروحي المتبقي له في النفوس ، والأفئدة وربما كان ذلك على خلفية الصراع القديم ، الجديد على النفوذ بين المغاربة والعثمانيين في منطقة المغرب العربي ، ومجالها الحيوي . ومن قراءة الوثائق التاريخية للفترة يلاحظ أن خشية الشيخ / أحمد البكاي ، تمحورت حول خطر زحف النفوذ الفرنسي ، الذي بدأ يضيق الخناق على المنطقة منذ فترة تمهيدا لغزوها ، واحتلالها ، فمن الشمال أحتلت الجزائر ( 1830 م ) ومن الجنوب ، والجنوب الغربي الإحتلال الفرنسي يستوطن في السنيغال ، ويمتد نفوذه إلى الإمارات الحسانية العربية ويتبع............. |
|
06-27-2009, 03:45 PM | #6 |
|
تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:3
منقول:
البعث على اجزاء: اقرا جميع الاجزاء تكتمل عندك الصورة. ومن قراءة الوثائق التاريخية للفترة يلاحظ أن خشية الشيخ / أحمد البكاي ، تمحورت حول خطر زحف النفوذ الفرنسي ، الذي بدأ يضيق الخناق على المنطقة منذ فترة تمهيدا لغزوها ، واحتلالها ، فمن الشمال أحتلت الجزائر ( 1830 م ) ومن الجنوب ، والجنوب الغربي الإحتلال الفرنسي يستوطن في السنيغال ، ويمتد نفوذه إلى الإمارات الحسانية العربية على ضفاف نهر السنيغال ، وشواطيئ الأطلسي ، فاستشف الشيخ من مجمل هذه الأوضاع ، ومن نقاشاته ، ومحاوراته الطويلة مع د/ هنري بارث احتدام الصراع على المنطقة بين الإنجليز والفرنسييين ، فأراد أن يستفيد من هذا التقاطع بين الطرفين ، لحماية منطقته من الخطر الفرنسي القريب ، والداهم ، وأما الإنجليز فلم يكن منهم خوف - في رأيه - فهم بعيدون نسبيا ، ولا يخشى من أطماعهم وربما بسبب علاقاتهم الودية في ذلك الوقت مع السلطنة العثمانية ، والباب العالي ، وموقفه مصدر إطمئنان - أقصد موقف الباب العالي - بالنسبة للشيخ / أحمد البكاي ، فهو مقر الخلافة الإسلامية الجامعة ، والسلطان العثماني - حينذاك - هو خليفة المسلمين . إلا أن ظروفا دولية وإقليمية ، ومحلية طرأت وغيرت بعض التحالفات ، الأمر الذي منع جهود الشيخ مع الإنجليز أن تؤتي ثمارها وبالتالي لم يتدخل الإنجليز - حسب وعدهم - في الوقت المناسب لوقف الزحف الفرنسي على المنطقة ، وابتلاعها . هذا وظلت السيطرة المشتركة للفلان وكنته قائمة على المدينة حتى انتزعها من بين أيديهم الغزاة الفرنسيين ، برغم الهزة العنيفة التي تعرضوا لها إبان محاولة الحاج/عمر تال الفوتي اجتياح المنطقة ، وقد نهض الجميع - فلان .. وكنته .. وطوارق - نهضة الرجل الواحد لصده ودحر اجتياحه للمنطقة . فبعد معارك طاحنة وبعد كثير من الكر والفر من الطرفين وخسائر فادحة في كلا الجانبين ، تمت محاصرة جيش الفوتا وقائدهم في مدينة حمد الله وقضي عليه في إحدى المغارات في تلك المنطقة . والمؤسف - حقا - هو أن هذه المعارك وهذا الصراع كبد المنطقة خسائر كبيرة في الأرواح وهزحركة الإقتصاد والتجارة في المدينة ، بل وحتى على مستوى العلاقات بين الأثنيات المكونة للنسيج السكاني للمنطقة فقد خلق شرخا وانقساما طائفيا أو قل ( طُرقيا ) حادا وغير مسبوق في البلاد بين القادريين أهل المنطقة الأوائل والتجانيين الذين قدموا في معية الحاج /عمرتال الفوتي لبسط سيطرتهم على المنطقة . ويذهب الكثير من الباحثين إلى أن هذا الصراع غير المبرر بين الطريقيتين كان من الأسباب التي ساهمت في إضعاف البلاد وسهلت للغزاة الفرنسيين مهمتهم في احتلال المنطقة برمتها وبسط سيطرتهم على كامل الإقليم : الصحراوي السوداني في العقد الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي . تمبكتو مدينة ؛ التجارة .. والثقافة : كانت التجارة وتبادل السلع بين ضفتي الصحراء الكبرى منذ عصور موغلة في القدم ، ذكرها المؤرخ الإغريقي الشهير : هيرودوت وسماها " التجارة الصامتة " بسبب عدم وجود لغة مشتركة بين طرفيْ عملية التبادل ؛ فكان تجار الشمال يضعون ما يحملون من سلع ( ملح وغيره ) في مكان متعارف عليه ، ثم يبتعدون قليلا عن المكان ، فيأتي الأهالي من الجنوب ويضعون هم أيضا ما يرون أنه مقابل ( ثمن ) سلعة أهل الشمال ( من الذهب أو العاج أو غير ذلك ) ، ثم يبتعدون قليلا حتى يعطوا فرصة لتجار الشمال أن يقرروا إن كان الثمن يناسب بضاعتهم ، فيعود الشماليون إلى