|
منتدى الأعلام و التراجم منتدى يلقي الضوء على أعلام السوقيين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||
|
||||||||
107. سعد الدين بن عُمار الإدريسي الجلالي السوقي
107. سعد الدين بن عُمار الإدريسي الجلالي السوقي : هو الشيخ سعد الدين بن عُمار بن محمد الأمين بن محمد بن همّهمّ بن أحمادُ الصغير ينتهي نسبه إلى الشريف إبراهيم الدغوغي(1) . ترجم له ابنه الشيخ العتيق فقال : مولده شهر ذي القعدة عام ثلاث مائة بعد الألف 1300هـ ، نسبه هو ابن عُمار بن محمد الأمين بن محَمد بن هَمّهمّ بن أحماد بن أحمادُ بضم الدال في الحالات كلها وزيادة ألف بين الميم والدال في الأول وفي الثاني وهو ابن أنْك بن أبي بكر ويقال له عند البعض با بكر بحذف همزة أب وبالألف في جميع ...الأول وفتح كاف بكر ابن أدّ بن الغزالي بن علي بن يحي بن إبراهيم الدغوغي بالدال والضاد أو الطاء كل ذلك رأيته في الخطوط القديمة ، وأما أمه فهي عائشة أم المؤمنين بنت أهَمّنُ واسمه مُحمد بضم الميم والدال ابن مَحمد بفتح الميم الأولى ابن محمد إكْنَنْ بن القاري بن أكّايَّ بن محمد بن إنْكِلَّ بن محمد بن آمن بن علي بن يحي ، يلتقي أبواه في الجد التاسع وأم أمه خديجة بنت ميدِ بن محمد أحمد بن سيدي بو بكر بن القاري ، تلتقي أمه مع أمها في الجد الثالث . وأسرته جماعة أهل تَكَلَلْتْ وهم بطون بن بطون بني علي بن يحي تفردوا عن إخوانهم في أوئل القرن الثاني عشر الهجري بقيادة هَمّهمّ بن أحمادُ وابن عمه أحمد بن الشيخ ولم يصحبهما من إخوانهما في ذلك الحين إلا رجلان أحدهما من بني أبي الهدى والآخر من بني ربيعة أخي أبي الهدى وهؤلاء النفر هم أول من اختط أمَسْرَكَضْ وعمروه وبنوا فيه مسجدا ولازموه سنين ثم غاض ماءه وضاق عن ماشيتهم فتحولوا إلى منهل آخر قريب منه يقال له تَكَلَلْتْ فاستوطنوه ونسبوا إليه واشتهروا به أو اشتهر بهم وهو منهل في صحراء أَوْظَ بينه وبين قرية كاو مسيرة يومين للمجدِّ من جهة الشرق المنحرف إلى الشمال كان موطنا لهؤلاء القوم من منذ أوائل القرن الثالث عشر الهجري إلى أن جلوا عنه أوائل دخول فرنسا للبلاد في أوائل القرن الرابع عشر ، ثم ما زالت الفتن والاضطربات تضرب بهم الجهات إلى أن صاروا لا مقر لهم خاص بل كانوا يتجولون في الصحاري التي تحاذي كاو وتارة ، وتارة فيما يحاذي أنْسَنْك لا يجاوزون محاذاة كاو إلى الشمال في الغالب ولا محاذاة أنْسَنْكُ إلى جهة الجنوب ولم يحدثوا بلدا يجوزونه كحيازة أسلافهم لبلد تَكَلَلْتْ فبقيت عليهم التسمية الأصلية ولم تتغير إلى الآن . وأما أحواله في طلب العلم فإنه لما دخل في السنة السادسة من عمره جعله والده في المكتب فلما تمهر في معرفة حروف الهجاء وأخذ في قراءة القرآن أخذه شقيق أمه أسَّالَ بن أهمَّنُ وأخذ يقرأه القرآن برواية ورشْ حتى ختمه حافظا له من وراء ظهره وقد دخل في السنة الثامنة من عمره ولم يزل على ذلك الحفظ إلى أن مات ، فلما استقر المنزل في جوفه وأمن أهله من نسيانه له أرسلوه إلى إخوان لهم في أرَبَنْدَ يقال لهم تَنْغْ أكْلِ وكانوا مشهورين بالتمهر في علم النحو وبذل جهودهم في تعلمه وتعليمه فوق ما يعمله غيرهم من أصحابهم ، وكان من المجرب أن من ارتحل إليهم في طلبه لا بد أن ينال منه ما قدر له ، أرسله عمه مَمَّا وكان هو الذي يتبناه ويتولى أموره دون والده مع بعض شيوخ ذلك الحي وهو يَعمُر بن عبد الرحمن ابن أقَّ وكانت بينهما قرابة ماسة فأخذ يَعمُر في تعليمه متن الأجرومية وربما أمر بعض الصغار بتعليمه وأكثرهم في ذلك الشيخ أحمد بن مَكَا ثم صار أمر تعلمه غير مقيد بعلم بل كان موكولا إليه لما رآه شيخه من حرصه على التعلم فلم يختص بأحد من علماء الحي بل يأخذ عن جميعهم ومن أشدهم عناية بتعليمه فيما حدثني به مشافعة الشيخ أحمد بن الهادي ومـمّا بن حَـمّنا ، وكل الحي محبون له ناصحون مرشدون لا يألون جهودهم في تعليمه فمكث فيهم خمس سنين وقرأ فيهم الأجرومية ومحلة الإعراب للحريري وألفية بن مالك ولامية الأفعال وجمل ابن الهائم وألفية السيوطي في النحو وأضاف إلى ذلك كثيرا من القواعد والفوائد من كتب أخرى وامتحنه أشياخه وأصحابه حتى شهد له الجميع بالسبق والفضل ، حكى لي في معرض تنهيضه أياي أيام يقرءني النحو أنه ذات ليلة يذاكر بعض أصحابه في مجلس معقود لإلقاء الامتحانات فسأل بعض من يدعي منافسته منهم عن معنى بيت من الألفية ابن مالك وكلما أجابه عن سوال أو عجز عن الجواب سأله عن جزءية من جزءيات القواعد المشتمل عليها البيت فما زال يعجزه ويفحمه حتى أفحمه مائة مرة من متعلقات ببيت واحد ، فأقر له ذلك المنافس بالسبق وأيس منه من كان يرجو أن يلحق شأوه من أصحابه فلما نال هذه المرتبة وشهد له أشياخه ببلوغ المنى من عليم النحو أرسله إلى أهله فسبق إلى حي أخواله وأعمامه أهل تَبُورقْ وكان منهم فرسان مشاركون في الفنون كالشيخ عمران بن محمد الصالح الذي أتى في صحبته وأخوته الشيخ شعيب بن محمد ، ومحمد بن محمد محمود ، والسيعد بن محمد الأمين ، وعميهما بُلَّ وحَدى ، وغيرهم فامتحنوه فوجدوا عنده ما يرضيهم فمكث مدة في ذلك الحي يذاكر أصحابه ويناظرهم ويأخذ عن كبار المشائخ ، ثم رحل إلى حيه فلما وصله اشتعل بحفظ كافية ابن مالك ومطالعة المغني لابن هشام والإتقان في علوم القرآن للسيوطي وضبط مسائل الكتابين فصار لا يجتري أحد على مذاكرته في النحو وانتشر ذكره واشتهر صيته أيام شبابه ثم قرأ مقامات الحريري ومختار الشعر الجاهلي ، واشتغل مدة بمعرفة كلام العرب حتى تمهر في اللغة وتمكن من الإنشاء نظما ونثرا ، ومع اشتغاله بالمطالعة في تلك المدة كان لا يستريح من شاق العمل في أمور أهله فقد مات أبوه وعمه مدة غيبته في طلب العلم وتركا عيالا قام بها أصحاحبه عنه إذ كان غائبا ، ولما حضر لم تطاوعه طبيعته بأن يريح نفسه وكلَ أمرهم إلى غيره فصادف ذلك كثرة الإغارات على البلد وزلازل الحروب العامة والواقعة في العشرة الثانية من القرن الرابع عشر أيام استيلاء فرنسا على البلاد ولم تزُل إلى عام ثلاث وثلاثين وجاهد ن فسه في ذلك ولكن لم يترك التعلم والمطالعة ففي أثناء تلك المتاعب حصل علم مصطلح الحديث وعلم السيرة النبوية ، وعلم الأصول ، وكثيرا من مختصر خليل ، ولم تنضط كيفية أخذه لهذه العلوم ، فبعضها أخذه عن غير واحد من المشائخ وبعضها أخذه من الكتب بالمطالعة ، وأما مختصر خليل فأخذ بعضه عن الشيخ الثقة محمد أحمدُ بن فُكَّ من السوقيين الكنتيين ، ثم اشتغل بشروحه حتى أتقنه وحققه ، ثم أخذ التفسير بالرواية التارقية المشهورة عند أهل حيه عن شيخ الشيوخ محمد الصالح بن مَحمدْ بن ميدِ آخر عمره أي الشيخ ، وأخذ عنه أشياء سوى التفسير وانتفع به ، ثم اشتغل بطالعة الكتب من غير أخذ عن أحد حتى أتم دراسات الفنون التي تقرأ ببلده أخذا ومطالعة وهو ابن بضع وعشرين سنة ، وكان فائقا في النحو وعلوم القرآن تفسيرا وتجويدا لا سيما علم التجويد فإنه صار مندرسا في بلده فجدده الاعتناء به والاشتغال بكتبه حتى صار إماما لمن بعده فيه ، وكذلك علم مصطلح الحديث لم يشتغل به أكثر أصحابه كاشتغاله به حتى فاق فيه ، وكذلك علم السيرة والمغازي لا مداني له فيه ، وما سوى هذه العلوم من الفقه وأصوله ، وعلم البيان ، واللغة يشاركه فيه أكثر أصحابه ، ولما حصل من العلوم المذكورة ما تيسر له أخذ في التدريس في الفنون التي تقرأ بعد علم النحو فإنه لم يزل يدرس فيه منذ بدأ قراءته وهو ابن عشر سنين ، وكان يُقرأ الأجرومية حين اشتغل هو بقراءة الألفية ، وكان ذلك أو اشتغاله بالتدريس في النحو ثم لم يزل يشتغل بالتدريس فيه إلى آخر عمره . وأما غير النحو من الفنون فلم يشتغل بالتدريس إلا بعد الشباب ، ولما شب درس في اللغة ثم درس في الفقه ثم في غيرهما من الفنون وكثر الآخذون عنه حتى فاتوا الحصر لأن جميع فبيلته صاروا من تلاميذته وأخذ عنه كثير من أهل الآفاق فممن أخذ عنه من حيه من الشيوخ الشيخ محمود بن محمد الصالح ، و الشيخ حمّدَ بن مُحمد ، والكرماني أخوه وأحمد بن الأمين ، وحبّ ونوح ، ابنا محمد الصالح ، ومن بعدهم من أهل حيه أهل تَكَلَلتْ ، وممن أخذ عنه من أهل تِكِرَتِنْ الشيخ حُميد بن عبد الرحمن وإخوته وبنو عمه وجيمع طبقتهم أخذوا عنه التفسير وشيئا من الفقه وشيئا من علم النحو ، وممن أخذ عنه من أهل تَبُرَقْ الشيخ المحمود بن الشيخ حماد وطبقته أخذوا عنه شيئا من التفسير وربما أخذوا عنه كثيرا من مسائل الفنون سوى التفسير ، وممن أخذ عنه من شيوخ أهل الآفاق الشيخ أبو بكر بن محمد الأمين المعروف باسم أتُوتَا ، وأحمدُ بن سعد ، وجميع حيهما ، وحي إفَنْفَنْ بن أُكِّنَتْ ، والشيخ عال بن محمد بن اليمان شيخ أهل تِمُكَسِنْ وإخوته وجميع المتعلمين من حيه ، ثم أخذ عنه حي تَنْغَ أكْلِ ، وحي أهل كُنْهَانْ كثيرا من النحو والفقه والتفيسر ، وأخذ عنه حي إكَدَشْ كثيرا من العلوم ، فكانت أحياء المتعلمين ببلده كلهم من تلامذته ، وأما غير المتعلمين من أهل بلده فلا ينفك عن تعليمهم على قد طاقته وطاقتهم كلما نزل ببعض الأحياء أحدقوا به ليسمعوا عنه بعض العلوم أو المواعظ بلغتهم التي يعرفونها فيسعفهم بمطلوبهم من ذلك ، وأجل ما يؤخذ عنه تفسير القرآن بالتارقية الذي أخذه عن الشيخ محمد الصالح بن محمد بن ميدِ عن أشياخ قومه فإنه ممن ورث مقام شيخه ومنصبه من تبليغ الناس معنى القرآن بلغتهم التارقية وكان ذلك منصبا عظيما لا ينتدب له إلا من كان مشاركا في الفنون قادرا على التعبير عن كل معنى يعتبره البلغاء والأدباء في كلام العرب باللغة التي يترجم بها ، وربما حضر ذلك المجلس من العلماء من يحسن الفنون العلمية ولكنه لا يجترء على الانتصاب لتلك الترجمة لعزة الإتيان بالمعاني العربية وافية في لغة غيرها ، وربما استصعب على بعض أولئك الفضلاء معنى آية فيطالع كتب التفسير حتى يحصّل ما قيل فيها ومع ذلك لا يزول إشكاله حتى يعرضها على بعض الترجمين الـمُعانين لتلك المصاعب المعتنين بضبط ما أخذوه عن أشياخهم رواية ومشافهة فيترجمها له مراعيا المعنى ما عسى أن يغفل عنه فيستقر معناها حينئذ في ذهن السائل ، وربما سئل بعض العلماء غير المعانين لها عن معنى آية أو كلمة فيصعب عليه التبيين على وفق المراد ، ولذلك لا ينصب أهل بلادنا لتلك الوظيفة إلا من يرونه أعلم ، ولا ينتصب لها إلا من يجد من نفسه ثقة بالوفاء بالمراد منه وبعد تحصيله لمرتبة التدريس في الفنون ، اشتغل بالتصنيف والإفتاء ، فأما تصانيفه فأكبرها شرحه على قصيدة محمد محمود بن شيخه محمد الصالح المفسر سماه ( تنبيه الإخوان على جوالب الرضوان ) وهو شرح واسع يبلغ خمسمائة ورقة بالقالب الكبير ، فيه من جميع الفنون ، وفيه مواعظ وحكم على حسب ما تكلم عليه صاحب القصيدة فإنه تكلم على أمور كثيرة من البدع أحدثت في وقته ، وكثير من السنة قصر فيه الناس فكان جل كلام الشيخ في الشرح متعلقا بذلك الغرض ، وفيه كثير من علوم القوم . ومن تصانيفه حواش حشّى بها تفسير الجلالين مرتين ولم يسندها إلى نفسه على أنها من تصانيفه ولكنها في الحقيقة تصينفه لأنه هو الذي عاني جميع شتاتها ورعاية تناسبها مع ما يحشيها به حتى مكث في ذلك نحو ثلاثين عاما قلما يخلو من تلك الخدمة ويعمل مثل ذلك على كتبه الفقهية ليس منها كتاب إلا حشاه بالطرر المفيدة المناسبة ، وقلّ كتاب من كتبه إلا عمل به مثل ذلك ، وكثير من أصحابه تفضّل عليه بمثل ذلك ، ربما كتب لإخوانه المعاصرين له فوائد علمية يقتصر في شأنها على عزو فيها لأربابها ولا ينسبها إلى نفسه كما هو سبيل قومه من عدم نسبة منقولاتهم إلى أنفسهم بل ينقلونها ويسندونها إلى أربابها ولا يجمعونها على وجه التأليف المسند إلى جامعه . ومنها الزام ..بالسنة المتبعة ، وإن صارت شعارا للفسقة المبتدعة وسببه أن بعض تلامذته استشكل إليه قول العياشي في جامع رحلته : ( وقد استحب بعض العلماء ترك السنن إذا صارت شعارا للفسقة المبتدعة ) فكتب في الرد على ذلك وإيجاب اتباع السنن رسالته المذكورة . ومنها ( تخليص الحذاق من وثاق تزويج الأبّاق ) وهو جواب عن سؤال أرسله إليه بعض الإخوان في حكم آبق خرج من بلد سيده وعجز عن رده ثم أراد النكاح وامتنع سيده من الإذن في عقده ولم يقدر عليه بشيء سوى العضل لمنع الحكومة من قهر المماليك ، فوسع له في الجواب حتى أقنعه بالمنقول والمعقول . وحاصل ذلك الجواب مفسدة الفاحشة التي تترقب من الآبق إذا لم يعقد له أشد من مفسدة العقد له بغير إذن السيد . ومنها ( نظم قطر الندى ) لابن هشام في النحو . ومنها ( نظم مختصر خليل ) من أوله إلى باب النكاح . ومنها ( قصائد ) في الرد على من خالف الحق من أهل عصره وبلده . أما شعره فكثير وجله في المدائح النبوية ، ومنه ما يتعلق بالمواعظ ، ومنه ما يتعلق بالدعاء في النوائب والاستسقاءات ، ومنه ما يتعلق بشيخه في الطريقة حَمّاد بن محمد وابنه الشيخ المحمود ، وليس منه ما يتعلق بالأمور المكروهة شرعا . وأما الإفتاء فسبيله فيه التلكأ عن الجواب لكثير من السائلين وإرسالهم إلى غيره من العلماء ليكفوه أمرهم حذرا من أن يتسم بوسم القضاء ، ويتعرض لما في تولي فصل الخصومات من الأخطار وحذرا من الوعيدات الواردة في حق قضاة الجور ، فإذا ظن أن جواب