العودة   منتديات مدينة السوق > القسم الإسلامي > المنتدى الإسلامي

المنتدى الإسلامي خاصة بطلاب العلم الشرعي ومحبيه، والقضايا الدينية

Untitled Document
إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 06-12-2012, 07:28 PM
عبادي السوقي غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 96
 تاريخ التسجيل : Jun 2009
 فترة الأقامة : 5629 يوم
 أخر زيارة : 10-31-2024 (10:29 PM)
 المشاركات : 389 [ + ]
 التقييم : 10
 معدل التقييم : عبادي السوقي is on a distinguished road
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي قصة العبودية في كتب المالكية ,,



د, محمد المختار الشنقيطي
ساد اللَّجاج وارتفع العَجَاج حول حرق حركة (إيرا) متون الفقه المالكي بطريقة استفزازية، وفي غمرة المناكفات السياسية المحيطة بالأمر ضاعت العبرة من هذه السابقة ذات الدلالة الخطيرة على مستقبل الدين وانسجام المجتمع. وهذه محاولة عجلى للغوص على شيء من الجذور الفقهية والتاريخية للمشكلة، بعيدا عن تداعياتها السياسية الظرفية.
ونرجو أن تدفع هذه الخواطر آخرين إلى مزيد من التفكير الهادئ حول هذا الموضوع وعدم اختزاله في آثاره الآنية.
فالأوْلى من حرق الكتب الفقهية باستفزاز والدفاع عنها بانفعال هو قراءتها بعيون مفتوحة، تميز بين الدين والتدين، وبين الشريعة والفقه، وبين الوحي والتاريخ. فالأمر ليس حدثا عابرا في بلد قصيَّ، وإنما هو في جوهره أمر مستقبل الإسلام في عصر الحرية.
ليس من ريب أن الشريعة "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها" (ابن القيم: إعلام الموقعين 3/3). لكن فقهنا الموروث –وهو كسب بشري لا وحيٌ منزل- ليس كله عدلا ولا رحمة ولا مصلحة ولا حكمة. بل هو حاصل تفاعل فهمِ الفقهاء للوحي مع المواريث الاجتماعية والثقافية السابقة على الإسلام، ومع واقع القهر الاجتماعي الذي ساد في عصرهم. وقد نجح هذا الفقه في تحقيق العدل حينا، وفشل أحيانا أخرى فشلا ذريعا في الارتفاع إلى مقام المبادئ الإسلامية الجليلة، فانتهى إلى خلاصات غريبة مثل التي سنوردها في هذا المقال نقلا عن كتب السادة المالكية. ولكي يتبين الفرق الهائل بين الشريعة والفقه في هذا المضمار أقتصر على مثالين: أولهما التفاف الفقهاء على مسألة المكاتبة لتحرير الرقيق، والثاني رفضهم المساواة بين الحر والعبد في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها. وكلا الأمرين من المصائب الفقهية الكبرى في التاريخ الإسلامي.
إن المعروف تاريخيا أن أصل الاسترقاق ابتداءً هو الأسر في الحرب، وقد قال الله تعالى في أسرى الحرب: "فإما منًّا بعدُ وإما فداء" (سورة محمد، الآية 4). فهذه الآية صريحة في خيارين للتعامل مع أسير الحرب، وهما المن: أي التسريح بلا مقابل، والفداء: أي التسريح بمقابل مالي. ولم تذكر الآية الكريمة أي خيار ثالث، بل حصرت الأمر بين "إما" و"إما". قال الشيخ رشيد رضا: "وقد خير الله تعالى أولي الأمر منا في أسرى هذه الحرب بقوله: فإما منا بعد وإما فداء، أي: فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضلا وإحسانا، وإما أن تأخذوا منهم فداء." (محمد رشيد رضا: تفسير المنار، 5/9). وقال: ”ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام؛ فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتي. ولكن الآية ليست نصا في الحصر، ولا صريحة في النهي عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية." (رشيد رضا: تفسير المنار 11|237).
والسبب في عدم القطع هذا هو أن الإسلام دين عملي، وقد ظهر في عالم امبراطوري من سماته حرب الكل على الكل. وفي هذه الحروب الدائمة يبقى آلاف النساء والأطفال في أرض المعركة أحيانا كثيرة، يواجهون أحد خيارات ثلاثة هي:

- الإبادة على يد الجيش المنتصر.
- أو الموت جوعا في فيافي الأرض.
- أو الاستراقاق والاندماج في المجتمع المسلم.
وقد اختار الإسلام الخيار الثالث -على مرارته- لأن الخياريْن الآخريْن أسوأ بكثير. فلم يكن من السهل على أسير حرب متغرب أن يبدأ حياة جديدة، ولا كان من السهل على أرملة تائهة في أرض المعركة أن تحافظ على حياتها –فضلا عن المحافظة على عِرضها- دون اندماج في المجتمع.

لكن تشريع الإسلام لم يقف عند هذا الحد، بل جعل قضية الرق عمليا مرحلة مؤقتة، حينما وضع حرية الرقيق في يده من خلال نظام المكاتبة. والمكاتبة هي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بمقتضاه بدفع فدية على أقساط مقابل حريته، ويصبح المكاتب حرا بمجرد إبرام العقد. فإن عجز عن الأداء لم يعد عبدا، وإنما يصبح عليه دين للسيد السابق، يجب على الدائن إنظاره فيه إلى حين ميسرة، ويجب على السلطة والمجتمع عونه بالمال حتى يتحرر من ربقة الرق. وهذا فحوى قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ." (سورة النور، الآية 33). ففي الآية أمران صريحان: يُلزم أولهما السادة بقبول عقد الحرية، ويُلزم الثاني المجتمع –ممثَّلا في الدولة- بالإسهام المالي في هذا المسار التحرري.

لقد شاع في المطارحات الإسلامية أن الإسلام دفع إلى تحرير الرقيق دفعا أخلاقيا فقط، بحضه على إعتاق الرقاب باعتبار ذلك من أعظم القربات التطوعية، لكنه لم يحرر الرقيق قانونيا بفرض إجراءات عملية ملزمة بتحريره. وهذا الرأي غير سديد، إذ هو ينطلق من التسليم بفهم فقهي شائع يناقض ظاهر كتاب الله عز وجل.
لقد جعل القرآن الكريم حرية العبد بيده حينما ألزم مُلَّاك العبيد بالمكاتبة في أمر صريح لا لبس فيه. فالمكاتبة تمنح العبد حق تحرير نفسه إن قدر، وتوجب على المجتمع عونه على ذلك إن لم يقدر، وهو ما يعني أن الإسلام لم يعلن إعتاق العبيد بإطلاق دفعة واحدة، لكنه وضع في يد كل منهم مفاتيح الانعتاق الذاتي، وألزم المجتمع والدولة بمعاضدته في ذلك. وهذا المسار كان أليق بالعصور القديمة التي لم يكن استقلال الفرد فيه عن الجماعة واعتماده على نفسه بالأمر السهل. وهو منسجم أيضا غاية الانسجام مع إلغاء الرق جملة في العصر الحديث، بقرار من السلطة العامة الممثلة للمجتمع، وذلك بعد أن استقلت ذات الفرد عن الجماعة والمجتمع استقلالا بعيدا.

لكن إحدى المصائب الفقهية في تاريخ الرق بالمجتمعات الإسلامية هي التفاف الفقهاء على نظام المكاتبة الذي جعله القرآن طريقا إلى حرية كل العبيد. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يضرب السادة الذين يأبون إعتاق عبيدهم عبر نظام المكاتبة: "عن أنس بن مالك قال أرادني سيرين على المكاتبة فأبيتُ عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فأقبل عليَّ عمر رضي الله عنه يعني بالدِّرة فقال كاتبْه." (سنن البيهقي 10|538، وصححه الألباني في إرواء الغليل 6|180). فانظر كيف هجم عمر بسوطه على رجل في مقام أنس بن مالك ليلزمه بقبول عقد المكاتبة مع عبده سيرين، ثم انظر كيف ميَّع الفقهاء بعد ذلك الأمر، فقالوا إن الأمر بالمكاتبة ليس للوجوب، بل للاستحباب أو حتى للإباحة (انظر الحطاب: مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6|344).

وبهذا الرأي المرجوح الذي يسد باب الانعتاق الذاتي قال أكثر الفقهاء. ولم يخل تاريخ هذا الدين المحفوظ بحفظ الله له من قائم بالحق يقف في وجه هذه التأويلات. وكان ابن حزم هو صاحب هذا الموقف في قضية المكاتبة، فوقف للفقهاء بالمرصاد ببيانه وبيناته، وبين أن عزوف أغلب الفقهاء هنا عن ظاهر القرآن خطيئة لا مسوغ لها.

قال ابن حزم: "وأمْر الله تعالى بالمكاتبة –وبكل ما أمر به- فرضٌ، لا يحل لأحد أن يقول له الله تعالى: افعلْ، فيقول هو: لا أفعل"( (ابن حزم: المحلى 8|221). ثم أوضح أن وجوب المكاتبة هو مذهب الصحابة، وكان الأوْلى بالفقهاء أن لا يخالفوهم فيه. قال ابن حزم: "فهذا عمَر وعثمان يريانها واجبةَ، ويُجبِر عمر عليها ويضرب في الامتناع عن ذلك، والزبير يسمع حمل عثمان الآية على الوجوب فلا ينكر على ذلك، وأنس بن مالك لما ذُكِّرَ بالآية سارع إلى الرجوع إلى المكاتبة وترك امتناعه. فصحَّ أنه لا يُعرَف في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. وخالف في ذلك الحنفيون والمالكيون والشافعيون فقالوا ليست واجبة، وموَّهوا في ذلك بتشغيبات... وهذه وساوس سخِر الشيطان بِهِم فيها، وَشَوَاذُّ سَبَّب لهم مثل هذه المضاحك في الدِّين، فَاتَّبَعوه عليها" (ابن حزم: المحلَّى 8|222-223).


أما المصيبة الفقهية الثانية فهي رفض الفقهاء للمساواة بين الحر والعبد في حق الحياة. فقد تلاعبت أقلام الفقهاء هنا تلاعبا غريبا بالنص القرآني مرة أخرى ليرسخوا التفاوت في أقدس حقوق الإنسان وآكدها، وهو حق الحياة. لقد حرم الله عز وجل قتل النفس –أي نفس- إلا قصاصا بأخرى أو فساد في الأرض، دون تمييز بين حر وعبد، ثم عمم في القصاص في القتل دون تمييز بين حر وعبد أو بين مسلم وكافر: "وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" (سورة المائدة، الآية 45)، وأوجب الدية لأهل القتيل، والكفارة على القاتل: ”وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا" (سورة النساء، الآية 92). وتوعد قاتل المؤمن بوعيد لم يرد في الكتاب مثله: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا." (سورة النساء، الآية 93).

وعمم النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ تكافئ الدماء بين المسلمين: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (رواه بسند صحيح ابن ماجة 2|895، والبيهقي 8|51، والنسائي 8|24 وغيرهم). كما صرح صلى الله عليه وسلم أن لا ميزة بين الحر والعبد في حق الحياة: فقال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدَّع عبده جدعناه." (رواه أحمد 33/296، والترمذي 4/26 وحسَّنه، والحاكم 4/408 وصحَّحه، وقال الذهبي: "على شرط البخاري." وحسَّن إسناده ابن حجر في هداية الرواة 3/380 والبغوي في شرح السنة 5/391.)

لكن الفقهاء أهدروا العموم الواضح في هذه النصوص الشرعية، وميزوا بين الحر والعبد في حق الحياة، فأعفوا السيد من أي عقوبة دنيوية إذا قتل عبده، عمدا أو خطأ، وأعفوه من القصاص ومن الدية إذا قتل عبدَ غيرِه، بل أعفوه حتى من الكفارة، ولم يلزموه بأكثر من دفع "قيمة" العبد. وتمسك هؤلاء الفقهاء بفهم متناقض غريب لآية القصاص: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى" (سورة البقرة، الآية 178). فطبقوا التمييز على الحر والعبد، ولم يطبقوه على الذكر والأنثى، رغم أن الآية ليس فيها دلالة على تمييز أصلا، وإنما هي منع من إيغال أهل الجاهلية في الثأر وتجاوزهم قتل القاتل إلى غيره، حيث كانوا يأنفون من أخذ الثأر لأشرافهم من العبد والمرأة.

وإليكم جوانب من كلام الفقهاء يهدرون فيه حق الحياة، ونقتصر فيها على فقهاء المذهب المالكي المعروفين في بلادنا مراعاة للسياق. قال الموَّاق: "لا يُقْتَلُ حرٌّ بعبد" (المواق: التاج والإكليل لمختصر خليل، 4/602). وقال الخرشي: "لو قَتل الحرُّ المسلم عبدًا مسلما فإِنه لا قصاص عليه" (الخرشي: شرح مختصر خليل 8/3). وإذا كانت الدية واجبة في نص القرآن في القتل الخطإ دون تمييز: "فديةٌ مسلَّمة إلى أهله" (سورة النساء، الآية 92). فإن أمر العبد سهل عند فقهائنا، إذ العبد لا أهل له في نظرهم غير السيد القاتل، حتى وإن ترك خلفه أرمة ثكلى وأيتاما مكلومين، "قال ابن القاسم: وإن قتله سيده خطأ فلا شيء عليه." (ابن رشد: البيان والتحصيل 14/347).

وحتى الكفارة –التي هي حق الله تعالى وحق المساكين- تم تجاوزها بجرة قلم. قال ابن عبد البر: "والكفارة في قتل الخطأ واجبة، ولا كفارة في قتل عمد، ولا في قتل كافر ولا عبد، إلا أنه استحب مالك الكفارة في قتل العبد خطأً" (ابن عبد البر: الكافي في فقه أهل المدينة 2/1108)، وقال ابن جُزيْ: "ولا كفارة في قتل عبد ولا كافر إلا أَنها تُستَحب في قتل العبد" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 228). وقال ابن رشد: "كفارة قتل العبد ليست بواجبة" (ابن رشد: البيان والتحصيل 13/65). وقال: "الرقبة في قتل العبد تطوع، وليست واجبة" (ابن رشد: البيان والتحصيل 5/181).

وأغرب ما في الأمر هو حديث فقهائنا عن تواطئ الحر والعبد في قتل عبد. فهنا لا يكون التمييز بين شخصين ارتكبا جريرتين متمايزين، بل تمييز بين فاعليْن للفعل ذاته. قال القرافي: "وإن قتل عبدٌ وحُرٌّ عبدًا عمْدًا قُتِل الْعبدُ، وعلى الْحرِّ نصف قيمته في ماله، لأنَّ الْعاقلة لا تحمل عمْدًا، ولا يُقْتَلُ حُرٌّ بعبد" (القرافي: الذخيرة 12/274).
أما العبد المسكين، فإذا قتل حرا، فـ"لا خلاف بينهم في أن العبد يُقتَل بالحر" (ابن رشد: بداية المجتهد 4/181). بل إن العبد لا يستحق حتى إجراءات التقاضي. قال ابن جزي: "وَإِذا قتل العَبْد حرا فيسلمه سَيّده لأولياء الْمقتول فإن شاءوا قتلوه وإِن شاءوا أحيوْه" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 227).