المكان ، ويأخذون ما يرون أنه يقابل سلعتهم ، ثم ينصرفون من حيث جاؤا دون تحاور مباشر بين المتبايعيين ولهذا عرفت هذه الصورة من التبادل التجاري السلمي عند المؤرخين : " بالتجارة الصامتة " . وقد استمرت هذه الصورة لأزمنة متعاقبة ولم يعثر حتى الآن على تاريخ محدد وأكيد لتطور هذه العملية إلى استخدام اللغة بين المتبادلين ، إلا أن الثابت بالدليل أن التبادل التجاري بين ضفتيْ الصحراء شهد تطورا سريعا ، ومطردا بعد دخول الإسلام مباشرة إلى منطقة شمال إفريقيا في القرن الهجري الأول . وفي تمبكتو خاصة لأن مؤسسيها مسلمين وكان ذلك في ظل دولة كان شعارها هوأسلمة المجتمع والحكم بتعاليم الإسلام هي : الدولة المرابطية . فقد ترافقت فيها الحركة التجارية مع حركة التعليم والدعوة منذ الوهلة الأولى ومعلوم أن تجار القوافل الذين ارتادوا المنطقة حينها كانوا تجارا ودعاة في غالبيتهم العظمى ، فكان ذلك التكامل الجميل بين الدعوة للرسالة السامية والسعي والكدح لكسب الرزق الطيب والربح الحلال ، الأمر الذي أثمر نهضة متزامنة في المدينة كان جناحاها الإزدهار الإقتصادي ، والنهوض الثقافي والعلمي ، حتى أصبحت تمبكتوفي فترة قياسية وجيزة مقصدا للتجار ورجال المال وفي نفس ا لوقت صارت قبلة للعلماء وطلبة العلم والمعرفة . ونافس الكتاب في سوقها الذهب والملح ، بل تجاوزهما في بعض الأحيان ويذكر حسن الوزان - الذي زار المدينة مرتين موفدا في سفارة من المخزن - يذكر في كتابه ( وصف إفريقيا ) أن الكتاب في تمبكتو أصبح يساوي وزنه ذهبا ، وهو أمر غير مسبوق في كل الحواضر الإسلامية حينذاك . وإذا كانت أثمن وأغلى سلعة في سوق المدينة عند تجار القوافل من الشمال هي : الذهب التبر والألماس .. وأثمن وأعز سلعة عند أهل الجنوب هي : ملح الطعام ، فإن أفضل وأثمن وأغلى سلعة عند أهل تمبكتو هي : الكتاب وهذه - لعمري - مفارقة عجيبة وظاهرة فريدة تستحق الدراسة والتحليل . ومن أبسط الشواهد التي بين أيدينا الآن على صحة هذا الزعم هو : هذا الكم الهائل من المخطوطات العربية الموجود في مكتبات المدينة والذي تقدره بعض المصادر بما يفوق مليوني مخطوط ( 2000000 ) وهورقم متميز بكل المقاييس إذا ما قرن بالمجود في بقية مدن وحواضر المنطقة . مؤثرات الحضارة العربية في المدينة : مثلت الهجرات القبلية أهم الروافد التي أثْرت العلاقات بين حوض نهر النيجر ، والمغرب العربي ، فمنذ الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا شكل الفضاء الجغرافي الممتد من نهر السنيغال ، وثنية نهر النيجر ( حيث تقع : تمبكتو ، وقاوه ، وجنيْ ) إلى بلاد الأندلس ، شكل هذا الفضاء مجالا سهلا لحركة القبائل الصنهاجية ، والعربية ، والتجار الدعاة الذين ارتادوا مدن ، وأسواق هذه المنطقة في وقت مبكر جدا ، من تاريخ الإسلام في هذا الحيز . ويسوق بعض الباحثين للتدليل على هذا التلاقي ، والإتصال المبكر ، والإنتقال السريع للبشر ، والأفكار ، إلى منطقة حوض النيجر ، شواهد قبور قاوه الرخامية ، التي صنعت في أغلبها في مدينة ( المرية ) الأندلسية ، ثم عبرت المتوسط والصحراء الكبرى إلى أن وصلت إلى مدينة قاوه ، عاصمة امبراطورية الصنغاي . إلا أن الدور الأهم في نقل المؤثرات ، وتنشيط الحركة بين المنطقة الشمال ، هو ذلك الذي لعبته القبائل العربية ، والطارقية ، القاطنة في أطراف الصحراء ، وتمثل في تنظيم ، وحماية القوافل التجارية العابرة للصحراء جنوبا . ويسجل تاريخيا للأسكيا الحاج / محمد الكبير توري - امبراطور الصنغاي العادل - أنه استطاع بحنكته السياسية الفذة ، وعدله المشهود ، استطاع كسب قبائل الطوارق في المنطقة ، وجعلهم طوع أمره ، فاستعان بهم في بسط الأمن في منطقة امتداد فوذ امبراطوريته في الصحراء الكبرى ، فأمن بذلك السبل ، والطرق المؤدية إلى أسواق امبراطوريته ، مما زاد في تدفق القوافل التجارية من الشمال إلى هذه المدن ، والأسواق . هذا بلإضافة إلى اهتمام الأسكيا/ محمد بتنظيم الأسواق ، وتكليف مشرفين بشأنها ، وادخاله لنظام الحسبة المعمول به في أسواق الحواضر الإسلامية الكبرى ، فكان هناك إشراف ، ومتابعة ، للموازين ، والمكاييل في السوق ووضع عقوبات صارمة على من يضبط مخلا