المسألة تعين عليه لعدم وجود أهل العلم في محل النازلة أو لعدم رضا أهلها بكلام غيره ، أو لتوجيه بعض إخوانه إليه السؤال ليبين له حقيقة الأمر فإن كان عنده من يفهم العربية أطلعه على جواب المسألة في الكتب وقرأه عليه ثم أمره بتبلغ السامعين ما قرأه عليه أو كتب عليه ملخص الجواب إن كان غائبا وإن كانت المسألة مختلف في جوابها ، فإن كان المختلفان أو المختلفون يرضون بترجيحه ذكر لهم الراجح عنده ، وإن طالبوا بالدليل بيّنه لهم وإن لم يرفع إليه إلا حكاية الخلاف بين المجيبين أعرض عن الكلام فيها وتركهما وخرج من عهدتها ببيان أنها من المختلف فيه ، وإن كان الراجح عنده من الخلاف غير ما أفتى به المجيب ، وكان مُقلا من فصل الخصومات إلا أن يلجأ إله بواحد من الأمور المذكورة ، وطريقته في الفتوى العمل بمشهور مذهب مالك وتقديم أقوال الكبار من المشائخ على نظره ، والتصبر في أقوال كثير من العلماء لا يقلدهم تقليد الأعمى بل يطلب دليل أقوالهم ما استطاع فإن لم يتبين له أو تبيّن له خلافه عمل بمقتضى الدليل مع تعظيم من ترك قوله وتبجيله ، ولا يعدّ مخالفة من لم يقم له دليل على قوله من العلماء غضا من منصبه كحاله مع غير الإمام مالك من الأئمة الذين يعتقد جلالتهم وفضلهم ولا يعمل بمذاهبهم ، وكان في أول ابرازه لهذا المنحى من عدم التقيد بكل ما قيل يعارضه بعض القاصرين من الطلبة الذين يحتجون بكل مكتوب من غير نظر في حاله وحال قائله ويحتج عليهم بنقول العلماء المتبصرين الذين ينحو منحاهم ، ثم آل أمره إلى تسليم فحول العلماء له انظاره وأبحاثه في الفنون فأحجم عن معارضته كثير ممن تصدى لها وعلموا أنهم قاصرون عن مقامه في النظر ، وأنه وصل إلى ما لم يصلوا إليه ، وأنه كان ألزمهم للعمل بما قام عليه الدليل وأحسنهم أدبا مع الأسلاف والشيوخ ، وكان يقدم كثيرا من معاصريه الذين قام له البراهان على فقاهتهم وإصابتهم وتيقظهم على كثير ممن قبلهم ، وليس كبعض الناس من يرون الفضل للسابق على اللاحق مطلقا ، وجرت له في ذلك أبحاث ونزاعات مع بعض أقرانه وكان يشدّد في الرد والاحتجاج عليهم ويقرر لهم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء في أي وقت شاء يؤتي منه الابن ما لم ينله الأب ولا الجد . وممن كان يقدم فتواهم على فتوى من قبلهم الشيخ بَايْ بن سيدّ عْمر الكنتي ، وسيد عمر بن سيد علي الكنتي ، ومحمد الصالح بن مَحمد بن ميدِ ، وشعيب بن مُحمد ، ومُحمد بن مُحمد محمود ، وكل هؤلاء جالسهم وناظرهم ورأى أثارهم حتى تبين له أنهم من السلف وإن كانوا في القرن الرابع عشر فكان يفتي بما ثبت عنهم كما يفتي بأقوال المتقدمين من أهل المذهب . وأما أخلاقه فمبنية على أخلاق السلف الصالح المبنية على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم المبنية على القرآن ، وكان متضلعا من علم السيرة النبوية ومن كتب أخلاق السلف وأحوالهم لا سيما السادة الصوفية كثيرا النقل لما استحسنه من تلك الكتب ، وكان إذا نقل شيئا يتمكن من العمل به عمل به وإذا واظب على عمل من أعمال البر وفتشت نقوله وُجد منها ما بني عليه ذلك العمل ، ومن أحواله في العمل بما علم ما حدثني به نفسه أنه كان في ابتداء أمره يميل إلى أحاديث الترغيب والروايات المكثرة لأجور العمل القليل ، فكان يعمل بتلك الأعمال التي وردت الروايات بفضلها والترغيب فيها ويعتني بها ثم تفطن لما في ذلك من عدم مجاهدة النفس اعتمادا على الأعمال المرغب فيها مع ما يلوح على بعض تلك الروايات من سمات الوضع فاشتغل بأحاديث الترهيب قمعا لنفسه وهضما لها وإبعادا لها عن العجب ومن الاتكال على العمل فلبث مدة يشتغل بالترهيبات ويجاهد بها نفسه ثم تفطن لأن تلك الروايات تكاد أن تقنط الناس من رحمة ربهم فهرب من اليأس من روح الله الذي يترتب على شدة الترهيب ومن الأمن من المكر الذي رما يترتب على كثرة الترغيب إلى الأخذ بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فعكف على خدمته بالتلاوة والتدبر والتفهم والإئتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه ، ولم يزل على ذلك إلى أن اجتمع بالشيخ القطب حمّاد فسلم له القيادة ومثل بين يديه للتلمذة على وجه التربية والترقية فأحاله على التعلم وقال له : ( خليت بينك وبين كتبك لما علم من حاله من التثبت في النقول والتقيد بصحيحها فكانت أخلاقه فيما يتعلق بعبادة ربه مبنية على حب الطهارة والنظافة وأن المحافظة على الصلوات في أول الوقت مع الجماعة في الصلوات المفروضة ما شُرعت فيه من النوافل وكثيرا ما يقول : ولم يصل فذا النبي صلى عليه ربنا العلي وبعض أصحابه قال لي إن هذا البيت من نظمه هو وأنا لم أسمع منه ذلك ، وكان من حرصه على الصلاة في الجماعة أنه يستيقظ غالبا في آخر الليل فيصلي ما شاء الله ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن ثم يطوف في جيرانه يوقظهم ، ويرى إيقاظ النائم للصلاة من التعاون على البر والوجب ....وربما أيقظ منهم من ليس ماء له يتوضأ به فيجده وقد أعدّ ماء للمتوضيين فيتوضئون معه الصبح ، ومن عجب أمره في المحافظة على الصلوات أنه إذا مرض مرضا شديدا عجز فيه عن أداء الصلاة قائما وجالسا بادر إلى أدائها في الوقت مضجعا ولا ينتظر جفة يرجوها في أواخر الوقت أوبعد انقضائه ، ويقول إنما الواجب على المكلف الإتيان بالمأمور به كما أمر على قدر طاقته ، وانتظار الخفة الحاصلة بعد الوقت خطَر فربما جاء الموت قبل حصولها ، وكان إذا بلغ من شدة المرض حد الغيبة عن الحواس ربما أحرم للصلاة وشرع فيها فيغشى عليه فإذا أفاق بعض الإفاقة فلا يسأل ولا يجيب سائلا ولا يلتفت إلى غير الصلاة بل يحرم للصلاة وربما غشي عليه قبل الإتيان بها ويتكرر ذلك منه في اليوم الواحد مرات ، كلما أحس بشيء بادر إلى أداء الصلاة ثم يغمى عليه ، وكان يكثر من تلك الإحرامات التي لا شعور بعها في مرض موته وربما رأه بعض الناس بعد موته فيخبر أنه رآه يصلي أو يدرس كما هو حاله في الحيوة الدنيا. أما حاله في المحافظة على الأوراد فقريبة من اله في المحافظة على الصلوات يؤدي الموقوت منها لوقته ، ويقضي فائتها ولا يسامح نفسه بالتساهل فيها ويرى مذهب من جعلها فوق النوافل لازمة كلزوم النذور ، وجاءه بعض إخوانه عائدا له في مرض موته فسأله عن حاله فقال له هذا المرض الذي عجزت فيه عن أداء المسبّعات لا حاجة لي في البراء منه ، فقال له ذلك العائد السائل ما حاصله إن فوات المسبّعات لا ينبغي أن يزهدالمرء في الحياة فدعا الله أن لا يبرأ فاستجيب له ، وأورده سوى المسبّعات والقادرية كثيرة منها أدعية