ومعنى قوله "أحيوه": استرقّوه وأبقوه على قيد الحياة. وإن المرء ليعجب من هذا المنطق ويتساءل: بأي أساس شرعي في قوانين الأرض أو السماء يتم تسليم الجاني إلى المجني عليه ليتصرف فيه كما يشاء؟! ألا يوجد قضاء ومرافعات وشهود وبينات وسلطة تنفذ أحكام القضاء؟! فما معنى استثناء العبد المتهم بالقتل من كل ذلك سوى إهدار إنسانيته؟
ويبقى أن نؤكد أخيرا أن العبودية في موريتانيا لها سياقها الخاص الذي يجردها من أي شرعية دينية أو تاريخية، إذ لم يكن بلدنا ثغرا من ثغور التماسِّ الامبراطوري، ولا كان ساحة من ساحات الجهاد ضد عدو كافر. فاستمرار العبودية في دول الجهاد والثغور محل اشتباه شرعي، بسبب ثنائية المن والفداء المشار إليها آنفا، فكيف ببلد انتشر الإسلام فيه ومنه بطرق العلم والسلم ؟
إن تحرر المجتمعات التي ينبثق نظام قيمها من الدين –ومنها مجتمعنا- لا بد أن ينطلق من التمييز بين العنصر الأزلي الخالد والعنصر التاريخي المؤقت من الثقافة الدينية. وقراءة تراثنا الفقهي بعيون مفتوحة، دون إشعال أو انفعال، هو الذي سيجمعنا على كلمة سواء من الوحي الخالد، ويحررنا من الفقه الجامد الذي يقيدنا ثقافيا واجتماعيا، فهل نأخذ العبرة من الهزة الحالية، وننجح مستقبلا في تحقيق الانعتاق دون احتراق أو إحراق؟



 توقيع : عبادي السوقي

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ

رد مع اقتباس
قديم 06-12-2012, 07:30 PM   #2


عبادي السوقي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 96
 تاريخ التسجيل :  Jun 2009
 أخر زيارة : 10-31-2024 (10:29 PM)
 المشاركات : 389 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: قصة العبودية في كتب المالكية ,,