بها ، أو يتلاعب بالأسعار أو يحتكر سلعة ما ، أو يخرج عن المعمول به والمتعارف عليه في أسواق الإمبراطورية وبالتالي شهد عهد الأسكيا / محمد حراكا تجاريا ، وازدهارا اقتصاديا مميزا . وتذهب المصادر أيضا إلى أن النهضة العلمية ، والثقافية التي برزت في الإمبراطورية في عهد الأسكيا / محمد لم تكن مسبوقة ، فبعد التحرير والتوسع الكبير لرقعة الإمبراطورية في زمن أسلافه وبعد رحلة الحج الشهيرة التي قام بها ( 1497 م ) واحتكاكه بالنظم الحاكمة في المشرق ؛ من مماليك وأتراك وأشراف في الحجاز ومجالسته للنخب من العلماء والتجار وما ذكرته بعض المصادر من : أن الخليفة العباسي في القاهرة بارك الأسكيا وزكاه لحكم بلاد السودان وأنه اجتمع بالإمام / جلال الدين السيوطي ، ونصح له ، وباركه . بعد كل هذا نلاحظ أن الأسكيا / محمد الكبير توري ، اتجه نحو أسلمة دولته في كل نظمها ، وتشريعاتها واحكامها وثقافتها ، فكان متأثرا كل التأثر بما شاهد وعاين في بلاد المشرق وسعى جاهدا أن ينقل إلى بلاده هذه المحصلة الثرية من التراكمات الحضارية والثقافية العريقة ولا شك أن الأسكيا أحضر معه بعض المشايخ ، والدعاة ، بل والتجار كذلك كما فعل قبله الإمبراطور كانكان موسى ، بعد عودته من الحج وفي هذه الفترة زار الشيخ الإمام / سيدي محمد بن عبد الكريم المغيلي ، زار عاصمة الأسكيات : قاوه واستقبله الأسكيا / محمد استقبالا حارا في القصر وقربه إليه وكان يستفتيه ويسأله في كثير من الأمور الشرعية ذات الصلة بحياة الرعية ، وشؤونهم ، وهي أسألة وأجوبة مشهورة في ثقافة المنطقة. وقد شهدت المنطقة في هذه الحقبة تدفقا كثيفا للجاليات القادمة من بلاد المغرب ومصر والحجاز وبلاد الأندلس ، ربما بسبب مابلغهم من احتفاء الأسكيا بهم وعنايته بعلمائهم ، وتجارهم وربما بسبب الرخاء الإقتصادي والأمن والإستقرار السائدين في المنطقة أو لهذه الأسباب مجتمعة وهي بلا شك أسباب مغرية وجاذبة بطبيعتها ويبدو أنها كانت شبه معدومة في الجوار ومنطلق هؤلاءالوافدين !!! فكان كل ما تقدم ، مقدمة طبيعية لنهضة ثقافية علمية، ازدهرت في بلاد الصنغاي واحتضنتها مدينة تمبكتو واستفادت منها أكثر من بقية مدن الإمبراطورية ، ربما بسبب تمركز الهجرات من الشمال فيها ، حيث كانت المجموعة العربية في المدينة من أهم العناصر التي ساهمت في نهضتها ورقيها ، وكان العرب يشكلون الجزء الأكبر من تجار المدينة ، كما كانوا أغنى العناصر المشكلة للخريطة السكانية للمدينة وهنا يقرر أحد الباحثين الغربيين دور الشمال في نمو وتطور تمبكتو فيقول : " إذا أردنا أن نعرف أصل مدينة تمبكتو فيجب أن نبحث في اتجاه آخر لأن ماضيها ارتبط بالحضارة العربية في شمال إفريقيا .. " . وفي سياق الحديث عن أهمية المدينة كملتقى للتبادل التجاري بين سكان ضفتيْ الصحراء يقول فيلكس : " تعد تمبكتو مكان التقاء لكل الذين يسافرون بالقوافل أو القوارب .. " هذا صحيح فهي محطة رئيسية للقوافل القادمة من الشمال ؛ توات .. وبلاد تلمسان .. ومنطقة الجريد في تونس .. وغدامس وطرابلس الغرب .. وفاس .. ومراكش .. وسجلماسة .. وتافيلالت .. وبلاد السوس .. الخ . وهي ميناء ومرسى للقوارب النهرية القادمة من أعالي روافد نهر النيجر وكل المنطقة الجنوبية وقد ساعد موقعها المميز أصحاب القوارب في الوصول إليها ، حيث تقع عند مخارج فروع الروافد عند نقطة ينثني فيها النهر بشدة من المجرى الغربي إلى الشرقي ، مشكلا ثنية أو إنحناءة جميلة ؛ على شكل ذروة سنام الجمل وهنا يسهل الإلتقاء بين الشمال والجنوب والمدينة هي أول مكان آمن تتوفر فيه المياه والظل والطعام ، يستقبل أصحاب القوافل القادمين من الشمال ، بعد رحلة شاقة ومضنية،استمرت لأربعين يوما أو لشهور بالنسبة للقادمين من مدن الشمال البعيدة وهي كذلك آخر نقطة يمكن أن يصل إليها أصحاب القوارب النهرية القادمين من الجنوب والذين يبذلون الجهد الجهيد لإيصال منتجاتهم وسلعهم في الوقت المناسب إلى المستهلك المأمول في أسواق المدينة. ويتبع...... |
|
06-27-2009, 03:49 PM | #7 |
|
تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:4
منقول
القافلة ؛ شريان المدينة الحي :