مأثورة لا يترككها ليلا ولا نهارا ، ومنها آيات مجموعة في أغراض معيّنة دينيّة ودنيويّة ، ومنها الحزب الراتب الذي جرى عمل عومه بقراءته في المساجد كل ليلة وكل يوم من أول القرآن إلى آخره ويكون ختم القرآن بذلك العمل في مدة شهر وخمسة أيام لأن ليلة الجمعة إنما يقرءون فيها سورة يس ويومها يقرءون فيه سورة الكهف وفي غير الجمعة يقرءون حزبا مساءا وحزبا صباحا ، ومنها ختمة الأسبوع ، وكم له من تلاوة غير مضبطة لأنه من المهرة بالقرآن وممن خفت عنهم تلاوته ومن المستأنسين به قلّما يفرغ من تلاوته آناء الله وأطراف النهار إلا لأمر مهم من التعليم أو من ضرورياته ، وربما ختم القرآن مرتين في اليوم ، وربما ختمه في حاجة يريد قضاءها فتقضى ، والغالب من حالته في العبادة والأوراد أنه إذا صلى االصبح في أول وقتها جلس في مصلاه يدعو ويقرأ إلى أن تطلع الشمس فيصلي ركعتين الإشراق ثم يشرع في خدمة العلم بالتدريس والخط ، وربما اشتغل بالتدريس قبل طلوع الشمس فيدوم فيه إلى قرب الزوال . وأما أمر العيال وتدبير الأموال فله فيه نوّاب من الخدم والتلاميذ ولكن لا يفرض إليهم الأمر بالكلية بحيث يكون منها كالفارغ أو كالأبله الذي لا همة له بل يرشدهم إلى الأصلح مما هم فيه ويوصيهم فيما يحتاج إلى الإيصاء ثم يقبل على الشئون التعليمية والخطية . وأما أخلاقه في معاملة الناس فمبنية على البر والصلة والإحسان إلى القريب والبعيد وتقريب البعيد حتى يظن أنه من أقرب الناس إليه نسبا ، ولا يحسب جليسه أن أحدا أحب إليه منه ولا يحتقر ذليلا لذله ولا جاها لجهله ويؤتي كل ذي حق حقه ، وكان مبالغا في الاستشارة يستشير كل من معه من صغير وذليل وخادم ولا يقابل جليسه إلا بما يسره فإذا جلس إليه الزائر حدّثه بما يستأنس به ويكلمه فيما هو مهتم به من الأمور ، وربما بحث لبعض العوام في شيء من الشئون التي يحسنها فيظن أنه يستمعه ، فإذا أقبل على الحديث أقبل هو على الكتابة ، وربما خاطبه بمايخيله أنه يستمعه أداء لحق مجالسته وإذا سمع أن بعض إخوانه أحسن إلى بعض قرابته استبشر بذلك من جهة المحسِن لما تيسر له من الإحسان ومن جهة المحسَن إليه لما تجدد إليه من النعمة ، وكان مثلا في وصل الرحم ولا يرى الرحم المأمور يوصلها مقصورة على المحارم والأقربين كما يراه بعض الناس بل يرى قرابته أمه كأمه في البر وقرابة أم أمه إلى السابعة كالأم القربى ، ويرى أولاد أبيه الخامسة كأولاد أبيه الأدنى في الصلة ، وكان نسّابة لحديث تعلموا من أنسابكم ما تصلوان به أرحامكم ، فكان يعتني بمعرفة الأنساب وصلة الأباعد من أهلها ، وربما حكى لمن يرغبه في وصل الأرحام ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ( رأى ليلة الإسراء رحِما معلقة بالعرش تشكو القطيعة فسألها عن العلاقة بين القاطع والمقطوع فقالت : أربعون أبا ) أو كما قال . فكان لا يستعبد القرابة لأجل هذا الأثر ، ويرى تقريبها ووصلها بقد الطاقة ، وربما قال : صلوا أرحامكم ولو بالسلام ، وأما غير الأقارب فيعاملهم بالبر والنصح والإرشاد وحسن اللقاء وبذل المعروف حتى لا يفرق من يشاهد معاملته لهم بين ذوي القربى وغيرهم ، وكان جودا محببا إلى الناس ومتوددا إليهم ، ربما أهدى إليه مال كثير من بعض الإخوا فيفرقه على الناس من غير فرق بين القريب والبعيد والأجنبي ولا يمسك منه شيئا لحوائجه ، وقد رأيته مرة وقد وآساه بعض إخوانه بنصاب من البقر ففرقه كله ولم يبق منها شيئا ، وأما مادون النصاب فقلما يأتي عليه شهر إلا وجده وفرقه وإذا أتاه شيء من المال فكأنه يحمل شيئا ثقيلا ما لم يفرقه فإذا فرقه استراح ، وكانت حالته في الإنفاق مبنية على الإيثار مع الحاجة كما هو العادة في أهل بيته فإنهم لا يعدون إنفاق الفضل من الجود والسخاء بل يرونه من الواجب ولا يصفون بالجود إلا أهل الإيثار ، وكان أهل بيته مشهورين بذلك حتى حازوه كحيازة المواريث ، ويحكون عن جدهم محمد أحمد المعروف باسم هَمّهَمّ أنه يفرق الأموال يوما فقال له بعض أصحابه ابق لأولادك شيئا يعيشون به فقال له إن كانوا لله كان لهم وإلا فلا حاجة لي في إعانة العاصي . ومن أحسن معاملته مع الناس أنه كان ممن ألقيت عليه المهابة التي تلقى على الكبار من أهل العلم وأهل السنة فكان يمازح الصغار والكبار على نحو المزاح النبوي لتزول هيبته من قلوبهم ويتمكنوا من رفع الحوائج إليه فشكر الناس له ما فتح لهم من أبواب الموانسة والمواصلة حتى كان أحبّ إلى كثير منهم ما الأقربين إليه . ومما بني عليه معاملته قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ) فكان لا يحب لنفسه وقرابته شيئا إلا أحبه لسائر المؤمنين لا يترك نصحهم وأمرهم بالتعلم قلّ أن يرى أحدا أو يجالسه إلا أمره بالتعلم ورغبه فيه ويظهر غاية الحزن والأسف إذا ظهر له أن قوما من أهل التعلم انقرض فيهم العلم . وأما معاملته لأهل العلم من قومه ومن غيرهم فالمحبة والإجلال والتقريب وتعليم من يرغب في زيادة العلم منهم وكثرة إفادته لهم كلما استفاد شيئا من العلم ولقي من يتأهل لذلك أفاده إياه حرصا على بث العلم وإيناسا لأهله ، ورغبة في أجر التعليم ، والاستفادة منهم من غير فرق بين الصغار والكبار بل فرحه بالاستفادة ممن هو دونه سنا أو علما ، أشد من فرحه بالاستفادة ممن هو أكبر منه سنا لحرصه على تجدد العلم في الشبان وعدم رفع نفسه عن الأصاغر والاعتراف بأن فضل الله يؤتي منه الصغير أكبر مما آتي من هو أكبر منه . وأما معاملته مع الأمراء فهو أن من كان أميرا عليه يؤدي إليه حقه من الطاعة في المعروف ومن النصح ومن المواساة بالمال إذا نابت نائبة يحتاج فيها إلى الاستعانة بالإخوان ومن عادته أن يبدأهم بالإعانة قبل استعانتهم إياه ومن لم يكن أميرا عليه من إخوانه ومعارفه الأمراء يعامله بالنصيحة والأمر بالعدل والنهي عن الجور ، وربما سمعته يقول لواحد منهم اعلم أن الأمير إذا ولي أمر الناس فإحدى رجليه في الجنة والأخرى في النار فإن عدل كانتا معا في الجنة وإلا صارتا إلى النار ، وكان مسموع القول عند كثير منهم معظما محترما مشفعا فيمن يستشفع به عندهم ،وربما قص عليهم بعض القصص السالفة المزهدة في الظلم والجور ، والرغبة في العدل وذلك هو الكثير من محادثته لهم ولا يطمع أحد منهم ، في مداهته له ولا استمالته له بحطام الدنيا بل يتبركون به ويسألونه الدعاء ويكتمون عنه أمورهم ما يعرفون أنه إذا اطلع عليه أنكره ، ولم أر من يجهر بين يديه بالمنكرات خوفا من إنكاره وكفه للفاعل عما أراده من السوء فإنه لا يخاف في الله أحدا لا قويا ولا غنيا ولا سلطانا ولا عالما ولا ذا جاه