لقد رأينا في الحلقة الأولى هشاشة الأساس الفقهي لاستمرار العبودية في المجتمعات المسلمة، وهو استمرار سببه التملص من المبدإ القرآني الذي جعل عتق الرقيق بيده من خلال نظام المكاتبة. كما رأينا نموذجا من ازدواجية المعايير الفقهية في أقدس حق من حقوق الإنسان وهو حق الحياة. بيد أن كل ما ذكرناه في الحلقة الأولى مجرد تأسيس نظري عام.
أما الحالة الموريتانية فالأمر فيها أبشع من ذلك إذا وضعناه في سياق الزمان والمكان، إذ أصل الاسترقاق فيها موبقة من الموبقات الشرعية، لأنه استرقاق إخوة في الدين حرم الله دماءهم ووأموالهم أعراضهم، ولعلها مما ينطبق عليه الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره." (صحيح البخاري 3/82). وهذا الذي نريد بيانه في هذه الحلقة بأسانيده التاريخية.
منذ أربعة قرون كشف العلامة أحمد بابا التنبكي (963-1032 هـ) عوار الرق في الصحراء الكبرى، وضعف أساسه الفقهي والتاريخي. وأحمد بابا –لمن لا يعرفه- ينحدر من أسرة كريمة من مدينة ولاتة استقر به المقام في مدينة تنبكتو لما كانت حاضرة امبراطورية سنغاي. وهو مؤلف مكثر، ومن ضمن مؤلفاته شرح جزئي على (مختصر خليل) سماه (المقصد الكفيل بحل مقفل خليل)، وحاشية عليه سماها (منن الرب الجليل في مهمات تحرير خليل). فالشيخ أحمد بابا ينطلق من داخل المنظومة الفقهية السائدة التي رأينا من قبل هشاشتها في موضوع الرق والاسترقاق، لكنه رجل ذو حس تاريخي وروح إنصاف، وقد عاين وعايش الواقع المرير للأرقاء، وعانى من المذلة حينما أسره الجيش المغربي السعدي المغير على تنبكتو عدة أعوام.
وقد ألف أحمد بابا رسالة وجيزة سماها (معراج الصعود إلى نيل مجلب السود) انتهى من تحريرها عام 1024 هـ، وهي من نشر معهد الدراسات الإفريقية بالرباط، مع تحقيق وترجمة إلى الإنكليزية بقلم فاطمة حراك وجون هنويك. وقد أوضح الشيخ أحمد بابا في رسالته أن أهل السودان (إفريقيا الغربية) قد استفاض فيهم الإسلام منذ أمد بعيد، يرجع إلى القرن الخامس الهجري، وأن استرقاقهم موبقة من الموبقات الشرعية ينطبق عليها الوعيد الشديد في الحديث القدسي الآنف الذكر. وسار على نهج الشيخ أحمد بابا الفقيهُ محمد بن إبراهيم الجارمي في رسالة له بعنوان مثير، أقترح أن يكون شعارا لكل الساعين إلى إنصاف الحراطين في موريتانيا، وهو: (تنبيه أهل الطغيان على حرية السودان).
ويبدو أن هذه الرسالة لم تنشر بعد، لكن الباحث المغربي عبد الخالق أحمدون نقل عن نسخة مخطوطة منها بمكتبة الشيخ عبد الله كنون. وقد استهل الجارمي رسالته بالقول: "إني لما رأيت تحامل كثير من الناس على السودان، وتجاسرهم عليهم من غير موجب، وما يدَّعون من رِقِّيَّتهم وعدم إسلامهم، حملتني الغيرة على أن أنبه على ذلك في رسالة، ليكون على بال من له أدنى اهتمام بدينه." ثم خلص الجارمي إلى أن استرقاقهم "ظلم وخروج على الهدى." (انظر د. عبد الخالق أحمدون: أبعاد التواصل الحضاري بين المغرب والبلدان الإفريقية من خلال رسالة "معراج الصعود" لأحمد بابا التمبكتي، ص 15-16).
لكن المؤرخ أحمد بن خالد بن محمد الناصري (ت 1315 هـ) صاحب كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى) هو الذي وضع النقاط على الحروف في هذا الأمر، وكشف الزيف التاريخي المحيط بقضية الاسترقاق في غرب وشمال إفريقيا. ونظرا لأهمية نص الناصري وطوله نقسمه إلى مواضيعه الرئيسية، وأهمها:
أولا: أن شعوب منطقة السودان –وهي تشمل كل غرب إفريقيا في استعمال المغاربة- قوم مسلمون عميقو التدين منذ القدم، وأن استرقاقهم على أيدي إخوانهم في الدين أمر مستبشع. يقول الناصري: "قد تبين لَك بِمَا قصصناه عَلَيْك من أَخْبَار السودَان مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الْبِلَاد من الْأَخْذ بدين الْإِسْلَام من لدن قديم، وَأَنَّهُمْ من أحسن الْأُمَم إسلاما، وأقومهم دينا، وَأَكْثَرهم للْعلم وَأَهله تحصيلا ومحبة، وَهَذَا الْأَمر شَائِع فِي جلّ ممالكهم الموالية للمغرب كَمَا علمت. وَبِهَذَا يظْهر لَك شناعة مَا عَمَّت بِهِ الْبلوى بِبِلَاد الْمغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودَان مُطلقًا، وجلب القطائع الْكَثِيرَة مِنْهُم فِي كل سنة، وبيعهم فِي أسواق الْمغرب حَاضِرَة وبادية، يُسمسَرون بهَا كَمَا تسمسَر الدَّوَابّ بل أفحش" مضيفا أن "أهل السودَان قوم مُسلمُونَ، فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا، وَلَو فَرضنَا أَن فيهم من هُوَ مُشْرك أَو متدين بدين آخر غير الْإِسْلَام فالغالب عَلَيْهِم الْيَوْم وَقبل الْيَوْم بِكَثِير إِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَام، وَالْحكم للْغَالِب. وَلَو فَرضنَا أَن لَا غَالب وَإِنَّمَا الْكفْر وَالْإِسْلَام هُنَالك متساويان فَمن لنا بِأَن المجلوب مِنْهُم هُوَ من صنف الْكفَّار لَا الْمُسلمين" (الاستقصا 5/131).
ثانيا: أن تحول العبودية في شمال إفريقيا إلى مسألة عرقية أمر خطير وظلم فاحش، وقد لاحظ الناصري ذلك، فقال: "قد تمالأ النَّاس على ذَلِك، وتوالت عَلَيْهِ أجيالهم، حَتَّى صَار كثير من الْعَامَّة يفهمون أَن مُوجب الاسترقاق شرعا هُوَ اسوداد اللَّوْن، وَكَونه مجلوبا من تِلْكَ النَّاحِيَة، وَهَذَا لعمر الله من أفحش المناكر وَأَعْظَمهَا فِي الدّين" (الاستقصا 5/131). وقد أحسن الناصري في هذا، خصوصا وأن الحضارة الإسلامية عرفت امتزاجا عرقيا رائعا لم تعرفه أية حضارة كلاسيكية. وحينما كانت بعض الثقافات تحتقر أصنافا من البشر بسبب لون بشرتهم أو سحنة وجوههم، كان علماءُ وأدباء عرب يكتبون عن فضائل السود. فهذا الجاحظ في رسالته (فخر السودان على البيضان) يشيد بفضائل السود، وينوِّه بأعلام المسلمين ذوي البشرة السوداء، ثم يتوصل إلى أنه "ليس في الأرض أمةٌ السخاء فيها أعمُّ وعليها أغلبُ من الزنج... وهم شجعان أشِدَّاء الأبدان... والزنجي مع حسن الخلُق وقلة الأذى، لا تراه أبدا إلا طيبَ النفس، ضاحكَ السِّن، حسَنَ الظن." (الجاحظ: "فخر السودان على البيضان" ضمن: رسائل الجاحظ 1/195-196). ولم يكتف الجاحظ بذلك، بل تجاوزه إلى مدح سواد اللون بإطلاق: "فليس لون أرسخ في جوهره وأثبت في حسنه من سواد." (الجاحظ: "فخر السودان على البيضان،" 1/206). وعلى خطى الجاحظ سار ابن الجوزي في كتابه (تنوير الغبش في فضل السودان والحبش)، فدل أيضا على أن الاستعلاء العرقي ليس من خصائص الثقافة العربية. وقد جمع ابن الجوزي في كتابه كل ما يجول بالخاطر من فضائل الزنج. فافتتح الكتاب بالحديث عن مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي، وهجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، ثم أطنب في الإشادة بعلماء الزنج، وشعرائهم، وأذكيائهم، وفطنائهم، وكرمائهم، وزهادهم، وعُبَّادهم، من الرجال والنساء، فخصص فصلا لكل هذه الأصناف.
ثالثا: أن الحرية هي الأصل، وليس سماسرة العبيد بالثقات، حتى نصدقهم في دعاواهم، بل هم أهل كذب واحتيال ومكر. يقول الناصري: "وَالْأَصْل فِي نوع الْإِنْسَان هُوَ الْحُرِّيَّة والخلو عَن مُوجب الاسترقاق، ومدعي خلاف الْحُرِّيَّة مُدَّع لخلاف الأَصْل. وَلَا ثِقَة بِخَبَر الجالبين لَهُم والبائعين لَهُم، لما تقرر وَعُلم فِي الباعة مُطلقًا من الْكَذِب عِنْد بيع سلعهم وإطرائها بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَفِي باعة الرَّقِيق خُصُوصا مِمَّا هُوَ أَكثر من ذَلِك، كَيفَ وَنحن نرى أَن الَّذين يجلبونهم أَو يتجرون فيهم إِنَّمَا هم من لَا خلاق لَهُم وَلَا مُرُوءَة وَلَا دين" (الاستقصا، 5/131-132).