ربما يكون من المناسب هنا ذكر لمحة عن تجارة القوافل القادمة من الشمال إلى حاضرة تمبكتو . كانت قافلة الملح هي أقدم آلية تربط بين ضفتي الصحراء ولا زالت إلى يومنا هذا تتحرك جيئة وذهابا بين حواف الصحراء ، من الشمال حيث المعدن المبارك - الملح - إلى الجنوب وضفاف النهر حيث تمبكتو ، التي يحلو لبعض الغربيين بتسميتها : بفلورنسا الصحراء .. ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي ( 15 م ) كان لقبيلة البرابيش العربية دورا مهما في تنمية ، واستمرار حركة قافلة الملح بين تاودني وتمبكتو . ودعونا نتناول ذلك في شقين اثنين ؛ في البداية : كانت القوافل تأتي أساسا من المدن والحواضر الواقعة في الشمال وكانت تحمل نصف حمولتها تقريبا من النقاط التي تنطلق منها عند بداية الرحلة وتتركز في مجملها في ؛ المنسوجات القطنية والحرير والألبسة الجاهزة والمصنوعات الفضية والنحاسية والأسلحة ؛ سيوف ورماح ودرق ومصنوعات جلدية مختلفة ومختلف أنواع الأثاث المنزلي ؛ كالحنبل والدوكالي والقطيف والقرض وكلها تسميات لمصنوعات من وبر الإبل وشعر الأغنام وغيرها وهي معروفة في المنطقة ومن تلك السلع الخيل المسومة واسرجتها ، فقد كانت الحرائر منها مطلوبة عند الملوك وأهل اليسار في البلاد والورق والكتب - لاحقا - بل وكل بضائع وسلع حوض المتوسط ثم تكمل القافلة بقية حمولتها من ( ملح الطعام ) عند مرورها بنقاط استخراجه في منتصف الطريق ، إما من موقع : تغازى أو من موقع : تاودني - ويقع كلا المنجمين الآن في أقصى شمال جمهورية مالي - وبعد حمل ما أمكن حمله من الملح تتجه القافلة إلى الهدف المنشود : تمبكتو . كان هذا قبل أن تكبر تمبكتو وتتسع ثم بعد ما نمت المدينة وكبرت وكثر سكانها واستوطنها الكثير من تجار الشمال فقد أصبحت قوافل الملح ( أزلايْ ) تنطلق من تمبكتو نفسها وتضم مجموعات مختلفة ، يشكل البرابيش والرقاقدة والهمال وكلنتصر أغلبهم وأخرى تنطلق من منطقة آضغاغ وتضم إفوغاس وكنته وغيرهم وتتجه إلى مواقع استخراج الملح المذكورة والعودة به تمهيدا لتسويقه جنوبا وكان ذلك أمرا متكررا ومعتادا طوال العام . وتتكون القافلة عادة من أعداد كبيرة من الجمال تتراوح ما بين ( 600/1000 ) ستمائة إلى ألف جمل ، يقودهم ويشرف عليهم عدد من الرجال الأشداء يتراوحون ما بين ( 300/500 ) ثلاثمائة إلى خمسمائة رجل . هذه هي الرحلات الرئيسية في العام ومواقيتها كاتالي : واحدة في الفترة ما بين ديسمبر إلى يناير ورحلة أخرى تكون ما بين يوليو إلى أغسطس . أما القوافل الصغيرة فإنهاتتحرك في بقية شهور السنة ولكن أعدادها أقل بكثير ولا تتجاوز في الغالب ( 60/ 100 ) من ستين إلى مائة جمل لا أكثر . فما هي أهمية الملح وكيف يستخرج ؟ : تعتبر منطقة تاودنِي التي يستخرج منها الملح ، من أكثر مناطق العالم جفافا وتصحرا ، فلا أشجار ولا نباتات ولا زرع ولا ضرع هناك والمياه القليلة المتوفرة في المنطقة غير صالحة للشرب ، بسبب ملوحتها الزائدة وأقرب منهل توجد به مياه عذبة يبعد عن تَاوْدَنِي حوالي ستين كيلو مترا ( 60 ) أو يزيد ، ما يعادل مسيرة يوم ، ونصف اليوم للجمل . والملح هذه السلعة التي كانت عند الكثير من الشعوب تصل إلى مرتبة التقديس له أهمية كبرى في ثقافات الكثير من شعوب العالم القديم ، فنجده في الثقافة اليونانية سلعة مقدسة ومباركة ، ويذهب بعض الباحثين إلى أن مسمى الملح نفسه كان يعني في لغتهم الحكمة : " sel de la sagess " . وكذلك كان الملح عند شعوب شمال إفريقيا وجنوب الصحراء سلعة مميزة ولها المرتبة الأولى في الأهمية بين سائر السلع ، منذ فجر التاريخ . يتبع |
|
06-27-2009, 03:53 PM | #8 |
|
تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:5
أما كيف يستخرج ملح تاودني ، فيستخرج من تحت طبقة رملية ( سبخة ) يزيد عمقها أو ينقص حسب استنزاف المعدن من المكان ، ففي البداية قد تجده على عمق بضع سنتمترات ، ثم يزيد العمق إلى أن يصل إلى طول قامة الرجل الفارع الطول وعندما يصل العمال إلى الملح نفسه يجدونه على شكل طبقة ممتدة إلى مساحة كبيرة - أحيانا - ثم يقطعونه إلى كتل وألواح بطول ( 90/95 ) سنتمترات في سبع بوصات ( 90/95س ) أو ( 33 ) ثلاثة وثلاثين سنتمتر في ثلاث بوصات .