بل يسوي بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وربما إئتمر مأموره أو انتهى منهيه ببركة أخلاصه في الأمر والنهي فقد اشتهر بين من يعرفه أنه لا يأمر ولا ينهى لغرض دنيوي بل يأمر وينهى في الله ولله ، ومن أخلاقه الصفح والعفو وإذا رأى من إخوانه من يميل إلى الإنتصار باحثه في ذلك وقرر له أن أجر الاحتمال أحسن من الإنتصار ، وأن العفو عن المقدرة هو سيرة الأحرار والأخيار ، فإذا عارضه بعض إخوانه المغتاظين في ذلك صبر على مكافحة ولآينه حتى يرجعه إلى ما أراد من العفو عن أخيه الذي يأسف عليه وجرت له في ذلك قضايا مع كبراء إخوانه الذي لا يجترئ أحد على معارضتهم ولا مباحثتهم ، ولكنه لا يمنعه ما لهم من الفضل والجلالة من أن يرشدهم إلى الأولى ، فكان إذا أتى أحدا منهم لينصحه ولم يلق منه القبول من أول الأمر صبر ولاينه ولا يزال كذلك إلى أن يفيء المغتاظ لأمر الله ببركة نصحه ثم يبالغ في شكواه والثناء عليه ومحبته وإجلاله لصبره على ما قابله به من عدم القبول أو مرة حتى رجعه إلى الصواب وتكرر ذلك منه حتى عُرف به فيأتيه بعض الناس فيقول له إن فلانا العالم أو الأمير ارتكب أمرا غير مرضي ولا نظنه يقلع إلا بأمرك فيبادر على زيارته ويخلو به وينهاه فينجح في مسعاه ويرجع مأجورا مشكورا إن شاء الله . ومن أخلاقه بذل الجهود في إصلاح ذات البين كثيرا ما أتيت معه بعض الأحياء الأجانب فأسمع من يقول له فلانا وفلان متنافران أو أن آل فلان وآل فلان متفاتنون ولا نرجوا لإصلاح بين الفريقين إلا على يديك لأنك المؤتمن عند كلا الفريقين وغيرك لا يسلم من الاتهام من أحد الجانبين فيسعى في الإصلاح بينهم ويوفق لمن أراده ، وهذه حالته في غير قومه فقومه أحرى لا يسمع من بعضهم كلمة تنافي محبة أخيه ونصحه والثقة به إلا ردها عليه وقبّح في عينه وإذنه رذيلة التشاجر والتباغض بين المسلمين وأيّده الله وآتاه من التوفيق والتيسير في أمر الإصلاح بين المتدابرين ما يتعجب منه الراءون والسامعون . وأما معاملته لشيخه في الطريقة فقد بلغ من محبته وتعظيمه وإيثاره على الناس وإيثار قرابته على غيرهم ما ليس ورآه غاية وآثر ما أخذ عنه على غيره من المنقول والمعقول وتبرّي له من كل دعوى واستسلم بين يديه وسلم له نفسه وماله واعتقد بيعته وطاعته أمرا واجبا وجعل يدعو الناس إليه ويرغبهم في التعلق به ويذكر لعوامهم كراماته ولخواصهم ما يمكن ذكره من مقامه الموجب للرغبة في التعلق به ويجمع قصائده ويفسر للناس منها ما كان جوابا لقصائد مريديه ويعترف بالعجز عن معنى وإرداته مع التصديق التام بمضمونها ويثني عليه في المجالس ويقرر أعلميته في الظاهر والباطن وأعرفيّته بأمور الدنيا وتدابيرها كأعرفيته بالأمور الدينية ويقرر أنه وآرث نور النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأنه إمام الأولياء في وقته ويذب عنه أقوال المنكرين والمعاندين متقيد في .... بالكتاب والسنة وآثار السلف وأقوال السادة الصوفية متبرءا من البدعة والإطراء ومن القول بدون علم ومن دعوى علم شيء من علوم القوم التي تذكر ولا تسطر مع مداولته لكتبهم والإطلاع على إصلاحاتهم ومقاصدهم ونقله لكثير من خلاصة ذلك لكن غاية مقصوده في نقل تلك العلوم والأقوال أخذ نفسه بالعمل بمقتضاها من التسليم لأهل الله وحسن الاعتقاد فيهم وتصديقهم في أقوالهم وتوجيه ما يحتمل المخالفة من أفعالهم وحسن الأدب معهم كافة ، ومع من اتخذه شيخا والتزم طاعته خالصة وليس مقصوده دعوى الاتصاف بصفات أهل الكمال الذي يتوهم كثير من أهل الكلال أن معرفة تلك الأوصاف بمنزلة الاتصاف بها فيخبط في أساليب الضلال ويجرفّ كثيرا من أقوال كمّل الرجال ، لينال بذلك تعظيم العامة وحظا من الحطام السريع الزوال ، وأني يكون قصده ذلك وقد جمع بين ما تعلمه من العلوم قبل شيخه وبين ما أمدّه به الشيخ من الأسرار والأنوار بعد تسليمه له بنفسه وبراءته له من العلوم والرسوم فإنه ما نزل بساحته برسم الإرادة والتسليم حتى طالع كثيرا من كتب الفن ( كالبحر المورود في المواثيق والعهود ) لشعراني وغيره من الكتب وتأمل من شروط الشيخ والمريد ، والإرادة وآداب السلوك والرفقاء في الطريق وقطاع الطريق ما دعاه إلى التثبت والتبصر في أمره ، فتبصّر حتى طالعت بصيرته أنوار الشيخ وعرض أقواله وأحواله على ما عنده من الكتب فوجد بينها من الموافقة ما دعاه إلى الرحيل إليه والاستسلام بين يديه استسلاما كليا غير مشوب بشيء من الأعتراض والانتقاد ولا من التردد والحيرة وسوء الاعتقاد . وقد حدثني عن أول ليلة اجتمع له فيها برسم المبايعة وأن الشيخ المراد قال له ما ذا رأيت من كتب الطريقة فأخبره بما رأى منها فقال له ما حاصل ما استفدت منه في هذا الشأن فقال له الشيخ المريد حاصل ما استفدت منه أن حقيقة الإرادة أن يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل فقنع منه بذلك الجواب . وهذه الحكاية تلقنتها منه في سن الصبا يحكيها لي ليمكن من قلبي حقيقة التسليم الذي يترتب عليه انتفاع التلميذ بشيخه ولم يحك لي صورة ما جرى بينهما بعد السؤال والجواب من صيغة المعاقدة والذي شاهدت من أفعاله وأسمعه كثيرا من أقواله الحرصُ على مشاهدة ذاته والاستصباح من مشكاته ، والعكوف على خدمته وإيثاره على نفسه وقرابته وإيثار قرابته ومريديه على غيرهم ومقاطعة من لم يتخذه شيخا من أهل صداقته ووده ، وكثرة الحنين إليه كلما غاب عنه ولا يغيب عنه إلا في خدمته كان حيّاهما غير متجاورين إلا نادرا ولكنه قلما يمكث في حيه مدة فارغا من خدمته لأنه إذا وفد عليه لا يرحل إلا بإذن ه ولا يستأذنه بل يبقى معه إلى أن يقول له الشيخ ارحل إلى قومك وأدّ بعض حقوقهم ثم ارجع إليّ في وقت كذا أو يقول له إذهب إلى أمّك حتى تراك ثم امض إلى محل كذا وإئتيني منه بكذا وارجع إليّ بعد مدة يعينها له ، وإذا وقّت له وقت الحضور فلا يتخلف عنه اختيارا ، ولا يبالي بما في ذلك من المشاق بل احتمال المشقة في تلك المتاعب ألذّ عنده من كل لذيذ ، وأحب إليه من رفيع المراتب ، وإخوانه في الإرادة أحب إليه من إخوان القرابة ، وكان يرى نصحهم وتعظيمهم وبرهم ومواساتهم حقا واجبا وكثيرا مّا أسمعه يقول المريد لا يؤدي حق مولاه إلا إذا أدى حق نبيه ولا يؤدي حق نبيه إلا بأداء حق شيخه ولا يؤدي حق شيخه إلا بأداء حقوق إخوانه . وكلما رأى مريدا يستخف ببعض إخوانه مع ادعاء متابعة شيخه ومحبته ذكّره بهذا وذكر أن ارتباط المريدين بالشيخ يوجب مراعاته فيهم وتعظيمهم بتعظيمه وبرهم ببره ، والاستخفاف بهم ربما يسري إلى شيخهم ، وبهذا يأخذ نفسه ومن يقتدي به في حق الشيخ ومريديه . ومن خدمته للشيخ تعليم من جاء برسم أخذ العلم فيرسله إليه ليعلمه ، ومنها الخظ فإنه من أجود الناس خطا ، وكان يأمره كثيرا بنسخ الكتب له أو لبعض إخوانه وربما أمره بالإنشاء فيكتب في النازلة امتثالا لأمره وأداء لحق خدمته ، ومنها التدريس وخصوصا في التفسير فإنه ربما أمره بإسماع الناس معنى القرآن وأمره مرة أن يفسر لأهل حيه وأهل تِكِرتن وأمره مرة بأن يملي التفسير على ابنه المحمود الذي ورث مقامه بعده واتخذه الأكابر بعده شيخا وخليفة وتبعهم الأصاغر ومن خِدَمه الوفادة على الأحياء المتعلقين بالشيخ ليعلمهم ويفهمهم أمر الإرادة وحقوق السلوك والمشيخة ويصلح من أمورهم الدينية والدنوية ما يحتاج إلى الإصلاح ، وربما أمره بالإصلاح بين المتنافرين فيسعى في ذلك ويتيسر له مراده ، وربما بعثه إلى من يرغب في مقابلته من الأكابر برسم نيابته عنه بعثه نائبا عنه في استقبال وجه الشيخ السني بايْ بن سيد عمر من نسل شيخ الشيوخ السيد المختار الكنتي ، و كان في صحبته ابن عم الشيخ محمد أحمد بن محمد الصالح والشيخ محمود بن محمد الصالح وغيرهم ، وبعثه إليه ثاني مرة مع أسامة بن حمود واستفاد من تينك الرحلتين نقولا كثيرة نفع بها ما انتفع ، وما استفاد من الأنوار والأسرار أعظم وأكبر ولم يزل دائبا في خدمته إلى أن توفي ، ولما توفي وخلفه ابنه الشيخ المحمود الذي كان في حياة والده من التلاميذ الذين أخذوا عنه العلم التزم له من التعظيم والتوقير مثل ما يلتزم لوالده وسمعته يقول في أيام خلافة المحمود وهو يذاكر بعض كبار المريدين في شأنه ما معناه ( أن ما يلتزمه للشيخ المحمود من التوقير أكبر مما يلتزمه لوالده لأن والده أكبر منه سنا فيوجب الطبع توقيره على كل حال ، وبعكس ذلك ابنه الخليفة فإنه أصغر منه سنا وإذا لم يلتزم شديد الأدب في حقه فربما تميل نفسه إلى استصغاره ) ولبث في صحبة الشيخ المحمود بضغ عشرة سنة متبادلين أنواع البر والتعظيم والمحبة والوفاء حتى كان من آخر أمره معه أن مرض الشيخ المحمود مرضا شديدا خيف من موته فيه فعاده الشيخ المترجم ومكث عنده ليالي ثم رجع إلى حيه فمرض ومات وعوفي الشيخ المحمود ، ولما بلغه موته قال الشيخ المحمود : رب فداء خير من المفدى . وفسر بعض الناس ذلك بأن الشيخ المتوفى هو الذي دعا الله أن يعافي الشسخ المريض ويقبض مكانه . وحدث بعض المكاشفين وهو إبراهيم بن أحمد البكّا في تلك الأيام أنه رأى في يقظة كالنوم أو النوم كاليقظة صورة شخصين أتيا فتكلما في شأن المريض فقال أحدهما لصاحبه إذا فُدي ببعض كبراء إخوانه شفي فقال له إنما يكفي في فدائه اثنان . فانتبه الرائي مذعورا وسكت عما رأى فبعد أيام ما ت صاحب الترجمة والشيخ حُميد بن عبد الرحمن الأنصاري شيخ أهل تِكِرَتِنْ ، وحينئذ أخبر الرائي برؤياه وذكر أن الشيخين هما اللذان فديا الشيخ المريض وبعد موتهما تـمّ برئه . ومن إيثاره لشيخه الأول على نفسه أنه زار بعض أصدقائه ممن كان بين أسلافه وأسلافهم ودٌّ وإخاء وصلة وبر ولم يكونوا من مريدي شيخه فلقّوه الترحيب والإكرام وأكثروا عليه من الهدايا ولم يبعث منهم إلى شيخه هدية إلا رجل واحد فأنكر ذلك وقال لرفيقه في السفر هو الشيخ حمّد بن محمد وأنا معهم إذ ذاك ارجع بي إلى إشَنَضَهَرَنْ الذين لا يفضلونني على الشيخ وأما هؤلاء فلا مُقام لي فيهم بعد ما رأيت من رفعهم إياي عليه فرجعنا وتركهم وأعرض عنهم ومن حالته في خدمة شيخه أنه إذا زار بعض أصدقائه الذين يعظمونه ويأتمرون بأمره أمرهم بإرسال الهدايا إلى شيخه ورغبهم في الاتصال به وحاشاه أن يريد بذلك نيل شيخه من أموالهم ولا شيئا من الأعراض الفانية التي بأيديهم فإن همته بعيدة عن التعلق بالفاني فضلا عن همة شيخه بل مراده بما يبذل من الجهود في ترغيب الناس في التعلق بشيخه أمران : أحدهما : النصيحة للمسلمين أن لا يفوتهم الفوز ببركة الشيخ والتعلق به . والثاني : نصيحة شيخه بتكثير الأتباع له ليكثر أجره لأن أجور الإرشاد تكثر بكثرة الأتباع كما قيل : والمرء في ميزانه أتْباعه فانظر إذن قدر النبي محمد تابع ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
05-19-2014, 08:31 PM | #2 |
|
رد: 107. سعد الدين بن عُمار الإدريسي الجلالي السوقي
ومن حالته مع شيخه حماد أنه لا يذكر ما بينهما من القرابة النسبية خشية أن تكون محبته وبره له لأجل القرابة ، صرح لي بذلك غير مرة ، وشيخه هو الذي يثني عليه ويقربه ويصفه بالإصابة في الأمور ووضع الأشياء في مواضعها ويقول : خالي وابن أختي ويذكر تارة أنه من بني عمه .وكانت القرابة بينهما مشتبكة من وجوده كثيرة منها ، منها أنهما يلتقيان في الجد التاسع عليّ بن يحي ، ومنها أن أم كل منهما بنت عم الأخر يلتقي معها في الجد الثالث وأم أم الشيخ المترجم تلتقي مع شيخه في الجد الثاني وبينهما كثير من القرابات سوى هذا ، ويعتبر تلك القرابات فيمن سوى شيخه ممن يشاركه فيها ، وأما هو فأقرب قرابة يتقرب بها إليه قرابة المشيخة والتلمذة التي هي أجدى وأبقى ، ومن حسن اعتقادهه فيه ماكنت أسمعه منه كثيرا وكتبه في كتابه ( تنبيه الإخوان ) وخاطبه به في الشعر الذي أنشده وأرسله إليه برسم اتخاذه شيخا مربيا ومرقيا وحصنا وملجئا ، وهو أن سكون البلاد وطمأنينية أهلها ، وبث الأمن فيها ، وأمن الطرق وكثرة الخصب والبركة وكثرة ظهور العلم في أقوام ليسوا من أهله في الأزمانن الماضية ، وزيادة العلوم فيمن كانوا يتعلمون قبل كل ذلك ببركة الشييخ وهمته ودعائه وإرشاده وتدبيراته المصيبة ، وإذا سمع من يتحدث بالزلازل والفتن الماضية قبل التغلب الفرنسي وأسند تسكين تلك الزلازل وإخماد نيرانها إلى فرنسا زجره عن ذلك وقال له الشرّ لا يأتي بالخير ، وذكر له أن ما حدث في البلاد من الخير إنما كان ببركة صاحب الوقت وهو شيخه وإنما ظن الناس أن ما أصبحوا فيه من الخير إنما حصل بواسطة فرنسا لأن العام الذي جاء فيه بعض قوادهم إلى قرية تنبكت التي هي قاعدة البلاد هو مبدأ ظهور أمر الشيخ للخاصة وإن كان ظهوره للعوام بعد ذلك بسنين ، وهو الذي وردت عليه فيه الواردات الأولى ووجد الناس بركتها ثم كلما حدث منها شيء ازدادت البركة حتى تمت بظهوره البين للخاص والعام . هذا معنى ما كمنت أسمع منه كثيرا ، ولا أظنه حدث به عن تخمين وظن ، بل عن يقين وجزم لـمَا رأيت فيه من إنكار الكذب وبعض أهله وما أعلم منه من التباعد عن إعاء الكشف والتطلع إلى معرفة الغيوب فإذا أتى بصيغة الجزم في الأخبار علمنا أنه لا يخبر إلا عن يقينه ، وما ذكرت من حاله معه يسير ، وتفاصيله يضيق عنها نطاق التعبير .
وأما محبته شيوخه له ورضاهم عنه فأمر اتفقت عليه كلمتهم من شيخه الذي أخذ عنه النحو وهو صبي إلى شيوخه في علوم الظاهر إلى شيخه في الطريقة كلهم يقربه ويـُحلّه بمحل الولد ، وذلك علامة انتفاع التلميذ بسر شيخه ووصول مدده إليه واتخاد معانيهما كالناقة التي ترءم فصيل غيرها لا يتم التألف بينهما حتى يشبع من لبنها وتجد فيه ريحه فتقبل عليه ويُقبل عليها لما حدث بينهما من شبه البعضية ، فمن محبة شيخه في التفسير له ما حدثني عنه أنه قال له حين أراد أن يأخذ عنه التفسير وكان شيخه يحرضه على الأخذ عنه قبل فوات ذلك حتى قال له التلميذ حرصي على ذلك أشد من حرص أحد عليه فألتفت إليه شيخه بصورة الإنكار وقال له أتظن أن محبتك لنفسك أشد من محبتي لك أنا أشد منك محبة لأهل بيتك وكان أهل بيته هم أخوال شيخه ذاك وأشياخه ، وكان من أبر الناس بهم وأنصحهم لهم وأحسن اعتقادا فيهم ، ثم قال له لوكان ما معي من العلوم قميصا لنزعته عني وكسوتك إياه أنت وابن عمك محمود بن محمد الصالح ، ثم طلبت لابني يوسف وابن ابنتي محمد بن البكاي ملبوسا آخر . أو كما قال . وأما شيخه في الطريقة فهو أشد أشياخه إقبلا عليه وحرصا على مجالسته ومؤانسته وإظهارا لتعظيمه وبره وأكثرهم ثناء عليه ومدته معه أطول من مدته مع كل ممن تقدمه لأن مدة صحبته له زملازمته إياه وتقيده به زادت على عشرين سنة ، ومن ثنائه عليه أنه قال كل المريدين آمرهم وأنهاهم إلا سعد الدين والسّدادَ فإني أكِلهما إلى كتبهما . ومنه أنه كان يفسر قصيدته التي منها : يا أولي الفضل والديانة دلوا أهل عصركم لنيل انتفاع فسمى جماعة من مريديه منهم المترجَم ، وقال : وأمثالهم هم أولوا الفضل والديانة . ومنه أن أمه أرسلت إلى الشيخ تطلب منه الدعاء بالنجاة من النار فأجابها بأن قال : " من كان سعد الدين جزءا منه لا يخشى عليه من النار " . ومنه ما حدثني به الثقة الملازم لهما وهو الشيخ حَمَّدَ بن محمد أنه قال : " سعد الدين لأخشى عليه الضلال " . ومنه أنه قال : فيه " رأس المريدين الصادقين " . ومن تقريب شيخه له واختصاصه إياه بخصوصية ليست لكثير من الخواص أن شيخه مرض في العام الذي قبل عام وفاته مرضا شديدا اعتزل فيه الناس واحتجب عنهم فلا يجتريء أحد من الجيران بعد ذلك على زيارته وفي تلك المدة وفد الشيخ سعد الدين وابن أخته الشيخ حَمّد ابن محمد على حي الشيخ الأكبر فوجد الناس منكفين عن زيارته ومواصلته فتأدبا مع المتأدبين فلما سمع الشيخ بقومهما أرسل إليهما أن إئتيا إليّ ، فإني في غاية الاشتياق إليكما ولستما ممن يحجب فذهبا إليه والناس ينظرون إليهما ويتمنون لو وجدوا مثل ما وجدوا ، ولا يجتريء أحد على أن يتبعهما ، وثناء الشيخ عليه بالصدق والبر والوفاء لا ينحصر. ومن أخلاقه حسن الجوار قل من جاوره ثم فارقه إلا ذكر أنه لم يجاور مثله في حسن الجوار كانت حرمة جاره عنده أعظم من حرمته ، وسدّ خلته أحب إليه من سد خلته ، يواسيه بما له يزهد في ماله ، يسعى في حوائجه ولا يرفع إيه حاجة ، وإذا كان له مال مع ماله سوّى بينهما في الرعاية والإصلاح ، ويتفقد أحوال جيرانه ويسأل عمن يعنته الرحيل لمرض أو فقد مال وغير ذلك فيتوقف عن الرحيل حتى تزول الأعذار ثم إذا شرعوا في الارتحال سأل عمن ليس معه من المراكب ما يحمل أثقاله فيعينه ، وربما خدم بينفسه في حمل أثقال الجيران على المراكب ويذكر أن ذلك من سيرة أسلافه ، فإذا وصل إلى المنزل المتجدد بادر على حط الأثقال عن جميع المراكب وسأل عما بقي من الأمتعة وتفقد أحوال الجميع ، ولا يزال كذلك حتى يتلاحق إليه جميع أصحابه ويخبره كل منهم أن كل ما يهتم به من المال والمتاع وصل كما يرضى . ومنها حسن المرافقة في السفر إذا كان في سفر فهو المتولى لحمل الأزواد لهم والقيام بمؤنهم وحفظ مراكبهم والرفق بها ويجبرهم على السرى إذا كان الطريق لا ماء فيه ويخشى العطش على أصحابه إذا أصبحوا في معرسهم ويجبرهم على النزول في المكان الذي يصلح لرعي الدواب ، وإن كان لا قوت فيه ، كل ذلك لرعاية حق الدواب فما ظنك برعاية أربابها ، ومنها حسن التربية فقلّ أن ينشأ شاب في تربيته إلا في صورة الكهول والشيوخ وفي عقولهم ، لأنه لا يحتقر الصغار فيحدثهم بما تحتمله عقولهم من العلوم ويلقنهم كثيرا من السنن والفضائل في أيام الطفولة كما يلقنهم سوَر القرآن ويأخذهم بالمحافظة عليها كما يأخذهم بالمحافظة على الفرائض ، ويربيهم بعد البلوغ من الأخلاق الصوفية بما أجمع عليه كالإعراض عن اللغو والصمت وكثرة الذكر الحذر من العجب والرياء والسمعة والجد في الطلب والعزم وتجريد الهمة والإحسان إلى المسيء وغض البصر عن المحارم ولكف عن الشبهات والقناعة والثقة بالله والتوكل عليه وحسن التواضع مع التباعد عن الضغة والتعزز بالدين مع البعد عن الترفع والشفقة بجيمع الخلق وتوقير الكبير ورحمة الصغير ويرغبهم في التمسك بالسنة ويبغض إليهم البدع وأهلها ويزين لهم الشجاعة والكرم وخصال الحرية ويكره إليهم الجبن الضعف والطمع والتواني والكسل وكثيرا ما يقول الجد بالجد والحرمان بالكسل ، فانصب تصب ، عن قريب غاية الأمل ، وربما أنشدنا معشر التلاميذ قول القائل : تزوجت البطالة بالتواني فأولدها غلاما مع غلامه فأما الابن سماه بجهل وأما البنت سماها ندامه ولا يزال يترقى بهم من حالة إلى أعلى منها بحسب أفهامهم إلى أن يصلوا إلى حد الكهولة وهم على ما يرضى من الأخلاق والأوصاف ، وكان من الزهاد والمتوكلين الذين لا يدخرون للغد ولكن لا يرضى لعياله أن لا يكون شيء من المال بأيدهم ويذكر لهم أن من دعاء السلف قولهم : اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا . وينهض أهله في الكسب والقيام بمؤن الناس وحفظ المال ورعايته ، وحسن تدبيره ، وإذا أصبح أهله في منزل لا مرعى فيه ولا قدرة لهم على التحول أمرهم بإرسال المواشي إلى ما يصلحها ، ومنعهم من إمساكها في الجدب لأجل الانتفاع بها وربما قال لي في أيام شبابي : لا تنظر إلى ما كنت عليه الآن من عدم الرعاية والقيام بالماشية فإني لست عليه حين كنت في سنك بل كنت أرعى وأخدم وأسعى في كل ما يصلح عيالي وعيال إخواني وجيراني ، فكن كذلك واجتهد في أصلاح ما قدرت عليه من أمور المسلمين ولا تكن على أحد كلا ، ولا يلتبس عليك التوكل بالاتكال ولا الزهد بالكسل ، ولا الرشد بالشخ ، ولا الجود بالتبذير . وبهذا كان يربينا معشر تلامذته وقرابته ، وقد كان معي في وصاياه جماعة من أولاد إخوته وأخواته وتلامذته ، وبعض التلامذة ليسوا من أهل قرابته ولكن لا يألوهم نصحا ، ولا يفضلني عليه بشيء من النصيحة وكنت في صغري إذا أردت أن أخدم في شيء من الحوائج منعني من ذلك وقال : لي لا أحتاج إلى خدتك ولا إعانتك ولا أريد منك إلا التعلم ولا يأمرني في ذلك الوقت إلا بالتعلم والتعليهم من دون من الطلبة ، فلما ناهزت الشباب وعلم أني وجدت في التعلم لذة لا أغرض عنه بعدها انتقل بي من ذلك الوادي إلى الحض على حفظ المال ورعايته وتدبيره ، وربما قال لي أترك القراءة وانظر في أمر المال فقد قيل : لا قراءة لمن لا حمار له .فلما تمرنت على الجمع بين القراءة والرعاية انتقل بي إلى الأمر بالقيام بحوائج الجيران والإخوان ، ثم أقامني في خدمة الأضياف والوافدين وكان كثير الضيوف ومن المبالغين في إكرامهم والترحيب بهم وعشت معه أربعة أعوام لا يريحني من الجمع بين التعلم والتعليم وحفظ المال ورعايته والقيام بما يقوم به من المؤن وخدمة الضيوف وتهذيب الأخلاق وغير ذلك من أنواع البر وعلى ذلك فارقته . وأشهد لقد أدى ما لي عليه من الحقوق ، وأدعو الله أن يجازيه عني حسن الجزاء . ومن حسن تربيته : أنه لا يقص علينا من الأمور الماضية إلا ما يزيدنا من محبة الناس وبرهم وحسن النصيحة لهم وأما ما يهيّج منا الحقد فلا يخبرنا منه بادني كلمة وقد وصف محمود بن محمد الصالح أهل بيته جميعا بأن ذلك سيرتهم فقال فيهم : حيث السرائر لا تذاع لناشيء أن لا يرى ذا الضغن بعد تكهل ومن أخلاقه الت يربنا فها حسن الملكة فكان يكرنا كثيرا بقوله تعالى في آية الأمر بالإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران وغيرهم { وما ملكت أيمانكم } وبقوله صلى الله عليه وسلم ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تطعمون وأكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون ) وما في ذلك المعنى . ومن أخلاقه الرقة وكثرة البكاء عند سماع الموعظة ولا سيما عند ذكر شيء من أخبار أخبار علماء السوء قلما تمر عليه آية بلعام بن باعوراء إلا بكى حتى يرحمه الحاضرون . والحاصل أنه متقيد فيما نراه بالسنة في مركبه وملبسه ومدخله ومخرجه ومعاملته كلها ، وتفصيل ذلك يدعو إلى الطويل الممل ، فمن أجل ملازمته للسنة وتمسكه بها أكرم بشهادة أهل الصلاح له أنه هو السني وأى بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له إن سعد الدين هو ابني الذي لا يعقني . وربما رأي بعض الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم في صورته لشدة متابعته في الأقوال والأحوال . وأما الرحلة إلى الخارج في طلب العلم فلم يخرج لها بعد الكبر وقد خرج في آخر عمره إلى أداء الحج فصدته الحكومة الإنجليزية في أرض أجْنيْن من بلاد السودان فرجع أنشد أبياتا يسلي فيها نفسه ويذكر من رضاه بالقضاء حلوه ومره وذكر فها أن أجر نيته وتعبه في الطريق لا يضيع وأول تلك الأبيات : إلهي إن نمنع بلوغ البنية فلا نمنعن أجر تلك البلية ووفر لنا أجور نياتنا فقد نوينا وما الأعمال إلا بنية إلى أن قال : إلهاي ذنوبنا التي رجعت بنا اغـ ـفرن واعف عن خفية وجلية وأخلف لنا مت تلك خيرا فإنك الحـ ـحكيم وأنت ذو الهبات السنية عسى أن يكون ما كرهنا من الذي نحب لنا خيرا بحسنى المشية على أنني راض بما قد قسمت لي فلا يأتني إلا كذاك منيتي ثم دعا في آخرها بأن يرزقه الله العودة إلى مكة فمات قبل أن يعود إليها ، ولكني أرجو أن يكون دعاؤه مستجابا لأني رزقت ببركة دعائه حجا وزيارة ، ثم حججت عنه وزرت ودعوت له وأعطيته ثواب حجي وزيارتي وجزيت بذلك ما يقابله من إحساناته إلي وأسأل الله أن يجزيه عني بأحسن الجزاء . وله قصائد كثيرة تتضمن رضاه بقضاء الله وأغلب ذلك في المراثي ، ومن ذلك قوله في مرثية صديقه أتُوتَا بن محمد الأمين : الله أكبر فرد ما له ثان كَلا . وما عن مراده له ثان بل إنه كل ما يوم كما نطقت نصابه ، آية الرحمن في شان كما تبوح التي من قبل تلك بأن الله جل ، البقاء والسوى فان فحقنا بالقضا الرضى ونصبر إذ كل بقبضته سبحانه . عان وكلنا جاهل ما فيه مصلحة والله يعلم ، فلنفزع لإذعان وفي الرضى راحة لنا هنا وغدا أجر عظيم وذاك فيه ربحان كما يفوت عظيم الأجر من جزع مع الغناء وذاك فيه بخسان مر إلى أن قال : رب أكفه أمرا خراه كما هو في أمور دنياي ساع غير منان يا رب يا رب يا رباه ربي يا ربي استجب وامح أوزاء وأدراني وقصائده في هذا الباب كثيرة . ووفاته في الثالث عشر من جمادي الأولى عام ألف وثلاث مائة وإحدى وسبعين 1371هـ(2) . |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
89. زين الدين / حماد بن محمد الصالح الأنصاري التكيراتي السوقي | الدغوغي | منتدى الأعلام و التراجم | 2 | 06-08-2014 08:47 PM |
48. إسماعيل بن المصطفى الإدريسي الجرتي السوقي : | الدغوغي | منتدى الأعلام و التراجم | 0 | 04-16-2014 02:23 PM |
مؤلفات السوقيين | عبدالحكيم | منتدى المكتبات والدروس | 19 | 03-27-2014 10:39 AM |
25.الكرماني / أحمدُ بن عُمار الإدريسي الجلالي السوقي | الدغوغي | منتدى الأعلام و التراجم | 0 | 03-20-2014 12:38 PM |
17.أحمد بن الشيخ بن أحمادُ الإدريسي الجلالي السوقي | الدغوغي | منتدى الأعلام و التراجم | 0 | 03-18-2014 02:32 PM |