رابعا: أن الفوضى والحروب الأهلية بين السلطنات الإفريقية المسلمة، والحروب الأهلية بين القبائل العربية والمتعربة في الصحراء –وهي مسلمة أيضا- هي السبب في موجة الاسترقاق غير الشرعي في المنطقة: "وَقد استفاض عَن أهل الْعدْل وَغَيرهم أَن أهل السودَان الْيَوْم وَقبل الْيَوْم يُغير بَعضهم على بعض، ويختطف بَعضهم أَبنَاء بعض، ويسرقونهم من الْأَمَاكِن النائية عَن مداشرهم وعمرانهم، وَإِن فعلهم ذَلِك كَفعل أَعْرَاب الْمغرب فِي إغارة بَعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أَو سرقتها، وَالْكل مُسلمُونَ، وَإِنَّمَا الْحَامِل لَهُم على ذَلِك قلَّة الدّيانَة وَعدم الْوَازِع. فَكيف يسوغ للمحتاط لدينِهِ أَن يقدم على شِرَاء مَا هُوَ من هَذَا الْقَبِيل، وَكَيف يجوز لَهُ التَّسَرِّي بإناثهم وَفِي ذَلِك مَا فِيهِ من الْإِقْدَام على فرج مَشْكُوك؟... بل صَار الفسقة الْيَوْم وَأهل الجراءة على الله يختطفون أَوْلَاد الْأَحْرَار من قبائل الْمغرب وقراه وأمصاره، ويبيعونهم فِي الْأَسْوَاق جهارا من غير نَكِير وَلَا امتعاض للدّين، وَصَارَ النَّصَارَى وَالْيَهُود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع، وَذَلِكَ عُقُوبَة من الله لنا لَو اعْتبرنَا، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على مَا دهينا بِهِ فِي ديننَا" (الاستقصا، 5/132-133).
خامسا: أن قياس الاسترقاق الذي حدث في ضمن حروب الجهاد في صدر الإسلام بالاسترقاق في منطقة غرب وشمال إفريقيا قياس فاسد، حيث "إِن سَبَب الاسترقاق الشَّرْعِيّ الَّذِي كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَف الصَّالح مَفْقُود الْيَوْم، وَهُوَ السَّبي النَّاشِئ عَن الْجِهَاد الْمَقْصُود بِهِ إعلاء كلمة الله تَعَالَى، وسوْق النَّاس إِلَى دينه الَّذِي اصطفاه لِعِبَادِهِ. هَذَا هُوَ ديننَا الَّذِي شَرعه لنا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وخلافه خلاف الدّين، وَغَيره غير الْمَشْرُوع، والتوفيق إِنَّمَا هُوَ بيد الله. رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (الاستقصا، 5/134). وقد أحسن الناصري في هذا التمييز، فشتان ما بين سلطنات وقبائل مسلمة يقتِّل بعضها بعضا سعيا وراء مجد وهمي وزاد زهيد، وبين طلاب الشهادة الذين حملوا أرواحهم في أكفهم من أجل إخراج الناس من عبادة العبادة إلى عبادة رب العباد، تسوقهم همم كبيرة معلقة بالآخرة، على نحو ما صوره الشاعر محمد إقبال في ديوان (جناح جبريل) بقوله:
نيل الشهادة للمُوحِّد مَطمـــحٌ وإذا تقحَّم فالجـــراح غبارُ
لا سبيَ غانيةٍ وسلبَ خزانةٍ ومطامحُ الهِمم الكبارِ كبارُ
وأخيرا أشير إلى أن تونس دولة مسلمة مالكية، بل هي أحد مصادرنا في الفقه المالكي، حيث أخذنا منها متونا مهمة مثل رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وقد أدرك أهلها منذ قرن وثلثيْ القرن الخللَ الشرعي والتاريخي المحيط باسترقاق الشعوب السودانية في غرب وشمال إفريقيا. وأصدر الحاكم العثماني لتونس أحمد باشا بايْ قرارا بمنع المتاجرة بالعبيد في تونس، وهدَم سوق النخاسة في عاصمته عام 1841م، أيْ قبل أن تعلن موريتانيا رسميا تحرير الرقيق بمائة وأربعين عاما، بل وقبل فعل بعض الدول الأوربية ذلك. ثم أصدر أحمد باي مرسوما عام 1846 يلزم فيه الفقهاء والقضاة بالتعاون في تصفية الرق داخل مملكته، هذا نصه:
"إلى علماء مشايخ ومفتيي تونس يتضمّن إعلامهم بإلغاء الرق وعتق العبيد:
الحمد لله، حفظهم لله تعالى ورعاكم، ونور هداكم، الفضلاء الأعيان، الأخيار العلماء الكمل، هداة الأمة ومصابيح العلي، أحبابنا الشيخ سي محمد بيرم شيخ الإسلام، والشيخ سي إبراهيم الرياحي باش مفتي المالكية، والمفتيين الشيخ سي محمد بن الخوجة والشيخ سي محمد بن سلامة، والشيخ سي أحمد اللابي، والشيخ سي محمد المحجوب، والشيخ سي حسين البارودي، والشيخ سي الشاذلي بن المؤدب، والشيخ سي علي الدرويش، والشيخ سي محمد الخضار، والقضاة: الشيخ سي محمود بن باكير، والشيخ سي محمد البنا، والشيخ سي محمد النيفر بباردو، والشيخ سي فرج التميمي بالمحلة، أكرمهم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإنّه ثبت عندنا ثبوتا لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هولاء السودان الذين لا يقدرون علي شيء، علي ما في أصل صحة ملكهم من الكلام بين العلماء، إذ لم يثبت وجهه، وقد أشرق بنظرهم صبح الإيمان منذ أزمان، وأن من يملك أخاه علي المنهج الشرعي الذي أوصى به سيد المرسلين آخر عهده بالدّنيا وأول عهده بالآخرة، حتّى أن من شريعته التي أتى بها رحمة العالمين عتق العبد علي سيده بالإضرار، وتشوف الشارع إلى الحرية. فاقتضى نظرنا والحالة هذه رفقا بأولئك المساكين في دنياهم، وبمالكيهم في أخراهم، أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه والحالة هذه، خشية وقوعهم في المحرّم المحقق المجمع عليه، وصد إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم، وعندنا في ذلك مصلحة سياسية، منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملَّتهم. فعيَّنا عدولا بسيدي محرز، وسيدي منصور، والزاوية البكرية، يكتبون لكل من أتى مستجيرا حجة في حكمنا له بالعتق على سيده وترفع إلينا لنختمها. وأنتم حرسكم الله إذا أتى لأحدكم المملوك مستجيرا من سيده، واتصلت بكم نازلة في ملك علي عبد، وجهوا العبد إلينا، وحذار من أن يتمكن له مالكه، لأن حرمكم يأوي من التجأ إليه في فك رقبته من ملك ترجح عدم صحته، ولا نحكم به لمدعيه في هذا العصر، واجتناب المباح خشية الوقوع في المحرّم من الشريعة، لاسيما إذا انضم لذلك أمر اقتضته المصلحة فيلزم حمل الناس عليه. والله يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كريما، والسلام من الفقير إلى ربه تعالى عبد المشير أحمد باشا باي وفقه الله تعالى آمين. كتب في 23 جانفي 1846".
ولم نجدْ في كتب التاريخ اعتراضا من علماء المالكية بتونس على مضمون رسالة أحمد باشا، مما يدل على اتفاقهم معه حول عدم شرعية الاسترقاق أصلا في هذه المنطقة. وقد امتدح الشاعر الفرنسي بارتلمي Barthélemy (1796-1867) حاكم تونس بقصيدة مشهورة، ودعا ملوك أوربا إلى الاقتداء به في إعتاق الرقيق. ومن هذه القصيدة قوله:
Le Sultan de Tunis abolit l’esclavage.
Le pied du nègre est libre, en touchant le rivage !
Que Dieu Tout Puissant le couvre de son aile !
Que l’Europe à ses rois l’impose pour modèle
وخلاصة الأمر أن الرق في غرب وشمال إفريقيا –ومنه الرق في موريتانيا- ليس له أصل شرعي ولا تاريخي، بل هو ظلم وإدمان على الظلم دام قرونا طويلة، غذته الفوضى والحروب الأهلية، وسوغته التكيفات الفقهية مع الواقع. وقد آن الأوان لنتوب إلى الله تعالى منه، ومن آثاره المادية والمعنوية التي لا تزال تطحن بكلكلها إخوةً لنا، تجمعنا بهم أرحام متضافرةٌ من الدين والوطن والتاريخ.
وما أحسن أن نختم بالآية الكريمة التي ختم بها الناصري إدانته لاسترقاق المسلمين: "رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (سورة الأعراف، الآية 23). فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى توبة نصوح عامة، يراجع فيها مجتمع السادة ربه، ويتوب من الإدمان على ظلم إخوة له في الدين لقرون مديدة، ويستغفر لأسلاف أفضوا لما قدموا دون أن يبرر أو يكرر أخطاءهم وخطاياهم، وينيب مُحرِّق الكتب إلى ربه من تحريق الكتب الفقهية بازدراء، وهي كتب مهما تكن مآخذنا على ما فيها من آراء غريبة عن روح الإسلام، فهي تشتمل على أسماء الله تعالى وآياته، وعلى أحاديث نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم


 
 توقيع : عبادي السوقي

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 06-12-2012, 07:31 PM   #3


عبادي السوقي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 96
 تاريخ التسجيل :  Jun 2009
 أخر زيارة : 10-31-2024 (10:29 PM)
 المشاركات : 389 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: قصة العبودية في كتب المالكية ,,



رأينا في الحلقة االثانية عدم شرعية الاسترقاق ابتداء في منطقة الغرب والشمال الإفريقي، من خلال شهادات التنبكتي والجارمي وغيرهما. ونعضد هذا الأمر الآن بشهادة أحد العلماء الموريتانيين الذين لم يجاملوا مجتمعهم في الحق، وهو محمد بن محمد بن علي اللمتوني، أحد علماء القرن العاشر الهجري بمدينة ولاتة. ولشهادة هذا العالم قيمة تاريخية عظيمة تتجاوز حدود بلادنا.
فقد كتب اللمتوني رسالة استفتاء طويلة إلى العلامة جلال الدين السيوطي في مصر عام 898 هــ، يسأله فيها الإجابة عن العديد من الإشكالات الشائعة في مجتمع بلاد التكرور (موريتانيا وما حولها). وقد ضمَّن السيوطي هذه الوثيقة في كتابه (الحاوي للفتاوي) وامتدح كاتبها، واصفا إياه بأنه "الشيخ العالم الصالح" (الحاوي 1/344)، ورد على أسئلته في رسالة وجيزة سماها (فتح المطلب المبرور وبرَد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور). وما يهمنا هو ما ورد في وثيقة اللمتوني من وصف الأوضاع الدينية والاجتماعية في هذه المنطقة. وأهم ذلك دلالة لموضوعنا أمور ثلاثة:
أولها: تأكيد اللمتوني على ما أكد عليه التنبكتي فيما بعد من شيوع استعباد الأحرار في هذه البلاد، حيث يقول: "ومنهم من يخاصم على الأحرار، ويدْعوهم بالعبيد، فإن مات من ادعى عليه ذلك لم يقسموا بين ورثته، ثم يدْعوهم من بقي باسم الرق، وإن قلتَ لهم: (هؤلاء أحرار) كادوا يقتلونك، ويقولون: هؤلاء عبيد أتباع للسيف، ومنهم من يجعلهم كالخدم بالضرب والعذاب، ومنهم من يسخر منهم ويأخذ منهم الأموال ولا يضرهم في أنفسهم، ومنهم من يبيعهم بالتنافس والتنازع" (السيوطي: الحاوي للفتاوي 1/337).
ثانيها: ملاحظته للازدواجية الأخلاقية السائدة في الثقافة الدينية لأهل هذه البلاد، وإدمانهم على الظلم الاجتماعي، مع تدينهم وحبهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول اللمتوني: "ومنهم من عادَتُه محبة العلماء، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأعمال الصالحة، والصدقة، وإطعام الطعام، وقِرى الضيف، وغير ذلك من وجوه الخير. ولا يتركون ما هم عليه من تكبر، واسترقاق الأحرار، والمقاتلة، والظلم، وأكل الحرام" (السيوطي: الحاوي 1/339).
ثالثها: أخذ اللمتوني على فقهاء هذه البلاد الابتعاد عن الوحي، والانشغال عنه بكتب الفروع بكل مساوئها. حيث يقول: ""ومن فقهائهم من عادته ترك القرآن والسنة، وأخذ (الرسالة) و(المدونة الصغرى) و(ابن الجلاب) و(الطليطلي) و(ابن الحاجب)، حتى عادوْا من يفسر القرآن، ويقولون: قال أبو بكر الصدِّيق: إن كذبتُ على ربي أيُّ أرض تحملني؟ وإذا سمعوا آية تتلَى لتفسير نفروا عنها نفرة الحمُر الوحشية" (السيوطي: الحاوي 1/340).
وكأنما لاحظ اللمتوني العلاقة وثيقة بين هذه الأخطاء الفادحة في انتهاك كرامة الإنسان، وبين الانشغال عن نصوص الوحي بمتون وحواش موغلة في التكيف مع الواقع الاجتماعي، حتى غدت غواشيَ تحول بين الناس وبين القيام بالقسط، ذلك المبدأ النبيل الذي بعث الله كل الرسل وأنزل كل الرسالات من أجل تحقيقه: "لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (سورة الحديد، الآية 25). وقد أحسن المفكر الجزائري مالك بن نبي إذ اعتبر "تجريد الآيات القرآنية من الغواشي الفقهية واللغوية والتاريخية" شرطا من شروط النهضة في العالم الإسلامي، لأن هذه الغواشي أثمرت مفارقات صارخة بعيدة كل البعد عن المعاني الإنسانية المثلى التي جاء بها القرآن، وعن مقصد كل الرسالات السماوية في القيام بالقسط.
وفي الجدول الآتي تلخيص لبعض المفارقات بين النص القرآني والرأي الفقهي. وهي كلها تشير إلى تأويل النصوص القرآنية الصريحة ذات الصلة بالرق، وصرفها عن ظاهرها، كلما تعلق الأمر بالمساواة بين العبيد والأحرار. ولو استقرأنا أكثر لأوردنا أمثلة أكثر:
مضمون النص القرآني خلاصة الرأي الفقهي
1. أمر صريح بقبول المكاتبة عند ابتغاء السيد لها الأمر هنا للندب أو الإباحة، وهو غير ملزم للسيد
2. أمر صريح بإيتاء الإماء مهورهن شأنهن شأن الحرائر صداق الأمة ملك للسيد، لا للأمة
3. أمر صريح بمساعدة العبيد والإماء في الزواج الأمر هنا للندب أو الإباحة، ويجوز للسيد منع العبد من الزواج
4. أمر صريح بدفع الدية في قتل أي نفس مؤمنة العبد لا دية له، وإنما له قيمة فقط
5. أمر صريح بالقصاص في القتل العمد لا قصاص من حر لعبد إذا قتله عمدا
6. الطلاق ثلاث مرات دون تمييز حر من عبد طلاق العبد طلقتان فقط
7. العدة ثلاث حيض دون تمييز بين حرة وأمة عدة الأمة حيضتان فقط
ولم تخل كتب الفقه والحديث من رافض لهذا الجانب أو ذلك من فقه التمييز، ومحتكم إلى نص الوحي من غير غواش، حتى وإن ضاعت أصوات هؤلاء بين أصوات الجمهور. فقد استنكر –مثلا- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الخروج على القرآن في موضوع العدة: "روى الدارقطني من طريق زيد بن أسلم قال: سئل القاسم بن محمد عن عدة الأمة، فقال: الناس يقولون حيضتان، وإنا لا نعلم ذلك في كتاب ولا سنة. انتهى وإسناده صحيح" (ابن حجر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/70).
وأصل هذا التمييز في كل شيء هو القياس غير الموفق على حكم قرآني جاء تخفيفا على الأمة حينما جعل الله عز وجل عقوبتها على الزنا نصف عقوبة الحرة: "فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ" (سورة النساء، الىية 25) رفقا بها نظرا لما تنمِّيه العبودية من ضعف الحصانة الاجتماعية وضعف الإحساس بالكرامة الإنسانية، ونظرا لظروف الإكراه على الزنا الذي كان شائعا طلبا للمال، وهو أمر استبشعه القرآن الكريم ونهى عنه: "وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (سورة النور، الآية 33). وما كان من اللازم الخروج على ظواهر الآي المحكمات، والتعدي على حقوق الأرقاء، قياسا على هذه الجزئية التي جاءت لمصلحة الرقيق قبل أي شيء آخر.
لقد لاحظ الباحث المغربي الدكتور عبد الإله بنمليح في دراسته لتاريخ الرق في المغرب والأندلس التعارض عند فقهائنا بين "صورة الرقيق الشيء وصورة الرقيق الإنسان" (بنمليح: الرق في بلاد المغرب والاندلس، ص 264). كما لاحظ غلبة الصورة الأولى على الثانية في كتب الفقه، حيث ساد "تشييء الرق" (ص 265) أي تحويله إلى "شيء"، بدلا من التعامل معه كبشر من لحم ودم ومشاعر. وهو ما انعكس على فهم الفقهاء للنص الشرعي، فأنتجوا "الفقه التمييزي" (ص273) الذي ورثناه عنهم. وأخيرا لاحظ بنمليح نزوع الفقه المغربي–الأندلسي (المالكي) إلى منحى القول بالملكية المطلقة للعبد، لا الملكية النسبية التي تحفظ عليه شيئا من إنسانيته.
وما لاحظه الباحث المغربي صحيح تماما. فقد تراوحت مكانة الرقيق في كتب الفقه المالكي بين مستويين:
أولهما: اعتباره شيئا متملكا، لا تمييز له عن الحيوان والأشياء. وقد ترددت تعبيرات الفقهاء المالكية الموحية بهذا المعنى، من مثل قول ابن رشد: "العبد مال من الأموال" (ابن رشد: البيان والتحصيل 15/502)، وقوله: "وأما العبد فلا دية له على مذهب مالك -رحمه الله- وإنما هو كسلعة من السلع، فعلى قاتله خطأ كان أو عمدا قيمته، بالغة ما بلغت في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئا" (ابن رشد: المقدمات، 3/296). ومنه قول اللخمي الذي نقله عنه ابن رحال: "الحيوان على اختلاف الأجناس من عبد وفرس وشاة..." (ابن رحال: كشف القناع في تضمين الصناع، ص 121).
وثانيهما: اعتباره نصف إنسان، أو "حيوانا عاقلا" يستحق معاملة أفضل من معاملة الأشياء والحيوانات، لكنه ناقص الإنسانية، وليس له من أمره شيء. وقد جاء خلاف الفقهاء في جراحات العبيد كاشفة عن هذه النظرة. قال ابن رشد: "وأما جراح العبد فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أن على جارحه ما نقصه من غير تفصيل، قياسا على العروض والحيوان. والثاني: أن جراحاته في قيمته كجراحات الحر في ديته قياسا على الحر. وقال الشافعي: قياس العبد على الحر أولى من قياسه على الحيوان والسلع، لأنه حيوان عاقل مكلف، ليس كالحيوان والسلع." (ابن رشد: المقدمات، 3/297).
وفي الصراع بين مفهوم الملكية المطلقة التي لا تدع للعبد هامش تصرف في نفسه وماله، والملكية النسبية التي تترك له هامش تصرف ينفق منه على نفسه وأسرته ويفتدي نفسه مكاتبةً، نحا الفقه المالكي منحى الملكية المطلقة. وقد تحدث القرطبي عن رأي المالكية في هذا باعتزاز، فقال: "ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد" (تفسير القرطبي 2/241). وهكذا جرد فقهاؤنا العبد من حق تملك المال، رغم أن أكثرهم ألزموه بالإنفاق على زوجته وإكسائها في الليل على الأقل (ميز بعض الفقهاء بين النفقة والكسوة في اليل والنهار، فهما على الزوج المملوك في الليل، وعلى السيد المالك في النهار)!!
وقد تفنن الفقهاء في الحديث عن عيوب العبيد والإماء الخلقية والخلُقية مراعاة لمصلحة السيد، حتى أوصل الونشريسي هذه العيوب إلى أكثر من ستين عيبا، كما تفننوا في الحديث عن عيوب الجواري وأوصافهن الجسدية التي قد تؤثر على قيمتهن في نظر المالك، فمنهن الفقْماء والفوْهاء والقنْواء والشمَّاء والفطْساء..الخ لكن هذا الاهتمام لم يصحبه ما يناسبه من اهتمام بالمعاناة الإنسانية التي يعيشها العبد والأمة، وما يواجهه كلاهما من إهدار لإنسانيته وكرامته تحت غطاء فقهي شفاف انبتَّ عن مصادر الوحي ومعانيه الإنسانية، وأهدر نصوص القرآن الكريم أمام الأعراف الاجتماعية.
وتحت وطأة هذه الثقافة الفقهية المتحيزة للسادة منع الفقهاء العبد من الحج –خامس أركان الإسلام- إلا بإذن السيد، رغم عموم النص القرآني: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (سورة آل عمران، الآية، 97). وليت ما فعله الفقهاء هنا كان إعفاء لا منعا، فيكون رخصة لصالح العبد، تراعي حاله البائسة، وتعترف بالقيود المفروضة عليه. لكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما جاء قولهم مراعاة لحق السيد في الخدمة. وقد صرح بذلك القرطبي فقال: "قال أصحابنا [المالكية]: لا تجب عليه [أي على العبد] عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك" (تفسير القرطبي 10/147) وهو ما يعني عمليا ترجيح العبودية على العبادة!! وكأن خدمة السيد خمسة أيام أهم من أداء حجة الإسلام المفروضة، أو خدمته ساعتين أهم من عمرة مبرورة.
وهكذا منع الفقهاء العبد القادر على الحج من الحج بغير إذن السيد. فإذا تجرأ العبد وقدم حق الخالق على حق المخلوق ثم "أحرم [بالحج] بغير إذن سيده، فالسيد بالخيار في فسخ إحرامه أو تركه" (ابن عبد البر: الكافي 1/412). بل عدَّ بعض المالكية الإحرام عيبا من عيوب البيع في العبد والأمة، ففي المدونة: "قلت [القائل سحنون]: أرأيت إن باع عبده أو أمته وهما مُحْرمان، أيجوز بيعهما أم لا؟ قال [القائل ابن القاسم]: نعم في قول مالك يجوز بيعه إياهما، وليس للذي اشتراهما أن يُحلَّهما، ويكونان على إحرامهما. قلت: فإن لم يعلم بإحرامهما أتراه عيبا يردهما به إن أحب؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأراه عيبا يردهما به إن لم يكن أعلمه بإحرامهما، إلا أن يكون ذلك قريبا" (المدونة، 1/490).
وإمعانا في التحيز –الشعوري واللاشعوري- للسيد المسيطر على حساب العبد الذي أمر القرآن بعتقه، وحضت السنة على إكرامه، منح الفقهاء السيد حق منع عبيده وإمائه من الزواج، في مناقضة عجيبة لقول الله عز وجل: "وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ" (سورة النور، الآية 32). قال ابن جزي: "ولا يُجبر السيد على إنكاح العبد" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 133). ورغم أن الآية أمر صريح بمساعتدهم في الزواج، لا بمجرد الإذن لهم في الزواج، فإن جمهور الفقهاء –بمن فيهم المالكية- حملوا الأمر هنا على الندب أو الإباحة، لا على الوجوب، فجعلوا معنى الآية أن السيد يجوز له الإذن لعبده في الزواج "وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم" (ابن عاشور: التحرير والتنوير 18/215). ومن أسوإ أنواع الاستدلال استدلال بعض الفقهاء على حق السيد في منع عبده من الزواج بقوله تعالى: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" (سورة النحل، الآية 75) رغم أن السياق القرآني جاء ذاما لهذه الحالة لا مقرا لها، كما أن الآية تندرج ضمن الخطاب الخبري القدري، لا الشرعي التكليفي.
كل هذا حرصا على عدم إنقاص قيمة العبد المالية. هكذا فسر القرافي الأمر بالقول: "ووجه تعلق حق السيد أن زواج العبد يُنقص الرغبات فيه، لتعذر نقْلته من بلده، لتعلقه بامرأته وذريته، وصرف كسبه لهم سرا وعلانية، وليس له أن ينقص مال سيده بتنقيص ماليته [أي قيمته المالية]" (القرافي: الذخيرة، 4/204). وهذا يدل على أن قول القرطبي: "والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد هو يراها ويقيمها" (تفسير القرطبي 12/241) إحسان للظن بالسادة في غير محله: فمصلحة العبد مناقضة لمصلحة السيد هنا، بل الأصل أن تكون مناقضة لها دائما. وإذا تحدى العبد إرادة السيد وتزوج على سنة الله ورسوله طلبا للعفاف كما يفعل كل المسلمين، فإن للدسوقي رأيا خاصا في ذلك، وهو أن هذا الزواج "وإن كان صحيحا إلا أنه غير مبيح للوطء، لأن للسيد الخيار [في إقراره أو فسخه]" (حاشية الدسوقي، 2/215).
وحتى العبد المكاتَب الذي يعتبر حرا أو على طريق الحرية على الأقل، فقد منعه الفقهاء من الزواج دون إذن السيد. وكما جعل الفقهاء الإحرام عيبا في العبد جعلوا زواجه عيبا أيضا، لأنه في نظرهم ينقص من قيمته المالية!! فقد ورد في المدونة: ”قلت [سحنون]: أريت إن تزوج المكاتب امرأة بغير إذن سيده رجاء الفضل، أترى النكاح جائزا؟ قال [ابن القاسم]: لا يجوز، لأنه إن عجز رجع إلى السيد معيبا، لأن تزويج العبد عيب" (المدونة 2/138). ثم جعلوا من حق السيد مصادرة وتملك الصداق الذي دفعه العبد في زواجه ذاك: "قلت [سحنون]: أريت العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فنقد مهرا، أيكون للسيد أن يأخذ جميع ذلك في قول مالك؟ قال [ابن القاسم]: نعم" (المدونة 2/133).