وعندما يستخرج الملح في أول أمره يكون رطبا لزجا ويقطع على أشكال تشبه أعمدة الرخام الأبيض وبالإمكان الكتابة عليه في الحين فالبعض يكتب عليه علامته التجارية المميزة والبعض يكتب عليه العلامة أو الوسم الذي تضعه قبيلته على حيواناتها ومواشيها . وحمولة الجمل العادي من هذه الألواح تكون من أربعة إلى ستة ألواح من الملح 4/6 ولا تزيد . ويذكر الرحالة ابن بطوطة ( زارالمدينة 1353 م ) : أن حمولة البعير الواحد من الملح في مالي يصل ثمنها إلى عشرة مثاقيل من الذهب ( 10 ) وقد تتجاوز ذلك بكثير في المناطق الداخلية البعيدة حيث تصل إلى أربعين مثقالا من الذهب الخالص ( 40 ) وظلت اسعار الملح تترتفع في مالي إلى أن وصلت في القرن السادس عشر الميلادي ( 16 م ) إبان زيارة حسن الوزان للمنطقة وصل ثمن حمل البعير من الملح إلى ثمانين مثقالا من الذهب ( 80 ) . وهذا يدلنا على الطلب الكبير على سلعة الملح كلما توغلنا جنوبا . ويمكن أن نجمل أسباب ارتفاع ثمن هذه السلعة في الجنوب إلى الأسباب التالية : منها بعد أماكن استخراجه من المناطق الداخلية البعيدة فالمسافة تزيد على ألف وسبعمائة كيلو مترا ( 1700 ك م ) ثم المشقة الكبيرة التي يتجرعها مستخرجي الملح ، إضافة إلى مخاطر الطريق ، ثم حاجة أهل الجنوب الماسة والضرورية للملح وله استخدامات متعددة عندهم ، فهم يحتاجونه لتعويض اجسامهم عما يفقدونه من الملح أثناء التعرق الزائد وهم يستخدمونه كذلك لعلاج بعض الأمراض المستعصية هناك . كما أن الملح استخدم في مرحلة ما في هذه المناطق كعملة مقبولة في كل الأسواق والمدن في الجنوب ، حيث يقطع إلى وحدات صغيرة ويحمل في أكياس مخصوصة وتستطيع أن تشتري به ما تريد من بضائع وسلع ، بعكس بعض العملات التي قد تقبل في سوق ، وترفض في سوق آخر . البضائع التي تجلبها القوارب إلى تمبكتو : وأما السلع التي تأتي بها القوارب عبر النهر من الجنوب ، فإنها تتكون في مجملها من صنفين : الأول عمدته الذهب ،ثم الألماس والعاج وخشب الصندل والصمغ العربي وريش النعام .. الخ وهذا الصنف يتجه مباشرة إلى الحواضر الشمالية البعيدة وقد يجد بعضه طريقه إلى موانيئ الضفة الشمالية للمتوسط . أما الصنف الثاني فإنه موجه للمستهلك في تمبكتو وقاوه ومدينة السوق ( تادمكت ) وما حولها وبقية القرى والمداشر القريبة في الصحراء والتي تقطنها قبائل عربية وطارقية : كأروان والمبروك والمأمون وبو المرحان ... وغيرها . وجل السلع المتجهة إليهم تتمثل في : الأرز والدخن والعسل والتبغ وبعض البهارات الجنوبية والتمر الهندي وزيت الذرة .. الخ . وهنا يلاحظ هذا التناغم الجميل لعملية التبادل ؛ حين تنتقل حمولة الجمل إلى القارب وتنتقل حمولة القارب إلى الجمل ويتجه كل واحد منهما عائدا ادراجه من حيث أتى محملا بما استطاع حمله ، بحثا عن سوق جديد وربح جديد ... وهكذا دواليك وفي كل مرة تتجدد دورة من دورات الحياة التجارية في هذه المدينة العجيبة التي تستقبل كل الأجناس والأعراق ، بدون تفريق أو تمييز . وربما لهذه الأسباب أثنى عليها الكثير من الرحالة الذين زاروها ولمسوا طيبة أهلها عن قرب وحبهم العميق للمرح وتذوقهم للفن ، وترحيبهم بالغرباء ، بل والمبالغة في الإحتفاء بهم ربما لكي يبعدوا عنهم الإحساس بالغربة . وقد وصف زوار هذه المدينة أهلها بالذكاء واللباقة والفطنة ... وربما تكون هذه الصفات والسجايا هي التي مكنت تمبكتو دائما من استعاب الآخر القادم من بعيد ، بل واكتسابه وجعله من صميم أهلها ، وربما تكون هذه الصفات - كذلك - هي التي مكنتها دائما من امتصاص الصدمات والنكبات التي تعرضت لها بسرعة فائقة والمبادرة إلى استعادة دورها المحوري في تحريك عجلة التبادل التجاري والثقافي بين ضفتيْ الصحراء واستمرار إشعاعها الحضاري في عموم المنطقة بدون منازع ، حدث ذلك مع غزوة جودر باشا ، وتكرر مع امتداد نفوذ شيخو آمدو وحدث بعد أزمات عديدة تسببت فيه بعض الأثنيات القاطنة في المنطقة . وكانت هذه المدينة العجيبة دائما تنتفض وتنهض من بين ركام معارك الآخرين على أديمها وكأنها تبعث من جديد وتنطلق في مسيرة جديدة وكأنها في شموخ عزها الأول . ولكن هل نهضت تمبكتو بعد الإحتلال الفرنسي الغاشم ، الذي استمر جاثما على صدرها ، ويكتم أنفاسها لأكثر من ستة عقود عجاف ( 66 ) ؟!!! وماذا عن الحياة الثقافية في تمبكتو ؟ : تمبكتو هذه المدينة المثقفة العالمة .. تكمن عظمتها وسموها في أنها تمثل الذاكرة الحية للثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا جنوبي الصحراء ، بما كانت تعنيه في الماضي القريب ، كمنارة باسقة في سماء المنطقة تبعث أنوارها الوضاءة في كل اتجاه وكأهم تقاطع للإلتقاء والتواصل بين الشمال والجنوب ، وبما مثلته مدارسها وجامعاتها وزواياها الروحية كمعين لا ينضب ، ينهل منه طلاب العلم والمعرفة في سائر منطقة الساحل الإفريقي ، إلى أعماق الغابات ، والأدغال الإستوائية . وفي سياق الحديث عن عظمة الدور الثقافي والحضاري الذي نهضت به هذه الحاضرة الإسلامية العتقية وأخواتها في منطقة ثنية النهر يقول كاتب فرنسي معاصر : ... " تحولت مدن المنطقة الثلاث الكبرى : تمبكتو .. وقاوه .. وجنيْ ، إلى مراكز لغليان ثقافي إسلامي ، سوداني ، لا تزال ذكراه حية " أ .. هـ .. نعم هذا صحيح فمنذ تأسيس الجامع الكبير ( جينقريْ بيري ) في القرن الرابع عشر الميلادي ( 1325 م ) ولحقه صنوه جامع سان كوريْ ) ، الذي بني على نفقة امرأة ميسورة من قبيلة ( كَلْغَلاَ ) من سكان المدينة ، في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وجامع الشيخ / سيدي يحي التادلي ، وما ذكر عن العدد الكبير لمدارس المدينة ، والذي تجاوز مائة مدرسة ( 180 ) ،نعم منذ ذلك الوقت أصبحت المدينة كأنها خلية نحل تعج بالطلاب الأفارقة ، يأتونها من كل المناطق المجاورة واستقطبت العلماء .. والدعاة من كل البلاد العربية بل ونافست مدارسها وجامعاتها مثيلاتها في فاس .. والأزهر .. والقيروان .. ومنارات طرابلس الغرب .. والقيروان .. وتلمسان .. وكانت على اتصال بهم وتوافق وتكامل في المناهج العلمية وطرق التدريس . ولم يقتصر دور المدينة فقط على اجترار واستهلاك ما يأتيها من منتوج فكري وثقافي من حواضر الشمال ، بل تجاوزت ذلك ، إلى استيعاب ذلك المنتوج الحضاري والمساهمة في تنميته وبذل الجهد في نشره في سائر الإقليم جنوبي الصحراء . وكان لعلماء المدينة إضافات جيدة في إثراء الثقافة والفكر الإسلاميين في المنطقة ، فقد كتبوا وألفوا ، تآليف قيمة في كل العلوم والمعارف بما في ذلك الطب وعلم الفلك والحساب ، إضافة إلى تآليفهم القيمة في الفقه وعلوم القرآن من تفسير وغيره .. وكتبوا في علوم الحديث واللغة العربية وآدابها ؛ من شعر ونثر ونحو وصرف .. وكتبوا كذلك في التصوف والتاريخ والجغرافيا .. وأغلب هذه المؤلفات مازالت مخطوطة لم تمتد إليه يد لتطبعها وتنشرها للناس . وقد ظل هذا الحراك وهذا النشاط العلمي والثقافي حيا وفي نمو وازدياد مطرد ؛ يتحرك ويمد سائر منطقة غرب إفريقيا بالعلماء .. والدعاة .. والمصلحين إلى أن أحتل الغزاة المنطقة وكبلوها بأغلالهم البغيضة ، ثم طفقوا يحاولون قتل .. ومسح .. ومسخ ثقافة .. وهوية المدينة ، بل المنطقة برمتها . البيوتات ، والأسر العلمية في تمبكتو : واشتهر في المدينة بيوتات علمية منذ وقت مبكر من تأسيسها ، وقد توارث بعضهم الإمام في المساجد الكبرى ، والفتيا ، وتعليم الناس مبادئ الدين الحنيف ، فكانت أسرة آل أقيت الصنهاجية هي السباقة في هذا المجال ، وظلت فيهم إمامة المسجد الجامع ، والقضاء إلى مجئ المغاربة ، ومن أعلام هذه الأسرة البارزين ، الفقيه الكبير / أحمد بابا التمبكتي ، الذي عارض الحملة المغربية ، فقبض عليه قائد الحملة ، جودر باشا ، هو ،وبعض آل بيته ، وأرسل إلى المغرب مكبلا في الأغلال ، وظل محبوسا هناك إلى أن توفي السلطان مولاي أحمد الذهبي ، فأطلق سراح الشيخ ، وعاد لاحقا إلى وطنه تمبكتو ، التي ظل يحن إليها طوال فترة وجوده بالمغرب ، ويقول فيها ما تجود به قريحته من الشعر الجميل . ومن الأسر العملية في المدينة ذات الشهرة ، والصيت ، أسرة الونكريين أو الونقاريين ، وقد انجبت للمدينة العديد من فقهائها ، ولعل أشهرهم الفقيه العلامة / محمد محمود بغايغو ، وهو أستاذ أحمد بابا التمبكتي . ومن الأسر العلمية التي كانت لها إضافة مشهودة في الحياة العلمية ، والثقافية للمدينة : ( كل إنصر ) أو الأنصار ، وهم قبيلة كبيرة ، كانت من أوائل القبائل العربية التي أستوطنت تمبكتو ،وضواحيها ، منهم الفقهاء ، والعلماء ، والشعراء ، والساسة ، وعلماؤهم لهم مؤلفات علمية رصينة في كل مجالات المعرفة . ومن الأسر ، والقبائل التي اشتهرت في المنطقة بالعلم ، والتعليم ، قبيلة : ( كل أسوك ) أو أهل السوق ، وهم تاريخيا مجموعة من العلماء كانوا عصب التعليم ، والقضاء الشرعي ، في مدينة : السوق ( تادمكت ) ، ولما دمرت المدينة ، إثر غزو ملك الصنغاي : سوني ألي بيري لها ، تفرقوا بين القبائل ، والمدن ، ولذلك عرفوا بين الناس باسم : ( أهل السوق ) ، وهم في الواقع من أصول مختلفة - كما تقول بعض المصادر - فمنهم : الأشراف ، ومنهم الأنصار ، ومنهم غير ذلك ، وقد اشتهروا في المنطقة بأنهم القبيلة الوحيدة التي ليست لها مهنة إلا العلم ، وتعليم الناس ، والقضاء بينهم بالحق ، وقد اشتهروا كذلك بنسخ الكتب بخطهم الجميل الذي تميزوا به في كل الصحراء ، وبلاد السودان . ومن الأسر العلمية في المدينة ، أسرة آل الشيخ / سيدي أحمد أق آده ، وآل الشيخ / زيني ، ولم نتطرق للأسرتين هنا لأن وجودهم الحقيقي ؛ بالنسبة للأول ؛ هم بناة ، ومؤسسي زاويتهم الشهير في قرية أَرَوَانْ ، ونشاطهم العلمي ، والتربوي يتركز فيها منذ قرون ، وهذا لاينفي أن لهم وجودا ملحوظا في تمبكتو ، فقاضيها الشهير / محمد محمود الأرواني منهم ، وكذلك من أعلامهم في المدينة ، مولاي أحمد بابير ، وكذلك الأمر بالنسبة لآل الشيخ / زيني فهم بناة ، ومؤسسي زاويتهم المباركة المعروفة في قرية : بوجبيهة ، وما زالوا يعمرونها ، ونشاطهم العلمي ، والدعوي يتركز فيها . ومن الأسر العلمية التي دخلت المدينة متأخرة ، الأسرة الكنتية ، ولكنها ساهمت بنصيب طيب ، في كل الحركة الحية فيها ، في كل الميادين ، الإقتصادي منها ، والسياسي ، والثقافي ، ولعلمائها تآليف مهمة ، ومتميزة ، في كل الموروث المكتوب في مكتبات ، ومراكز المدينة العلمية ، بل المنطقة بعمومها ، وسكن في تمبكتو العديد من أعلام الأسرة الكنتية ، منهم على سبيل المثال الشيخ / سيد المختار الصغير ( بادي ) ، والشيخ / سيدي علواته ( عروة ) وله تفسير للقرآن ، والشيخ / أحمد البكاي ، وله مؤلفات مختلفة في السياسة ، والتاريخ ، والتصوف ، وله شعر جميل في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، والشيخ /سيد بابا أحمد بن الشخ سيد المختار الصغير- 1834/1887 م - ( وكان خليفة عمه في مشيخة الطريقة القادرية في المنطقة ) ، والشيخ / سيدي أحمد بن عمر الرقادي الكنتي - 1633/1718 م - ، وله كتاب في الطب العربي ، والأعشاب ، يعتبر أهم كتاب في مجاله في كل الصحراء ( شفاء الأسقام العارضة في الظاهر ، والباطن ) ، والجد ؛ سيد محمد الفردي - 1840/1909 م - ( كان من أعيان المدينة ،وقاد المقاومة الكنتية في وجه الغزو الفرنسي ) ...وغيرهم كثير ربما لا يتسع المجال لذكرهم . يتبع |
|
06-27-2009, 04:01 PM | #9 |
|
تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:6
تمبكتو اليوم : كانت تلك لمحة مقتضبة عن تمبكتو التاريخية ، قبيل الغزو الإستعماري ، أما تمبكتو بعد الإستعمار أو الإستخراب بمعنى أصح فلها قصة أخرى ، فلم تلبس بعد ثوب الكتابة عنها أو قل لم يعد فيها ما يغري بتجشم الصعاب ، وركوب المخاطر للوصول إليها ، والكتابة عنها ، فقد عمد الغزاة إلى خنقها ، بل قطع كل الشرايين ، والأوردة التي كانت تتغذى عليها ، وتمدها بإكسير الحياة بقصد القضاء عليها ، وقبرها نهائيا ، حتى لا تبعث من جديد ، ويبزغ شعاعها معلنا ميلاد فجر جديد ، فهل كان لهم ما أرادوا ؟ وهل ما تجثم عليه المدينة العتيقة من كنوز، وثروة علمية يستحق أن يكتب عنه، ويعرض لأشعة النور ؟ أما تمبكتو الحالية ، فهي مدينة ، أو قل : قرية متواضعة ، تقع في جمهورية مالي ، وهي عاصمة الإقليم السادس ، وتحاصرها الرمال ، والتصحر ، من كل جانب ، وشوارعها بائسة ، تمنعك الرمال المتكدسة من السير فيها ، راجلا أو راكبا ، ومساكنها متهالكة ، يكاد يقع بعضها على بعض ، وأغلب سكانها هجروها ، أو هُجروا منها بسبب عوامل الطرد المعروفة ، أو بغيرها !!! فبعد ما كانت في القرون الغابرة يقدر ساكنوها بما يفوق : مائة ألف نسمة ( 100,000 ) ، وكان طلبة العلم فقط فيها يتجاوزون خمسة وعشرين ألف نسمة ( 25000 ) ، أصبح الآن مجمل سكانها على أحسن تقدير أقل من ثلاثين ألف نسمة ( 30,000) !!! وحتى النهر الذي اختارته لتبنى على ضفافه ، وتستنشق نسيمه العليل ، وترتوي ، وتغتسل من مياهه الرقراقة العذبة ، هجرها ، وسلاها ، وابتعد عنها بمسافة فوق العشر كيلو مترات ، متعللا بالزحف المستمر لرمال الصحراء على روافده ، وفروعه التي ما فتأت تخرج عن طوعه أحيانا ، وتندفع صوب المدينة ، راوية ، وساقية ، وحاملة المراكب ، والركبان ، ثم أصبحت مطيعة للمجرى الكبير ، ولم يعد النهريفيض على المدينة في مواسم التدفق المعهودة مما أفاض الله به عليه ، خاصة بعد إقامة الدولة لسدود حصرت مياه الفيضان في أعالي النهر جنوبا !!! ولكن برغم كل ما تقدم يظل الأمل ، والتفاؤل قائمين ، والسعي لغد أفضل ، وربما تمثل ذلك في مبادرات واعدة من جهات عدة لأنتشال المدينة من هذه الوضعية غير الطبيعية التي تعيشها ، كما نتحسس إشراقة أمل في بعض المراكز العلمية ، والثقافية ، والمكتبات الأهلية ، التي بدأت ترى النور في المدينة ، ولعلها تتحرك نحو المأمول ، وكان رائدها ، وقائد ركبها : مركز أحمد بابا التمبكتي للمخطوطات ، والذي تأسس في السبعينات بدعم مشكور من منظمة المؤتمر الإسلامي ، وبجهد متميز من الدكتور / محمود عبده الزبير - سفير سابق ، ومستشار الرئيس الحالي للشؤون الإسلامية - وهوأحد مثقفي البلد الذين يشار لهم بالبنان ، وكان أول مدير عام للمركز ، و يمكن أن نسميه : رائد جمع المخطوطات العربية في مالي بدون منازع ، وقد بذل مشكورا مجهودا جبارا لجمع أكبر قدر من مخطوطات المنطقة المعرضة للضياع ، والتلف ، بل والتهريب ، والسرقة ، كل ذلك في فترة صعبة ، وفي زمن قياسي نسبيا ، حتى يقال إنه جمع قبل أن يغادر المركز أكثر من تسعة عشر ألف مخطوطة ، ووثيقة تاريخية ( 19,000 ) ، وساعده في هذا العمل الرائع مجموعة نشطة من الباحثين الغيورين على تراثهم ، وثقافتهم المهددة بالضياع ، منهم المرحوم ، الأستاذ / سيد عمر بن علي الترمزي - طيب الله ثراه - ، والأستاذ / عبد الوهاب دوكري ، والأستاذ / نوري الأنصاري ، وصديقي العزيز ، الأستاذ / عبد القادر حيدرا ، والذي أسس لاحقا مكتبة: ( مما حيدرا ) جمع فيها الكثير من تراثنا المخطوط قارب تسعة آلاف مخطوط ، ووثيقة ( 9000 )،وهناك مكتبة الزاوية الكنتية ، والتي تزخر بالكثير من المؤلفات ، والوثائق من موروث الأسرة الكنتية ، وتقع في حي أهل سيدي علواته في المدينة ، ويشرف عليها القنصل السابق ، والمحامي المتقاعد ، الشيخ / حمه بن سيد عمر الكنتي ( حمه كنته ) ، كما تضم المدينة العديد من المكتبات الأهلية الواعدة ، وكأنها تحاول استرجاع الماضي التليد ، وتنفض الغبار ، والأتربة ، وعاديات الزمن ، عن ذاكرتها العلمية الثرية ، بل ذاكرة إفريقيا الثقافية ، العربية الإسلامية !!! فهل يعطينا هذا أملا جديدا بعودة الحياة إلى هذه المدينة العتيقة التي تتنفس بعبق التاريخ ، وتنضح أصالة ، وتتمايل بعظمة ، وسمو العلم ، والمعرفة ؟ هذه الشامخة التي تغفوا على حواف الصحراء تجتر ذكريات ماضيها المجيد ، ويلسعها حاضرها المر الأليم !!! وهل يشفع لها أنها كانت في يوم من الأيام عاصمة اقتصادية ، وثقافية ، بل وتاجا مرصعا لكل مدن ، وحواضر الصحراء ، وبلاد السودان ؟!!! في الحقيقة كلنا أمل أن تكون هذه اللفتة الكريمة من : ( المنظمة الإسلامية للتربية ، والعلوم ، والثقافة ) باعتبار تمبكتو هذا العام ( 2006 م ) عاصمة للثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا ، تكريما لدورها التاريخي المميز في إثراء ، ونشر الثقافة ، والمعرفة في ربوع إفريقيا الواعدة ، نأمل أن تكون هذه خطوة خيرة في الإتجاه المرجوا ، وأن يفعل هذا الإختيار ، بإقامة ندوات علمية عن المدينة ، وأن تنظم رحلات علمية لطلاب أقسام التاريخ ، والحضارة ، والأقسام السياسية ، وأقسام إعداد الدعاة ، والأقسام المهتمة بالدراسات الإفريقية في الجامعات ، وغيرها ، أن تنظم رحلات تعريفية لكل هؤلاء إلى المدينة للتعريف بدورها الريادي ، وموقعها المميز في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في المنطقة ، وهو أمر تقوم به جامعات غربية عريقة سنويا ، فلا أقل من أن نقلدهم في هذه !!! وأن تنظم حملة متوازية على مستوى المتخصصين ، والباحثين ، والمهتمين ، لزيارة المدينة ، بغية الإطلاع على الكم الهائل من المخطوطات العربية النادرة ، الذي مازال يرقد أغلبه في صناديق قديمة ، وصدءة ، وعلى أرفف متهالكة مغبرة ، ويحتاج إلى عناية خاصة لترميمه ، وحفظه ، وفهرسته ، وتحقيق ما يستحق منه التحقيق ، والنشر ، حتى يكون في المتناول ، فتستفيد منه الجامعات ، والمعاهد العلمية ذات الصلة في العالمين العربي ، والإسلامي . وهذا نهاية البحث الذي قام به احد ابناء تمبكتو الذين حملو هم التعريف بها ونشر علومها بين الاقطار مشكور ا السيد بن بيلا بن عابدين الفردي |
|
06-27-2009, 06:30 PM | #10 |
مراقب عام القسم الأدبي
|
بسم الله الرحمن الرحيم شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
نقل مفيد وقد تعودنا من (ولت فرش) مثل هذه النقول المفيدة التي تثري الموقع وتقوي الصلات بيننا وبين تاريخ المنطقة, وشكرا ألف. |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
وقفة لطيفة بين يدي درر مخطوط: ((صرف العتاب عن المتمسك بالسنة والكتاب)) | السوقي الأسدي | منتدى الأعلام و التراجم | 8 | 06-16-2009 04:26 PM |