وجعل جمهور الفقهاء صداق الأمة ملكا لسيدها، رغم صريح القرآن الكريم في إيتائها صداقها، حيث قال تعالى عن تزويج الإماء: "فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (سورة النساء، 25). وتسامح بعضهم مع الأمة فترك لها ربع دينار من صداقها. قال القرافي: "وللسيد أخذ صداق الأمة إلا ربع دينار، لأنه حق الله تعالى" (القرافي: الذخيرة، 4/240) وهو تفصيل عجيب. وأعجب منه قول الخرشي: "إن السيد إذا زوج أمته ثم قتلها، فإنه يُقضى له بأخذ صداقها من زوجها، بنى بها أم لا، ويتكمَّل عليه الصداق بالقتل، إذ لا يُتَّهم السيد في قتل أمته ليأخذ صداقها"!! (الخرشي: شرح مختصر خليل 3/223).
إن مشكلة الفقه المالكي –وكل الفقه الإسلامي- مع قضية الرق ترجع إلى تحدٍّ أخلاقي وإنساني واجه كل الحضارات، وهو توسيع فكرة الحقوق وتعميمها على الكافة، بدل احتكارها للخاصة، سواء كانت تلك الخاصة طبقة اجتماعية، أو جماعة دينية، أو مواطني بلد بعينه. لقد كانت لدى اليونان حقوق سياسية ومدنية واضحة، وإلى أثينا ترجع فكرة المواطنة كما نعرفها اليوم. لكن حقوق المواطَنة اليونانية لم تكن عامة، بل تم استثناء النساء والعبيد منها، إضافة إلى استثناء من دعاهم اليونان "برابرة" من الشعوب غير اليونانية. يقول المؤرخ وِل ديورانت: "هاهو ذا أفلاطون يندد باستعباد اليونان لليونان، ولكنه فيما عدا هذا يقر الاسترقاق بحجة أن لبعض الناس عقولاً غير ممتازة. وينظر أرسطو إلى العبد على أنه آلة بشرية." (ديورَانت: قصة الحضارة، 7/67).
ومثل ذلك يقال في الامبراطورية الرومانية التي استثنت العبيد والفقراء والنساء من الحقوق السياسية، رغم أنها عممت تلك الحقوق بشكل أفضل مما فعله اليونان، فشملت العوام والشعوب الخاضعة، بل كل الأحرار داخل الامبراطورية الرومانية. على أن الرومان لم يعمموا المواطنة بمعنى حق المشاركة السياسية، وإنما المواطنة بمعنى حق الحماية، فجعلوا شعوبا كثيرة ضمن رعاياهم، دون أن يكون لهذه الشعوب قول في النظام السياسي الذي يحكمهم من روما.
ولدينا في الاستعمار الحديث أعظم عبرة: حيث صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من باريس في وقت كانت فرنسا فيه تحتل بلادا شاسعة، وتستعبد شعوبا كثيرة في إفريقيا. ومثل ذلك يقال عن الازدواجية التي تطبع علاقة أميركا بالشعوب الإسلامية اليوم. وقد عبر لي الدكتور روبرت كرين –وهو أكاديمي أميركي مسلم- عن ذلك تعبيرا بليغا فقال: "إن الناس في العالم الإسلامي يظنون أن أميركا لا تؤمن بحقوق الإنسان. الحقيقة أن أميركا تؤمن بحقوق الإنسان، لكن لديها مشكلة في تعريف الإنسان". وهو يقصد أن ليس كل البشر داخلون في مفهوم الإنسان في العرف الأميركي.
وقد شابت الفقهَ الإسلامي شوائبُ من هذه الازدواجية والمثنوية في النظرة إلى حقوق البشر وحرياتهم، فظهر فيه تأثر بهذا المنزع لدى الخاصة في احتكار الحقوق دون العامة، سواء كانت حقوقا سياسية أو حقوقا اجتماعية. ويتبين عند التمحيص أن هذه الشوائب متسربة من أعراف المجتمع وتحيز بعضه ضد بعض، وليست مستمدة من صريح الوحي الذي أنزله الله تعالى ليقوم الناس بالقسط. وتزداد هذه الازدواجية في الفقه كلما ابتعدت بوصلته عن النص القرآني في قضية الحرية عموما، سواء كانت حرية سياسية تتعلق بحق الأمة باختيار قادتها ومحاسبتهم وعزلهم، أو الحرية الاجتماعية، وأهمها التحرر من تملك الإنسان لرقبة أخيه الإنسان، وهدر إنسانيته بالتحكم في حياته.
واقرأ مثلا قول رجل من أبرز رجال علم الأصول والفقه الشافعي -هو إمام الحرمين الجويني- في موضوع الحرية السياسة: "ما نعلمه قطعا أن النسوة لا مدخل لهنّ في تخيّر الإمام وعقد الإمامة... وكذلك لا يُناط هذا الأمر بالعبيد وإن حازوا قصب السبق في العلوم، ولا تعلق له بالعوام الذين لا يعدون من العلماء وذوي الأحلام، ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة. فخروج هؤلاء عن منصب أهل الحل والعقد ليس به خفاء." (الجويني، غياث الأمم في التياث الظُّلَم 1/49). فما الذي بقي من الأمة للقيام بواجب الشورى الذي وردت النصوص به عامة مطلقة؟! وذهب أحد أعلام المالكية وهو القاضي أبو بكر بن العربي إلى أخطر من هذا في ميدان الحقوق السياسية، حينما ذهب إلى أن "واحدا أو اثنين تنعقد بهما الخلافة وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعا" (ابن العربي: العواصم من القواصم، ص 148).
ليس من ريب أن هذا الفقه الذي لا يعرف معنىً لتعميم الحقوق والحريات قد ابتعد أشواطا عن روح القرآن وما تحمله من عدل وحرية ومساواة بين البشر، وأنه أعان –بحسن نية- على إهدار دماء معصومة واستحلال أموال محرمة. وصيانة دماء الناس وأموالهم وأعراضهم من أصول الأحكام لا من فروعها، بل هي أصل الأصول ومقصد الشرع. وما أجدر من يستفزهم انتقاد فهوم الفقهاء في هذا الشأن أن يأخذوا بنصيحة الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي: "لا ينبغي أن تسمع من معَظَّم في النفوس شيئًا في الأصول فتقلده فيه، ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة، فقل: هذا من الراوي؛ لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه. فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلَّد في الأصول لا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. فهذا أصل يجب البناء عليه، فلا يهولنَّك ذكر مُعظَّم في النفوس." (ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص 134 منقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــول


 
 توقيع : عبادي السوقي

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 08-28-2012, 11:16 AM   #4
مشرف منتدى الحوار الهادف


أبوعبدالله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 8
 تاريخ التسجيل :  Dec 2008
 أخر زيارة : 10-28-2024 (10:35 AM)
 المشاركات : 1,680 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: قصة العبودية في كتب المالكية ,,



موضوع يستحق أن نلتفت إليه ونمعن النظر فيه فالعادات الإجتماعية تكاد أن تكون متطابقة بين الموريتانين والأزواد ين لذى يجب علينا أن نهتم بمثل هذه الدراسات القيمة, تحياتي وتقديري لأخي الأستاذ عبادي السوقي ولكل أعضاء المنتدى وكل عام وأنتم بخير .


 
 توقيع : أبوعبدالله

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 08-30-2012, 05:03 PM   #5


إبن المدينه غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2552
 تاريخ التسجيل :  Jul 2010
 أخر زيارة : 09-05-2012 (01:10 PM)
 المشاركات : 359 [ + ]
 التقييم :  12
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: قصة العبودية في كتب المالكية ,,



بارك الله فيك فعلا موضوع مهم جدا ورائع دمت ودام عطاءك اخي عبادي


 
 توقيع : إبن المدينه

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع