|
المنتدى التاريخي منتدى يهتم بتاريخ إقليم أزواد . |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
"أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
نبدأ اليوم نشر مجموعة مقالات بعنوان "أوراق" عن أژواد، وقضيته التي تعتبر أهم تطورات الساعة، التي لها تأثير كبير على موريتانيا والإقليم. بقلم محمد محمود ودادي، كاتب ودبلوماسي سابق
(1) جمهورية مالي استقلت باسم اتحاد مالي في 20 يونيه 1960 ثم أعلن الاستقلال من جديد في 20 شتنبر 1960 بعد الانفصال عن سنغال. تبلغ مساحتها 1240190 كلم 2 ( منها 822000 كلم2 في أژواد) وسكانها حوالي 11 مليون نسمة (منهم مليونان في أژواد)، هذه الدولة وريثة جزء كبير من إمبراطورية غانة، التي تأسست في القرنين 4و5 م في موريتانيا وعاصمتها كومبي صالح، قبل أن تسقط في أيدي المرابطين في القرن 11م، وهي أيضا وريثة إمبراطورية ملّي (مالي) (القرن14) قبل سقوطها على يد إمبراطورية صونغاي (القرن 15) ثم دمر دمر هذه الغزو المغربي (نهاية القرن 16). أژواد، تحده من الشمال الجزائر ومن الشرق النيجر ومن الجنوب والجنوب الغربي نهر النيجر، وأراضي مالي، ومن الغرب موريتانيا. ومدنه الرئسية: ڴاوو (العاصمة) تنبكتو (العاصمة الثقافية) كيدال، والثلاث هي عواصم الولايات التي يتشكل منها الإقليم اليوم حسب التقسيم الإداري لجمهورية مالي. واسم الإقليم أمازيغي، ربما مشتق من اسم نهر "زواد" الناضب، ويطلق أژواد على القسم المالي من الصحراء الكبرى، وأزواڴ على الجزء النيجري بما فيه حواضر طاوه وأڴادس. وتسكن الإقليم مجموعات الطوارق المنتشرون في كل الإقليم، إضافة إلى العرب ، وهم أساسا البرابيش في الغرب، وكنته في الوسط والجنوب، والصونغاي والفلان في الجنوب والجنوب الغربي، ويتحدث هؤلاء خمس لغات هي تماشق (الطوارق) الحسانية (العرب) الصونغائية أو كوروبورو (الصنونغاي) الفلانية ( إفلان). أما الموارد فظلت على مدى التاريخ تربية الماشية التي اضمحلت في العقود الماضية بسبب الجفاف والحروب، التي أجبرت أعدادا كبيرة من السكان على الهجرة. ويوجد مخزون نفطي غير محدد الحجم، كما يوجد أورانيوم ومجموعة من المعادن المختلفة، لكنها غير مستغلة. ويعتمد السكان المجاورون للنهر في رأس الماء والعقفة وفي ضفته اليمنى في ڴورمه على زراعة القليل من أنواع الذرة والخضروات، والصيد النهري، لمن سكان المراكز الصحراوية يعتمدون أساسا على ما يبعثه أبناؤهم من الخارج وعلى موارد التهريب، الذي تمتهنه مجموعات جعلت من الإقليم معبرا أيضا لتجارة المخدرات، التي تدر عليهم موارد كبيرة. لمحة تاريخية يُجمع المؤرخون على أن أول من أقام مدينة ڴاوو ثم تينبكتو هم قبائل لمطه وبعض من لمتونة، وقبيلة تارڴه، ومن هذه المجموعات يتألف شعب أژواد الأمازيغي، الذي تعرب البعض منه ليصبح في عداد القبائل المستعربه مثل كلنصر الغربيين، وبعض المجموعات في كنته والبرابيش. أما الهجرة العربية الحديثة فكانت في نهاية القرن 15 على أيدي البرابيش القادمين من شمال موريتانيا عن طريق آدرار والظهر، وهم في أغلبيتهم من قبائل بني حسان، حيث تنحدر الأرومة الرئيسية من حمُّ بن حسان، وعبد الرحمن بن حسان (الرحامنه). وتبعهم الكنتيون في سنة 1130هـ 1717م انطلاقا من الساقية الحمراء، عبر تْوات والحنك وأرڴشاش. تحدث الرحالة والإخباريون عن أژواد في بداية القرن 14م كإقليم يتمتع بحكم ذاتي تابع مع صحرائه لإمبراطورية مالي، لكنها فقدت السيادة عليه في حدود 1433م؛ وفي عام 1591 احتل سلطان المغرب أحمد الذهبي الإقليم وحواضره بعد أن قضى على إمبراطورية الصونغاي المسلمة؛ ومن ذلك التاريخ لم يخضع أژواد لسيطرة مركزية منتظمة حتى وصول الاستعمار الفرنسي عام 1893، والذي حيث جوبه بمقاومة شديدة من الطوارق والعرب.. موريتانيا وأژواد ظل شعب البيظان على طول تاريخه يعتبر أژواد امتدادا له، فقبل دخول الإسلام كان موطنا لقبائل البربر التي يعود إليها سكانه من التوارق، وبعض أطراف صنهاجة، التي ينتمي إلى فروعها المختلفة غالبية سكان غرب الصحراء وشمالها، ومع دخول الإسلام وانتشاره، انتمت أژواد أو أطراف واسعة منها لدولة الإسلام الكبرى "المرابطون" في الطرف الغربي، فانضوت قبائل هذه المنطقة الشاسعة، تحت لواء الإسلام، وازداد التمازج بين أبنائها، ووقعت الهجرات المتبادلة، فشرّق البعض وغرَب الآخر، لنرى في موريتانيا الحالية أقواما من أصول تارقية أژوادية، وأخرى لمتونية في الشرق. ثم جاء الانتشار العربي في الصحراء الكبرى، ليعم كل أجزائها حتى أژواد، وتزداد الروابط قوة، ويتعزز التواصل، الذي بلغ أوجه بعلاقات حواضر موريتانيا القديمة بقواعد أژواد الكبرى. هذه العوامل، وغيرُها جعلت من أژواد وموريتانيا صنوان، يكمل أحدهما الآخر، على طول المساحة الشاسعة التي يحتلانها في الصحراء والغرب الإفريقيين؛ وحتى في عصور غياب الدولة المركزية، ظلت العلاقات قائمة، بل نشطة بين الطرفين، ترجح كفتُها أحيانا لأژواد، خاصة بعدما تدهورت أوضاع مدن القوافل الغربية: ودان وشينقط وتيشيت وولاته لصالح تنبكتو وڴاوو، الأژواديتين، إذ أصبحت الأولى أشهر حاضرة إسلامية في الصحراء الكبرى وجوارها، بفضل مدارسها وعلمائها الأجلاء الذين كان من أشهرهم أحمد بابا بن محمد إقيت الصنهاجي، الذي انتشر صيته حتى بلغ الشمال الإفريقي، أيام محنته، عند سقوط دولة السونغاي في مستهل القرن 11 هـ (نهاية القرن 16م). ثم جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان (18و19م) لتختطف أژواد الأضواء من جديد بظهور الشيخ سيدي المختار الكبير، وخلفائه، الذين صاروا قبلة للبيظان عامة، وللطامحين إلى الارتواء من العلم، وهديه في الغرب الإسلامي، حتى تشاد شرقا والمحيط الأطلسي غربا، ومن أدغال جنوب الصحراء جنوبا إلى تخوم الجزائر والمغرب شمالا، مما أعاد لهذا الحيز إشعاعه الثقافي والديني، وعزز اللحمة بين الصنوين الشرقي والغربي، فحُفرت أژواد في الذاكرة الجمعية، كامتداد لثقافة البيظان وجزء من تاريخهم. يتواصل...
|
06-24-2012, 07:33 PM | #2 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
الحلقة الثانية /
كانت أزواد إلى جانب إشعاعها العلمي، مصدرا لأهم بضاعة تجارية في القرون الوسطى، وحتى نهايات القرن العشرين، باحتضان طرفها الشمالي الغربي لمعادن الملح في تغازة، ثم تاودني، وأجزائها الغربية لمعدن الذهب و كذلك الخرز" الحب الحر" المرغوب في الحيز الصحراوي والذي هو بقايا من حلي مواطني الحضارات القديمة حافظ على بريقه بفضل طمر الرمال، ويشكل حتى اليوم مصدرا مهما للتجارة البينية. واعترى هذه المكانة على امتداد القرون الأربعة الأخيرة مد وجزر، ارتبط بمآلات نهر النيجر، ومراكزه المؤثرة مثل ڴاو وتنبكتو وڴُندام حتى موبتي وچنى، فينزل استقرارها بردا وسلاما على الإقليم، والعكس صحيح. وقد شهد القرن التاسع عشر على الخصوص موجات اضطراب، بعد اضمحلال حكم الرماة شبه المركزي في تنبكتو، مما أدى إلى ظهور زعامات محلية دينية وسياسية، كان آخرها دولة ماسينا الفلاّنية بقيادة شيخُ أحمُد، التي بسطت سلطتها على عقفة النهر حتى تنبكتو، بمباركة زعماء الحضرة الكنتية وعلى رأسهم الشيخ سيدي البكاي بن الشيخ سيدي محمد، إلى أن أسقطها خلفاء الحاج عمر، قبل تعرض الإقليم كله للاحتلال الفرنسي، ليبدأ القهر الحضاري والاستلاب والثقافي. وقد استخدم المحتلون القوة العسكرية المفرطة ضد المقاومة مما أدى إلى معاناة شديدة من أخطرها التشرد في المناطق المجاورة مثل النيجر قبل احتلاله، وتشاد وتونس وليبيا، حيث تجاوز المهاجرون الجزائر الخاضعة للقبضة الفرنسية الحديدية، وهكذا عانى أزواد أكثر مما عانت جل المناطق المماثلة، عقابا على مقاومة شرائح كثيرة منه، بقيادة زعمائه من التوارق والعرب، الذين امتشقوا السيف والبندقية ثلاثين سنة، فخلدوا الشجاعة والإيباء الذي عُرف عن أجدادهم الملثمين في الصحراء وفي فتوحات المرابطين في الغرب والشمال الإفريقي والأندلس، فكانوا نبراسا للأحفاد يضيء طريق مقاومتهم الدينية والثقافية، كما في الصنو الغربي: موريتانيا. ومع عشرينات القرن الماضي عاد معظم المهّجرين إلى وطنهم، واستأنفوا حياتهم الطبيعية، وأنشطتهم التقليدية في الرعي والتجارة، خاصة منها البضاعة التي خبروها طوال قرون وهي الملح، الذي يعتمد عليه سكان جنوب النهر حتى كوت ديفوار، واستعادوا مجالات ترحالهم التاريخية، يدخلون - دون أوراق أو مراقبة - الجزائر والنيجر وموريتانيا، ويقطعون النهر إلى فلتا العليا (بوركينا فاصو) وكوت ديفوار للتزود بحاجاتهم من الغذاء والمواد الزراعية والأقمشة، ليعودوا إلى عزلتهم في صحرائهم، هروبا بدينهم من المحتل القابع في المدن والمراكز الحضرية، والذي لا يعنيه من أمر البدو إلا ما يتصل بضرورات أمنه، واستيفاء إتاواته عن الماشية والتجارة، لا يدركون ما يبيّت من خطط حول مستقبلهم؛ باستثناء أفراد من التجار والوجهاء ممن توكل إليهم مهمة تسوية مشاكلهم في المراكز الحضرية، التي تعدّ على رؤوس الأصابع؛ حيث توجد إدارة لا يعرفون لغتها الفرنسية، ولا يشتركون مع أهلها في الكثير من العادات والتقاليد، رغم التعايش ضمن الحيز الجغرافي المشترك، ووحدة الدين. وعندما حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها بدأت الدول الأوروبية تعيد النظر في مستقبل علاقاتها مع مستعمراتها، لضرورات إستراتيجية مرتبطة بالتحولات التي يشهدها العالم، ولصيانة مصالحها وضمان مكانتها، فأعادت النظر في وضع المستعمرات، فألغت بعضها وضمته لأخرى، وقلصت من حجم البعض لصالح الآخر، وفي كل ذلك ارتكبت أخطاء فادحة، منها عدم مراعاة الأبعاد الجغرافية والإنسانية (الدين والثقافة) ولا الموارد التي يمكنها أن تضمن البقاء لهذه الكيانات، مما جعل العديد منها مصطنعا، ما لبث أن أصبح مصدرا دائما للاضطرابات والفتن، تدارك الاستعمار بعضه في الجزء الغربي من تراب البيظان – في الأربعينات - بالتراجع عن ضم الحوض للسودان وإعادة أجزاء كبيرة منه لأصله وفرعه موريتانيا. وفي خضم هذه التطورات بدأ الوعي يتسرب إلى النخبة من الشيوخ والوجهاء والتجار في أزواد، ومعه إدراك واقعهم كجزء من مستعمرة السودان، التي لم تعد تضم إقليم الحوض، الذي كان "يوسّع" عليهم، فأصبحوا أقلية لا وزن لها أمام الهيمنة الكاسحة لسكان الجنوب والغرب من الَكْور، الذين كان الاستعمار قد بذل جهوده لعزلهم عن إرثهم الحضاري والثقافي، بحربه على اللغة العربية والحرف العربي الذي كان سائدا في القارة السمراء بأسرها وعلى الخصوص في الغرب الإفريقي، تكتب به أكثر من 30 لغة، منها اللغات الرئيسية كالفلانية والماندينڴية والهوساتية والزرماتية والسواحيلية واليوروباوية لتكون العربية رابطا بين الناطقين بهذه اللغات، وبينهم والمسلمين كافة، فكانت تلك أولى التحديات الذي جاء الاستعمار لرفعها، ولم يغادر إلا بعد أن انتصر فيها وغرق الناس في بحر من التنافر، أذكى الصراعات المتصاعدة. وقد عبر الوجهاء الأزواديون بما يملكون من جهد عن قلقهم على مستقبلهم للإدارة، التي كانت ما تزال تحت السيطرة المباشرة للفرنسيين، لكنهم كانوا غير مبالين كثيرا بما يصدر عن أفراد، لا تدعمهم تجمعات حضرية، ذات وزن ضاغط. وأقصى ما كانوا يفعلونه "طمأنتهم" "بأنهم سيظلون أحرارا في بواديهم، كما كانوا، ولن تكون لأحد بعد الفرنسيين سيطرة عليهم" (إشارة إلى حكام الكور)!. إلا أن تسارع المسيرة إلى الاستقلال والتمهيد لها بالحكم الذاتي، بدأ يرسخ الأمر الواقع، وهي كون أزواد فضاءً مكمّلا لمستعمرة السودان، التي يقع ثقلها في الغرب، حول أعالي نهري النيجر والسنغال، بحواضره التاريخية ذات الكثافة السكانية، والمصادر الزراعة والمائية، والتي حظي سكانها بالتمدرس والخدمات، وأصبحوا السادة الجدد، بيدهم الإدارة والجيش والثروة. بينما أهملت فرنسا طوال احتلالها أزواد، رغم موقعه الاستراتيجي وثرواته المعدنية والنفطية والغازية، وتميزه الثقافي بلغاته ونمط عيشه، مما يؤله ليتمتع بحكم إداري يضمن تسييرا ذاتيا، ضمن مستعمرة السودان (مالي). وعوضت عن ذلك بإطلاق بارقة "أمل" بثتها في السكان سنة 1957، مرتبطة بخططها لوقف حرب التحرير الجزائرية، الذي تفتَقت عنه عبقرية ساستها وهو مشروع يقسّم الجزائر إلى شطرين: الشاطئ والوسط، حيث الكثافة السكانية، والجنوب والشرق، فتَمنح للأول الاستقلال، ويبقي الآخر تحت الحكم الفرنسي، بواسطة كيان جديد سمته "المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية" o.c.r.s.) ) تضم غالبية مساحة الصحراء الجزائرية، بمدنها الكبرى مثل بشار وتندوف، وحقول النفط ومناطق التجارب الذرية، والأراضي المأهولة بالطوارق والعرب في النيجر (طاوه وأزواڴ) ومالي (أزواد مع ريف مدينتي تنبكتو وڴاوو) ومواطن التوبُّو والقُرعان في شمال تشاد (جميع مقاطعة بلتيم، ومثلث بوركو – أنّدي- تيبستي) (قانون 10 يناير 1958) وعينت للكيان الجديد إدارة تنفيذية ومجلسا استشاريا، وتركت الباب مشرّعا للدول والمنظمات التي تريد التعاون مع الكيان الوليد؛ الذي سوقته للطوارق والتوبُّو والعرب، الذين يشكلون أقليات في مستعمراتها ذات الغالبية الْكَوْرية، فوجدت لدى الكثيرين من زعمائهم آذانا صاغية، على أمل أن يستعيدوا حقوقهم ومكانتهم التي فقدوها، في ظل الاستعمار؛ لكن الثوار الجزائريين رفضوا أي مساس بأرضهم، كما عارضه المختار بن داداه، وموديبو كيتا رئيس مالي، لكونه سيقتطع منه أزواد، أما رئيس النيجر هامني چوري وفرانصوا تنبلباي في تشاد، فقد انحنيا حتى تمر العاصفة، لأنهما لا يريدان إغضاب الجنرال دڴول، هذا في وقت أيدت المشروع دول في المغرب العربي وغرب إفريقيا أو تعاطفت معه، انطلاقا من حسابات ذاتية، لكن ذلك لم يَحلْ دون موت المشروع نهائيا (قانون تصفيته 26 مايه سنة 1963.). وهكذا خاب الأمل الذي علّقه زعماء أزواد على المشروع، ولم تفلح محاولاتهم في ثني المختار بن داداه عن موقفه، الذي اعتبروه تقصيرا في حق شعب أزواد من صنوه المعوّل عليه، ولم تقنعهم حجة رئيس حكومة الاستقلال الداخلي الموريتانية بـ "أنه لن يؤيد محاولة فرنسا طعن الثورة الجزائرية من الخلف بإجهاض مشروعها عبر اقتطاع أجزاء من أرضها" في وقت يكاد الجزائريون يرون بالعين دولتهم الحرة تطل على العالم من الباب الواسع، بصحرائها وثرواتها؛ بينما بقي بصيص أمل وهو انضمام أزواد لموريتانيا، قبل أن يعلن استقلاها واستقلال مالي، وتعزز الأمل بتصريحات المختار باعتبار "أزواد والصحراء الغربية جناحي موريتانيا" (خطاب أطار 1957) التي استهجنها الفرنسيون والإسبان، وأغضبت موديبو كيتا وجعلته ينضم إلى المعسكر المناوئ لاستقلال موريتانيا، فاحتضن "جيش تحرير موريتانيا" في باماكو، وصوتَ ضد دخولها الأمم المتحدة؛ واستمر يضغط بكل الوسائل على نواكشوط، خاصة بترسيم الحدود المتداخلة بين الدولتين، التي تركها الاستعمار في وضع غامض كالعادة؛ حتى قبل المختار في قمة خاَيْ مع موديبُو معظم مطالبه، مدركا أن لا قبل له بمواجهة جاريْه الشمالي والجنوبي في آن واحد؛ وانكفأت موريتانيا على ذاتها تصارع من أجل البقاء، محتمية باعتراف ومؤازرة غالبية الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية، (وتونس من المغرب العربي) ثم بمنظمة الوحدة الإفريقية التي جعلت من احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، قضية مقدسة. واتضح أن الدعوة إلى الوحدة مع أزواد لم تكن إلا تعبيرا عن فورة عاطفية لزعيم دولة البيظان الغارقين في أحلامهم بإعادة أمجادهم في مجالهم الجغرافي والثقافي، حتى ولو كان دون تحقيقها آنذاك خرط القتاد. يتواصل |
|
07-15-2012, 08:46 PM | #3 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
أوراق عن أژواد (3) النهج الاشتراكي: رفض في مالي وثورة في أزواد/ محمد محمود ودادي
الأحد, 01 تموز/يوليو 2012 07:51 في 4 إبريل 1959 حدث تطور مهم هو قيام اتحاد باسم مالي بين سنغال والسودان وحدهما، بينما كان الطموح ضم مستعمرات فرنسا في الغرب الإفريقي، التي قبل البعض من زعمائها الفكرة في مؤتمر بماكو من العام نفسه، كفلتا العليا وداهومى، بينما رفضتها موريتانيا لأسباب وجيهة، تتعلق بتركيبتها السكانية وموقعها الجغرافي الذي يحتم عليها مراعاة التوازن في علاقاتها بشمال إفريقيا وغربها، وهو المنطق الذي أقنع به المختار بن داداه حليفه وصديقه سيد المختار بن يحيى انچاي، مما جر عليه غضب قادة الدولة الجديدة. أما هوفويت بوانيى فكان ضد الفكرة أصلا، مما حدا بواغدڴو وكوتونو إلى التراجع باكرا عن موقفيهما، ويكونان مع أبدجان ونيامى مجموعة دول الوفاق. وقد أعلن استقلال الدولة الجديدة في 20 يونيه 1960، لكن عقدها أنفرط أقل من شهرين بعد ذلك، وأعلنت سنغال الانفصال، وأبعدت موديبو كيتا بطريقة مذلة، وكذلك الوزراء السودانيين في الحكومة الاتحادية والضباط وكبار الموظفين بالقطار إلى بماكو، يوم 21 أغشت، ثم يعلن استقلال السودان من جديد في 20 شتنبر 1960، باسم مالي. لم يكن في أژواد أي أثر للاحتفال بهذه المناسبة، لأن الغالبية تعيش في عالمها المنعزل، أما القلة المتابعة للأحداث من الوجهاء فكان صدمة لهم، لأنهم كانوا يتوقعون إقامة المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية التي مُنّوا بالانضمام إليها والانفصال عن السودان، لتتحقق مطالبهم الوطنية في دولة خاصة بطوارق الصحراء الكبرى والمجموعات المهمشة ذات الأصول الأمازيغية في شمال تشاد. موديبو كيتا يستعرض شباب الحزب ومما يؤكد الاتهامات لفرنسا بأن مشروعها بتكوين موطن للأقليات الأمازيغية في الصحراء لم يكن إلا للإبقاء على الجزء الأكبر من الجزائر، كونها لم تحرك ساكنا خلال فترة الاحتلال، لتنصف تلك الأقليات وتعتني بأقاليمها التي تشكل أحيانا مساحاتها الجغرافية أغلبية أراضي الدول المعنية كأژواد، الذي ظل مربوطا بالسودان، لا يتمتع بما للأقاليم الأخرى من حظوة في التنمية والخدمات، ولا هو إقليم متميز بحكم إداري يضمن له تسيير شؤونه الذاتية، ويراعي خصوصياته الجغرافية والثقافية ونمط عيشه، ويعتني بتنمية موارده. وفور قيام الدولة الجديدة تنمرت على أهل أژواد، في سعي واضح لتقتل في وجدانهم أي أمل في التميز عن بقية أقاليمها؛ فشددت قبضتها على الأرض والسكان، واستهدفت خصوصيتهم الثقافية، فشرعت في محاربة اللغة العربية، بمنع أي دعم حكومي لتعليمها في المدارس الرسمية، وضايقت المدارس الأهلية من كتاتيب ومحاظر، حتى التي تتمتع بشهرة إقليمية في جوامع ومساجد تنبكتو وڴاوو، أو في المراكز والبوادي، وبذلك كانت الحارس الأمين لمشروع فرنسا بالقضاء على اللغة العربية والحرف العربي، الذي كان أحد ركائز السياسة الفرنسية في مستعمراتها، وكان ذلك سببا رئيسيا في التنافر بين السكان والأجناس الذين وحدهم على مدى التاريخ الإسلام واللغة العربية وحرفها. وقد ألغت السلطات الرسمية اسم أژواد من الأدبيات الإدارية والسياسية، ووزعت الإقليم إلى ولايتين ثم ثلاث، أسماؤها أرقام متسلسلة. ثم جاء تطبيق القرارات التي اتخذها المؤتمر الطارئ لحزب الاتحاد السوداني الحاكم نهاية 1960 باعتماد الاشتراكية نهجا سياسيا، فتشكلت فورا شركات عمومية تسيطر على الاقتصاد والتجارة، فهيمنت الدولة على كل الأنشطة الاقتصادية من زراعة وتجارة وتنمية ماشية. وشرعت في تطبيق ذلك على البدو الرحل، فعبأت موظفي الإدارة المحلية وشباب الحزب لجمع مخيماتهم في أماكن قريبة من المراكز الحضرية، لتسجل في دواوينها المواشي وملاكها، بعد أن كان الأمر في العهد الفرنسي مجرد إقرار المالك بجزء يسير من مواشيه، يدفع عنه العشر، وتبع ذلك قرار أكثر غباءً، وهو إخضاع تجارة الماشية مع الدول المجاورة، وحتى مع بعض ولايات مالي الأخرى، لأذون خاصة، تحدد عددها ونوعها. وقد ظهرت على الفور معارضة بعض السياسيين والتجار والمزارعين لهذا النهج، ومن أبرزهم زعيما حزبين صغيرين يرأسهما اثنان من الزعماء السياسيين هما فيلي دابو سيسوكو، وحمادون ديكو، والتاجر قاسٌم تورى مما أدى بهم إلى الاعتقال، ثم الاغتيال، واشتد القمع مع اتساع المعارضة ليشمل التجار والمزارعين والمنمين، في مالي كلها، وكان لأژواد نصيبه، حيث تمت مضايقة تجار تنبكتو المنتشرين في المدن الرئيسية المالية، قبل أن تؤمم ممتلكاتهم أو تخضع للرقابة. وما أن حلت سنة 1963 حتى وصل أژواد ما حل بمالي الأخرى، من خنق للحريات السياسية والكساد الاقتصادي، وتدهور أوضاع البادية التي زادها حدة شح الأمطار الذي كان مقدمة لموجات الجفاف التي ضربت أژواد ومعظم مناطق الساحل والصحراء، مع تبخر مشروع المناطق الصحراوية نهائيا بعدما سكّن الخواطر فترة من الزمن، واستقلت دول الساحل ضمن حدودها الموروثة عن الاستعمار، وبسطت الجزائر سيادتها على صحرائها الشاسعة. وقد عبر عن حالة اليأس هذه بعض الزعماء الأژواديين الذين خاضوا معركة حصول أژواد على وضع سياسي وإداري يخرجه من محنته، ويضمن للسكان كل حقوقهم، معتبرين أن فرنسا قد خانتهم. وكان أبرز تلك الشخصيات محمد آعْلي بن الطاهر الأنصاري، وهو شخصية سياسية من الطراز الأول، ينتمي إلى قبيلة كلنصر، كرّس حياته لقضيته، فزار مع موريتانيا بعض الدول العربية، مثل الجزائر والمغرب وليبيا ومصر والسعودية، والتقى بزعمائها، مناشدا إياهم دعمه في حق أژواد في الخروج من قبضة الحكم المالي المتشدد، لكنه اصطدم بجدار من التحفظ والخوف لدى الأقربين، وجهل عرب المشرق بالقارة الإفريقية البعيدة عن مجالهم التقليدي كالسودان والحبشة وما جاورها. ونتيجة للحالة المأسوية في الإقليم انطلقت احتجاجات عديدة في المدن والبوادي شارك فيها شباب ورجال، فواجهتها السلطات بالقمع والاعتقال الذي لاقوا فيه أنواع التنكيل، ولم تجد شفاعة رؤساء القبائل والوجهاء، لإطلاق سراحهم بل نقلوا إلى سجن كيدال سيئ الصيت، ليجدوا أمامهم معتقلين من سياسيي مالي البارزين، المعارضين للنظام، فعم الغضب ربوع أژواد، واندلعت ثورة 1963 التي قادها الطوارق، وخاصة أبناء قبيلة إفوُقاس المعروفة بقوة الشكيمة ورفض الضيم، وكان أحد رموزها انتالّه آڴ الطاهر سليل إحدى أهم أسرهم، فسيطروا على حاميات معظم مناطق الشمال الشرقي ذات التضاريس الجغرافية الوعرة كآدرار إفوقاس، وتلك الموجودة في الشمال الغربي من بوجبيه نحو تاودني حتى الحدود الجزائرية. وقد لقيت الثورة تعاطفا كبيرا من جميع السكان من طوارق وعرب، فانضمت إليها أعداد مهمة من الشباب، وأنهكوا خلال أشهر قليلة القوات المالية، باعتمادهم تكتيكات حرب العصابات، التي أبدعوا فيها، معتمدين على معرفتهم الجيدة للأرض وتعاطف السكان بشتى طوائفهم. واعتبر موديبو كيتا أن هدف ثورة أژواد هو انفصال الإقليم، بدعم من الخارج، لأسباب عنصرية أو لزعزعة النظام، فاعتبر من واجبه سحقها بدون هوادة، مما جعل المؤرخين يعتبرونها أكثر قسوة من تلك التي شنها الفرنسيون على مجاهدي المنطقة إبان احتلالها في القرن 19. وعلى الفور عبّأ موارد البلاد المالية، وشكل كتيبة تضم الوحدات المقاتلة الأساسية التي تركتها فرنسا وعلى رأسها القوات المحمولة (المظلات) التي صارت أفضل كتيبة ضمن جيش الدولة الوليدة، وقد أبلت بلاء حسنا في الكونغو عندما أُرسلت إليه سنة 1961 ضمن قوات الأمم المتحدة، رغم أنها فشلت في حماية پاتريس لومومبا أحد قادة الاتجاه الثوري الاشتراكي الإفريقي، الذي ينتمي إليه موديبو كيتا. وقد تولى قيادة هذه القوة النقيب "بازاني" وهو ضابط شاب انخرط باكرا في قوات النخبة الفرنسية، وشارك سنوات عدة في حرب الجزائر ضد المجاهدين، حيث اعتبرته فرنسا من الأبطال ومنحته أرفع وسام للشجاعة، كما أنه يتمتع بخبرة كبيرة في القتال بالمناطق الجبلية والصحراوية مسرح تحركه الجديد؛ وقد اختار معه في قيادته مجموعة من الضباط وصف الضباط والجنود الذين خبرهم في القوات الفرنسية ثم في الكونغو، والذين لا يعصون له أمرا، وأُعْطي جميع الصلاحيات، بحيث لا يعود في قراراته إلى رئيس أركان الجيش ولا إلى وزير الدفاع، مما شكل سابقة قوبلت بتذمر من المؤسسة العسكرية. وكان أول قرار يتخذه القائد الجديد الذي تسمى بأسد الصحراء عزل المنطقة الشمالية التي تجري فيها العمليات بخط وهمي اعتبره أحمر، يلامس دشرة كيدال، ويمتد من الجنوب الشرقي حتى حدود النيجر، وفي الشمال الغربي حتى حدود الجزائر وموريتانيا، وأمر السكان الرحل بإخلاء هذا الحيز خلال شهرين، والاستقرار جنوبه؛ ودخل في معارك طاحنة مع الثوار الذين انتصروا عليه في معظم المعارك، مما جعله يلجأ إلى التكتيك الذي خبره في حرب الجزائر، وخاصة منه التنكيل بسكان المخيمات؛ والتعذيب الممنهج الذي فاق في قسوته – أحيانا - ما تعلمه النقيب في قوات المظلات الفرنسية مع البدو والمزارعين الجزائريين. وأدت به الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواته من جراء الكمائن، إلى ابتكار صنوف من العذاب لم تخطر ببال، منها "إرغام المتهمين بممالأة الثوار بالسير مسافات شاسعة على الأقدام، في لظى حر الصحراء وتحت شمسها اللافحة، حتى الإشراف على الهلاك من شدة الإنهاك والعطش، فيقدموا لهم أواني بها بنزين يتصورونه ماء، فيكرعون فيه حتى يبتلعوا جرعات منه، وإذا لم يعترفوا بالتهم تصب عليهم بقية البنزين، وتوقد فيهم النار، فيتحولون إلى عبوات شاردة، يطلقون الصراخ، في مشهد لا يمكن لبشر أن يتحمله" وكان نصيب نساء أژواد المتهمات باستدراج ضباط الجيش حتى يتمكن منهم الثوار، ضربا آخر مبتكرا من الوحشية "فقد تلقى ضابط تهنئة أسد الصحراء على أنه غسل يديه بدم ساخن لسيدة متهمة بالتعاون مع الثوار، عندما وجدها في أحد معاقلهم يتواصل 1- المختار بن داداه: المذكرات 2- الخليل النحوي: إفريقيا المسلمة. مصدر سابق 3- واسى البعض مثل المغرب وليبيا ومصر، هذا الزعيم في آخر حياته، فقدموا له منحا لبعض طلبة أزواد، كما ساعدت السعودية في إقامة عدد من أبناء الإقليم في الأراضي المقدسة. 4 كتاب التحويل النهائي للعقيد آسيمي دنبلى Colonel Assimi S. Denbèlè : Transferts définitifs- Le figuier, 2003 5- المصدر السابق 6- المصدر السابق |
|
07-15-2012, 08:49 PM | #4 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
"أوراق" عن أزواد (4) اغتيال بدم بارد/ محمد محمود ودادي
الأحد, 08 تموز/يوليو 2012 09:37 كانت سنتا 1963 و1964 فاصلتين في تكريس النظام الاشتراكي نهجها لمالي، وموديبو كيتا قائدا أوحد له، وزعيما إقليميا، بعد أن صالح كلا من المختار بن داداه (بإغلاق مقرات "جيش تحرير موريتانيا" وإبعاد زعيمه) واليوبولد صينغور، وموريس ياميوڴو، الذين خاصمهما طويلا بسبب رفضهما الاستمرار في مشروع الوحدة بينهم، وظل يعتبرهم عملاء لفرنسا والدول الاستعمارية، بينما اختار هو التحالف مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، ليصبح أحد أركان نادي الزعماء الثوريين في القارة السمراء (عبد الناصر، أحمد بن بله، كوامي نكروما، سيكو تورى). وساقت له الأقدار فرصة سطع بها نجمه، عندما اختارته منظمة الوحدة الإفريقية وسيطا - إلى جانب الإمبراطور هيلى سيلاسي – في النزاع الحدودي المباغت الذي اندلع بين الجزائر والمغرب في 8 أكتوبر 1963، وسُمي حرب الرمال، واستمر ثلاثة أسابيع. وقد نجح الوسطاء في جمع الملك الحسن الثاني، والرئيس أحمد بن بلّه في باماكو مع نهاية السنة، وهو ما استغله الرئيس المالي دبلوماسيا وإعلاميا، حتى أصبح في أعين الكثيرين أحد حكماء المنظمة التي كانت في أمس الحاجة لكسب الصدقية بعد مولدها العسير، قبل ذلك بعدة أشهر في أديس أبابا؛ حيث كان على رأس أهدافها - مع استكمال تحرير القارة - تحقيق الاستقرار والنمو، الذي كان مستحيلا في ظل الحرائق التي تندلع هنا وهناك بين دولها، التي ترك لها الاستعمار حدودا، شكلت ألغاما كانت تفجر بين الحين والآخر نزاعات خطيرة. وكانت الثمرة المباشرة لهذا النجاح في الجمع بين الجارين توطيد علاقاته بهما، وكسبهما إلى جانبه في محاربته لثوار أزواد، حيث قبلتا التخلص من ثوار أزواد أو مناصريهم الموجودين في أراضيهما، فسلمت الجزائر مجموعة منهم برئاسة قائدهم انتالّه آڴ الطاهر، وسلمت المغرب محمد آعلي آك الطاهر، ليوضعوا في السجن طيلة حكم موديبو كيتا، وجزء من فترة موسى تراورى1؛ وتحقق لباماكو ما كانت تحتاجه من تأييد، خاصة من دول الشمال الإفريقي الأقرب إلى أزواد جغرافيا وعرقيا وثقافيا، واطمأنت إلى أنها قادرة على استئصال المعارضة السياسية في الداخل، والثورة الأزوادية، وبذلك تكون في مأمن من الضغوط الخارجية. وهكذا واصلت كتيبة النقيب "بازاني"2 في أزواد مطاردة الثوار في المناطق التي ينشطون فيها كثيرا بآدرار إيفوقاس والجبال المتاخمة للجزائر والنيجر، ونجح إلى حد كبير في عزلهم عن مصادر تموينهم الدائمة، وهي مخيمات البدو، التي حاصرها الجيش في مجال ضيق قرب دشرتي كيدال ومنكّه، أو أبعدها إلى ضفة نهر النيجر، حيث الكثافة السكانية وسهولة الرقابة، إضافة إلى ما زرعه في نفوس السكان المسالمين من خوف نتيجة القمع الوحشي. ظل "أسد الصحراء" في حيرة من أمره أمام العجز عن القضاء على المجموعات المتحركة الباقية من الثوار، والتي تحرمه من كسب المعركة وإعلان الانتصار، رغم التعزيزات التي أُرسلت له، فتلقى التوبيخ من قيادته العليا، مما زاده شراسة ووحشية في التعامل مع السكان. وخضع للرأي الذي ظل سحرته يحاولون إقناعه به، وهو أن مفتاح نصره يكمن في القضاء على شيخ دين ضرير تقيم حلته بين المخيمات البدوية التي ينتمي إليها معظم الثوار، وأنه مَنْ يمنع الجيش من الوصول إلى معاقلهم لأنهم محصنون بحكمة الاستتار التي يُرقيهم بها. "يوم النصر العظيم" أخذ "أسد الصحراء" بالنصيحة وقرر التخلص من الشيخ، فعبأ وحدة عسكرية مؤللة، ضمت أشد رجاله بأسا من ضباط وجنود، إلى حلة الشيخ فحاصروها، وجمع الرجال والنساء تحت تهديد السلاح، ثم اتجهوا إلى خيمته، التي وجدوا فيها بعض أبنائه بقيادة أكبرهم سيدْ مْحمد ومجموعة من المريدين، الذين تحفزوا لمواجهة المعتدين، لكن الشيخ نهرهم قائلا "لا طائل من وراء ما تريدون، هذه إرادة الله التي لا مرد لها، ولتعتنوا بأهلكم وعيالكم وحلّتكم"؛ وباشر الجنود نقله دون أن يشرحوا أسباب الاعتقال أو يتركوا لأحد من أفراد أسرته فرصة مرافقته، أو اصطحاب بعض متعلقاته. وبعد ساعات من السير وصلت القافلة إلى مقر القيادة، فأنزلوا الأسير، واحتجزوه في مكان ضيق، دون أن توجه إليه أية أسئلة، في انتظار الوقت المحدد لخروجه "حيث كان النقيب قد بعث رسله لإبلاغ سكان كيدال والأحياء البدوية المحصورة حولها بالتجمع في الساحة العمومية، في يوم موعود، لحضور حفل خاص"3. وعندما اكتمل الحشد، تحيط بجنباته قوات مدججة بالسلاح خرج "أسد الصحراء" بلباس الميدان، يداعب بيده خيزرانة القيادة، ويحف به حراسه وأركان حربه. "وأمام الجمهور، وفي يوم مشمس (سنة 1963) أمر بوضع حبل المشنقة في رقبة الشيخ ليعلق على عمود منصوب وسط الساحة، يقابله مدفع رشاش من عيار 12.7، وخاطب النقيب الجمهور قائلا: [إن من ترونه اليوم هو الرجل الذي يدّعي القدرة على توفير الحماية لأزواجكم وأبنائكم وإخوانكم، ويعتقد فيه الكثيرون، مما يدفعهم إلى الموت كالعميان. وقد قررت اليوم امتحانه أمامكم جميعا، ولن أغشه، فأسمح له بلبس كل حجبه، وإن خرج منتصرا، فسأضع على صدره الأوسمة، وأُصبح أحد مريديه المخلصين] ثم أعطى إشارة لآمرِ بطّارية المدفع الرشاش، وانطلق أمر جامد [النار] فقذف الرشاشُ ثلاث دفعات حيث اهتز في كل منها الشيخ، قبل أن يسقط على رؤوس أقدامه فوق الأرض4 ثم صاح النقيب "بازاني" على الجمهور المذهول [صفّقوا] فانطلق التصفيق ومعه الزغاريد، غير أن النقيب لا يجهل أن الزغاريد كانت للشيخ حتى بعد موته. كل من يعرف أوساط البدو المؤمنين، يدرك أن الغيب والأسرار جزء من حياتهم، (وعليه فقد) خسرت الثورة أكبر معركة وهي النفسية، حيث أن الشيخ الذي سقط تحت الرصاص قبل قليل، كان قوة معنوية لها، ولم يبق لقادتها بعد اليوم أي حظ في النصر، إلا بالاعتماد على الشجاعة والجسارة5". إن الشيخ المعني هنا هو سيدي حيبللّ (حبيب الله) بن الشيخ عابدين بن سيد مْحمد الكنتي بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي، وقد كان لاغتياله صدى مدو في أنحاء أزواد بل في جمهورية مالي وفي الدول المجاورة لها، خاصة موريتانيا التي تناقل الناس فيها الخبر بعد وقوعه بعدة أشهر، بسبب بعد المسافات وندرة الاتصال. وكان أول ما اشتهر به سيدي حيبللّ أنه في العشرية الأولى من القرن الماضي - وعند ما كان معتقلا في مدينة باسام بكوت ديفوار مع إخوته، لحملهم السلاح ضد الفرنسيين6 – حقق إنجازا اعتبر خارقا، كان سببا في إطلاق سراحه، وهو تصديه لأحد الزواحف الذي يبتلع البشر والماشية، ظهَر قرب إحدى القرى القريبة منهم، والتي استنجدت بالإدارة المحلية، التي عجزت عن القضاء عليه، لاختبائه في الغابة كل ما حس بالخطر؛ وعند ما علم الشاب السجين بالحكاية أعلن أنه قادر على قتله، ولا يريد إلا تزويده بسيف، فأعطي له، وتمكن من القضاء على هذه الدابة ، مما كان سببا في إطلاق سراحه دون إخوته، الين مات منهم البعض في السجن. ومن المعروف أن والدهم الشيخ عابدين كان من أوائل من حمل السلاح وقاد عشرات الحملات الجهادية ضد الاحتلال من سنة 1894 حتى سنة 1916، فكبده خسائر فادحة، قبل أن ينتقل إلى جنوب المغرب، ويقيم حضرته التي ظلت منطلق الغزوات على قوات الاحتلال في أزواد وضفاف نهر النيجر والشرق والشمال الغربي من موريتانيا، وهو ما واصله أبناؤه حتى الثلاثينات من القرن الماضي، هم الذين استشهد منهم في الجهاد ستة. وبعد إطلاق سراحه عاش سيدي حيبللّ في مضارب أهله بمنطقة آدرار إفوقاس التي ولد فيها سنة 1884. وقد أصيب في مقتبل العمر بمرض الجدري ففقد بصره، لكن ذلك لم يزده إلا حيوية ونشاطا وعلوّ همة. فكوّن حلة عامرة، وانكب عليه الناس من كل حدب وصوب، لما ظهر على يديه من كرامات، ولسريان الحكمة في يديه، ولكونه مرجع أزواد والمنطقة كلها في معرفة سر الحرف، كما اشتهر بالكرم والإنفاق في سبيل الله، وكان يوزع الطعام والحليب وأتاي والسكر مجانا على أسر حلته ، الذين يحظر عليهم اقتناءها بأموالهم الخاصة. اغتيال زعماء المعارضة فيلي دابو سيسكو حامدون ديكو أما الفعلة الشنيعة الثانية التي ارتكبها الرئيس المالي موديبو كيتا فكانت اغتياله في ظروف غير إنسانية لكل من فيلي دابو سيسكو وحامدون ديكو ورجل الأعمال قاسم تورى، الذين حمّلهم مسؤولية مظاهرات التجار الكبرى في باماكو في 20 يوليه 1962 ضد التأميم وإنشاء الفرنك المالي. فقد بعثهم بعد الحكم عليهم بالإعدام الذي خففه إلى المؤبد إلى كيدال ليعيشوا في ظروف شديدة القسوة، نفسيا وماديا فكانوا يقومون خلال النهار بتنفيذ أشغال شاقة لا تكاد أجسامهم تتحملها، وفي الليل يسقطون على حصير بال لا يكادون يتحركون من شدة الإرهاق، وهكذا دواليك خلال سنتين. وقد وصف العقيد آسيمي دنبلى مؤلف كتاب التحويل الأخير طريقة قتلهم: "في ليلة من ليالي كيدال الحارة تلقى النقيب "بازاني" رسالة مشفرة استدعى بعد قراءتها الملازم "سام" الذي يثق فيه، وخاصة لتأدية المهام العويصة، التي تضاهي أسرار الدولة، وذلك لكونه كتوما وفعالا ومتعلقا بشخصه؛ وكان فحوى الرسالة ثلاث كلمات [التحويل النهائي للطرود الثلاثة]7 أي السجناء السياسيين الثلاثة إلى مكان آخر، حرصا على سلامتهم، كما أخبرهم رئيس المركز الذي تحدث إليهم. وعند ما أرادوا اصطحاب بقايا ملابسهم وفرشهم البالية أُفهموا أنهم سيتلقون أحسن منها في المركز العسكري القادم. وغادرت المجموعة في اتجاه تازيجومت مقر مركز عسكري أكثر أهمية. وكان الرجال المرافقون يعتبرون أنهم في مهمة عادية، ويجهلون تماما الطبيعة السرية لرحلتهم. والوحيد الذي كان على اطلاع على حقيقة الأمر هو ضابط الصف الذي يقود القافلة، الذي أُخبر بأنه سيلتقي في منتصف الطريق الملازم "سام" بأحد الأودية بين مركزي بوڴيسه وتازيجومت. وعندما وصلت القافلة إلى المكان المحدد كان الملازم "سام" في الانتظار، حيث توقفت السيارات وطُلب من السجناء ومرافقيهم التوجه إلى مرتفع حجري. وبما أن الثورة في أزواد لم تهزم بعد قام ضابط الصف بتوزيع جنوده في مواقع قتالية حول المجموعة، حتى لا يتعرض لمفاجأة غير سارة، وأبقى الملازم "سام" معه مجموعة من الجنود والڴوم المسلحين ببنادق كلاشنيكوف الرشاشة. وعندها بدأت الشمس تميل، وتنزل الغربان والنسور على شجرة شوك قريبة، كما لو كانت تنتظر حدوث شيء ما في هذا الموقع الضائع في الصحراء. ثم قام الملازم بوضع السجناء الثلاثة أمامه وأبلغهم بصوت متأثر بقرار القيادة العليا. إنها لحظة قاسية أن يسمع فيها إنسان أنه سيغادر هذا العالم بعد عدة دقائق! وكان الضابط سيترك الجثامين مرمية في الصحراء كالكلاب لو أن حمادون ديكو لم يطلب وضعهم في قبور، ومن الصعوبة بمكان أن يرى إنسان رجلا كالهيكل العظمي، وليس لديه ما يخاف عليه، مصمما على أن يبقى واقفا، مرفوع الرأس في وجه ضابط مخيف ذي دم بارد. وأمام هذا الطلب الجسور رد الملازم "فليكن! وليحفر كل منكم قبره بسرعة، فالوقت ضائع" ووحده ديكو حفر قبره بحجر حاد، كما كان يفعل الإنسان البدائي، رغم وجود أدوات لذلك في سيارات القافلة، أما سيسوكو وتورى فلم يفلحا في إنجاز المهمة، لتقدمهما في السن وشدة تعبهما. واعتبر الضابط أن الحُفر التي أنجزت بشق الأنفس، أحسن من خندق جماعي، وكافية كقبور، وعندها أمرهم بالتوجه إليها والنزول فيها، فساروا بهدوء وسكينة، رافضين مساعدة الجنود المشفقين عليهم، ودون أن تصدر منهم أي حركة تفسًّر على أنها من أجل البقاء في الحياة لثوان بائسة. وفي اللحظات الأخيرة خاطب فيلي دابو سيسوكو الضابط قائلا "أيها الملازم افعل واجبك كجندي، لكن واجبك كضابط لا يسمح لك بالغرق في الخزي، وكما أحُس لا تطلق الرصاص علينا من الخلف، وإلا فإن هذه الفعلة ستلاحقك طيلة ما تبقى لك من العمر". عندئذ، وجد الضابط نفسه في مواجهة ضميره، وأمرهم بالبقاء وقوفا، ينظرون أمامهم دون حراك فرقة الإعدام على بعد 15 مترا، دون أن يغمضوا أعينهم لحظة، أو يصدر عنهم صوت أو أنين، في مواجهة الأسلحة المصوبة إلى صدورهم. صاح الملازم سام "الفرقة! استعداد! اشحنوا المسدسات وسُمعت قعقعة الآلة المخيفة ودوى الجبل كله لضجيج رصاص المسدس الرشاش الذي اخترق أجساد الرجال الثلاثة فحصدها. ولم ير الضابط أي ضرورة – عكسا للقاعدة – أن يطلق على كل منهم رصاصة الرحمة؛ مما يطرح التساؤل: هل كان هذا إعداما حسب الأصول؟. أليس هذا اغتيالا، بعد ما أُلغي حكم الإعدام، وحُوّل إلى المؤبد؟. صاح الملازم سام في الجنود قائلا [اطمروهم بالتراب] لكن الحُفر لم تكن عميقة لتغطي الجثامين، مما حتم ردمها بالحصى الخشن (أرارش) بينما كانت أكفانهم الدراريع الملطخة بالدماء. ورغم أنهم مسلمون لم تُقرأ عليم {الفاتحة} ولم يصلّ عليهم، غير أنه في نهاية الفعلة المخزية رفع أحد الڴوم المسلمين – بدل تلاوة شيء من القرءان الكريم – صوته قائلا {الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!}؛ ثم أبلغ الملازم رؤساءه إنجاز مهمته في رسالة مشفرة، فحواها [تمدرس الأطفال]8." وكانت الرواية الرسمية أنه خلال نقلهم إلى موقع جديد، جرى اشتباك مع الثوار، فحاولوا الهرب مما اضطر الجنود إلى إطلاق النار عليهم. يتواصل 1- بعد إطلاق سراحمها اتجه الأول إلى ليبيا، والثاني إلى المغرب التي اعتذرت له، وأعطه سكنا في السخيرات، حتى وفاته في ثمانينات القرن الماضي. 2- الاسم هو ديبيى هيلاسْ چارا 3- كتاب التحويل النهائي مصدر سابق 4- الحكاية المتداولة أن الشيخ قد شنق قبل إطلاق الرصاص عليه، وهو ما يمكن فهمه أيضا من الرواية الحالية 5- المصدر السابق 6- بول مارتي كنته الشرقيون ترجمة محمد محمود ودادي، مطبعة زيد بن ثابت دمشق1983 7- من هذا أُخذ عنوان الكتاب 8- كتاب التحويل النهائي، مصدر سابق |
|
08-01-2012, 03:32 PM | #5 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
"أوراق" عن أزواد /الخامسة/ موديبو: كما قَتل قُتل
اغتالت القوات المالية أهم زعماء مالي السياسيين، و"انتصر على ثوار إفُوقاس في أزواد بقتل حاميهم الروحي" فاكتملت للرئيس موديبو كيتا الزعامة الداخلية، وغادر باماكو بأيام قليلة بعد مجزرة 30 يونيه 1964 إلى القاهرة لحضور ثاني قمة قارية تحت مظلة، منظمة الوحدة الإفريقية الناشئة، واقتسم بذلك الأضواء المسلطة على الزعماء الأفارقة الثورين، إضافة إلى الهالة التي أحاطت به عن دوره في النزاع الحدودي الجزائري المغربي. فانعقدت القمة تحت رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان في أوج سطوع نجمه المحلي والدولي، حيث استقبل في السنة نفسها القمة العربية وقمة عدم الانحياز. وقد انعقدت القمة في مقر جامعة الدول العربية، في جو من المظاهر الاحتفالية المبهرة، حيث صادفت إحياء ذكرى ثورة 23 يوليه المصرية، التي بذلت فيها القاهرة طاقاتها لتظهر أنها أهم زعيمة للقارة والعالم العربي، ومع الهند ويوغوسلافيا إحدى الدول التي تقود حركة عدم الانحياز، الرافض لمنطق تبعية الغرب أو الشرق؛ كما وقع في هذه المناسبة ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية الذي كان مفكرون وكتاب قد انكبوا على إعداد مسودته، منهم محمد حسنين هيكل، ودعي القادة إلى حفل بهيج في نادي الضباط بالزمالك، غنت فيه أم كلثوم أول لحن لمنافسها الكبير محمد عبد الوهاب أنت عمري، بتقديم أشهر مذيع مصري جلال معوض، كما أقام عبد الناصر حفل عشاء في حدائق قصر القبة، غنت فيه فرقة رضا، المؤلفة من شباب الجامعات، وأقيم في مدينة نصر عرض عسكري وشبابي وعمالي دام عدة ساعات، ظهر فيه من الأسلحة ما اعتُبر ردعا لكل من يحاول التحرش بمصر. وقد جرت محاولة لتعكير جو القمة هي وصول رئيس وزراء الكنغو اليوبولدفيل موسى تشومبى إلى القاهرة فجأة ليحتل مقعد بلاده، غير أنه أعيد من حيث أتى لأن مصر والدول الثورية لا تعترف به، لكن حادثا آخر جرى بطريقة لم تكن في الحسبان، كان له وقع مؤلم على بعض الوفود، وخاصة مالي وغانا وغينيا. هذا الحدث هو الكلمة التي ألقاها رئيس جمهورية مدغشقر، فيلْبيرْ تْسيرانانا، في جلسة علنية بحضور جميع القادة، حيث كال سيلا من النقد اللاذع لمعظم الحاضرين وخاصة الزعماء الثوريين، تارة بروح مرحة وابتسامة عريضة، ومرات أخرى بجد وصراحة مفرطة، وأعلن منذ الوهلة الأولى أنه لا يشاطر الحاضرين تفاؤلهم بمستقبل القارة في ظل القمع وعدم التسامح، ضاربا المثل بكل من رؤساء غينيا وغانا ومالي بأسمائهم، حيث يتشدقون بالثورية والحرية، وهم يقتلون مواطنيهم، ذاكرا بالاسم زعيمي مالي الذين لم تجف دماؤهما بعد: سيسوكو وديكو. ثم هاجم النفاق السياسي، خاصة في العلاقات الدولية، قائلا "إن تماديتم في هذا النهج سأبقى في جزيرتي خارجا عن إفريقيا، ولن أكون مثلكم في النفاق، فرئيسي هو الجنرال دڴول، وسأذهب إليه مباشرة لأقدم له تقريرا عما جرى هنا، ولتكونوا مثلي وتعترفوا بأنكم تابعون لموسكو وپيكين". وقد ظل الحاضرون - بمن فيهم أعضاء الوفود والمدعون والصحفيون - مشدوهين بين غاضب مستنكر، ولاه مستمتع بهذا الخطاب الطويل، وهو ما انطبق على الرؤساء أنفسهم، خاصة موديبو ونكروما الذيْن كانا في أشد حالات العبوس، يلوح أعضاء وفديهما خلفهما بأيديهم استنكارا للحديث، أما عبد الناصر وبورقيبه وسنغور والحسن الثاني، وغالبية الرؤساء فقد تابعوا بإصغاء وكأنهم في مسرح، بينما لم يتحكم المختار بن داداه وأحمد بن بله، وعدد من الوزراء من كبت نوبة الضحك التي أصابتهم. ** مرت الأيام وسقط موديبو كيتا بانقلاب عسكري في 19 نونبر 1968، وأُرسل إلى كيدال، ليعيش في ظروف صعبة، وإن كانت أقل قسوة مما عرفه معارضوه السياسيون الذين اختارها لهم، ثم ينتقل إلى الجنوب الأكثر رطوبة، ويتقابل في أحد الأيام أمام المستشفى مع زعيم آخر ما يزال في السجن من بقايا ضحاياه، هو محمد آعلي آڴ الطاهر الأنصاري، الذي خاطبه "موديبو، هل عرفتني، أنا محمد آعلي الذي كنت أعطيك - وأنت تلميذ - البسكويت وغيرها من الأشياء التي تطلب". وكان أبشع إرث تركه موديبو كيتا لبلاده ما استنّه من نهج في القمع والتعذيب والتصفية الجسدية لمعارضيه، حيث اتَبعت ذلك الطغمة العسكرية التي أطاحت به، وأصبح النهج السائد، وكان هو ضحيته عندما مات مسموما في 16 ميه 1977، وكاد النهج هذا يقضي على طبقة الضباط الحاكمين، المتكالبين على السلطة والمال. نهاية النقيب بازاني في تاودني مما يستدل به الأزواديون على احتقارهم من قادة مالي جعل مدنهم التاريخية وبلداتهم الشهيرة أوكارا لأنواع الفجور والإجرام، ومراكز للتعذيب السياسي والقتل الممنهج خارج القانون، حتى اقترنت أسماؤها بذلك، بعدما كان صيتها كمواطن للعلم والذهب والملح، ملهم أطماع العالم منذ القرون الوسطى. ومن هذه البلدات سبخة تاودني التي يقع فيها مركز إداري وعسكري للحكومة المالية، على بعد 700 كلم شمال تنبكتو، في نقطة هي الأخفض عن سطح البحر في الكرة الأرضية، عوض البحر الميت. وحوض تاودني يطلق في المصطلحات الجيولوجية على مساحات شاسعة تشمل مناطق من أزواد وتمتد إلى داخل الشمال الشرقي الموريتاني؛ أما صحراؤها فهي قاحلة لا شجر فيها ولا نباتا، تُصليها شمس حارقة في غالبية أيام السنة، حيث تكون درجة الحرارة صيفا 50 درجة نهارا و40 – 45 ليلا، وفي الشتاء 20 – 30 درجة في النهار و10 – 0 ليلا. "يوجد عند السبخة بئر يدعى حاسي صالح نسبة إلي أحد الصالحين، ماؤه مالح، يقع على عمق 50 مترا، وهو في هذه البلاد القاحلة المعطشة هدية من السماء، غير أن الإنسان لا يستطيع شربه إلا بخلطه مع مواد تساعد على تحمله، مثل تجمخت، (دقيق ثمر شجر الدوم [التيدوم] الذي ينبت في الجنوب] أو دقيق الذرة أو اللبن الرائب، والاغتسال به يحتاج إلي مجهود وتقنية، حيث يمنع رغوة الصابون، ولا يزيل وسخ الجلد، مما يحتم خلطه بالحصى الصغير مع الدلك بقوة، ومع ذلك فلولا الماء المالح لمات الناس من الإمساك. يحكم مركز تاودني نهاية 1969 الملازم كانتاو الذي يجمع بين يديه كل السلطات، وقد أوكل إليه أمر مجموعة من السجناء العسكريين المحكوم عليهم بالمؤبد، وعلى رأسهم النقيب بازاني (ديبيى سيلاس جارا) الذي عرفناه فيما سبق قائدا للكتيبة التي أشرفت على سحق التمرد في أزواد، حيث أدين بمحاولة انقلاب بعد أن كان واليا لمحافظة موبتي. كان الملازم كانتاو الآمر الناهي، ومهمته الأولى هي إلحاق أشد أذي بالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد الذين أرسلوا إليه في هذا الفضاء السحيق الذي لا صلة له بالعالم الخارجي. وللدلالة على الاستبداد الذي يفتخر به، أعطى لنفسه اسم إمبراطور قبيلة الموشي (مورو نابا) الذي بيده مصير شعبه حياتا أو موتا، لا يعرف قاماتهم إذ لا يراهم إلا راكعين له. وكان سجناء تاودني يسجدون لسيدهم الجديد حتى يغمسوا رؤوسهم في الأرض مقبلين جزماته، فيرد عليهم التحية بوضع قدمه بقوة على رقبة كل منهم حتى تندس في التراب. وإضافة إلي الأوامر التي تلقاها من قادته استعمل كل ما خطر بباله من بطش ليجعل نهايتهم الموت البطيء. وهكذا بدء بتحويلهم إلي عمال لقلع عدائل الملح الذي يتولاه عادة عمال محترفون يتوارثون المهنة، التي تعد قاسية جدا خاصة على من لا يعرفونها. توجد في تاودني – كما سلف - سبخة غنية بالملح المتراص في حصائر منتشرة تحت طبقة رملية، يقوم عمال مهرة بتقطيعه في شكل قوالب لتكون جاهزة للنقل، لذلك اعتبر الضابط أنه العمل الأكثر مشقة والأنسب لسجنائه، وهو في الوقت نفسه فرصة لتطييب خواطر رؤسائه بإهدائهم ملحا وفيرا بلا ثمن. وقد فتح مقلعا بعيدا عن أمثاله ليفسح المجال أمام جنوده لإطلاق النار على السجناء في حالة محاولتهم الهروب، دون أن يعرض العمال العاديين للمخاطر. كان المقلع الجديد يبعد 12 كلم عن المركز العسكري، يرغم السجناء على قطعها جريا على الأقدام المثقلة بالسلاسل في ذهابهم وإيابهم، يسبق ذلك ضرب مبرح عند الساعة الرابعة صباحا، موعد الانطلاق، وتكون العودة عند الساعة الخامسة مساء، تتخلل ذلك استراحة لمدة 5 دقائق لتناول الغداء المكون من حب الدخن الأحمر الغليظ نصف مهروس، لم يكتمل نضج طبخه، وهو عادة يحضر كعلف للماشية، لكنه هنا يخلط بالتراب والحصى ( أرارش). ولم يكن للسجناء الحق بعد يومهم الشاق المنهِك في فسخ ثيابهم مما جعل أجسادهم مرتعا للقمل، مثل ثيابهم المتلبدة من شدة الاتساخ، والتصاق الحصباء المبللة بالعرق، والتي تتساقط قطعا بعد أن تيبس. وليس للمصابين منهم الحق في استراحة مرضية، بل يحملهم زملاؤهم إلي المقلع يوميا، ويتركون مرميين في الرمضاء، حيث تصل الحرارة 50 درجة في الظل. وكان الملازم كانتاو فخورا بما حققه من نجاح في استخراج عدائل الملح، وبما أصاب السجناء من ضعف وهزال. وفي أحد أيام يناير، وكتهنئة للسجناء بالعام الجديد، أعادهم إلي المقر قبل الوقت المحدد، مما جعلهم يتصورون أنها لفتة رحيمة، خاصة وأنهم سقطوا على الأرض عند وصولهم لشدة الإرهاق. وعند مدخل المركز كانت هنالك عديلة ضخمة نقش عليها كانتاو "أول عديلة استخرجها الخونة يوم فاتح يناير 1970 " ثم غادر وهو يتضاحك قائلا "لقد أعدتكم باكرا اليوم حتى تقرؤوا في ضوء النهار هذا الإهداء المنقوش تكريما لكم، وسترسل في الغد إلي القيادة العليا كشاهد على إسهامكم الفعال والطوعي في الإنتاج الوطني في جنة الصحراء هذه. واتهم الملازم السجناء بمحاولة رشوة أحد جنوده الذي فرض عليه شهادة زور، ثم أبلغهم أنهم سيعدمون في الصباح، مما كان له وقع لا يتصور عليهم، وعند بزوغ الشمس ساقهم مقيدين بالسلاسل ليجدوا أمامهم فرقة إعدام مؤلفة من 12 جنديا، مما صدق لديهم تهديده، وبادرهم: بأنهم لم يذكروا خلال استجواباتكم السابقة جميع شركائهم في المؤامرة، لذلك سيترك لهم حياتهم إن أقروا بهم اليوم، لكنهم رفضوا الرد عليه كرجل واحد، فكانت العقوبة الضرب بأعقاب البنادق والعصي حتى تقيئوا الدماء. ثم جاءت للملازم فكرته السادية لبناء حصن في تاودني مساحته 2500م2، فأمر السجناء بحفر بئر بأدوات قليلة وصنع 100 طوبة من الآجر لكل منهم في اليوم، وهو رقم خيالي لهؤلاء التعساء الذين يُختم يومهم - في معظم الأحيان - بالضرب المبرح على كل الأعضاء دون أي سبب. وكان البناء يسقط كل ما علا، لجهل السجناء بالمهنة؛ وعندما مات أحدهم من شدة التعذيب والجوع رفض دفنه في مقبرة السبخة لأن السجناء لا يستحقون ذلك، وأمر بإلقائه بعيدا عن الحصن، مما جعل زملاءه يعودون إليه في الصباح ليدفنوا ما أبقت بنات آوى من جثمانه. وكان الملازم يتباهي بإنجازه ويقارنه بالأهرامات التي بناها الفراعنة في مصر [إنه إنجاز سيخلده له التاريخ] وهو ما تحقق بالفعل حيث بقي الحصن الذي أملته إرادة رجل مريض بجنون العظمة، وكلما هبت عاصفة رملية يكون صداها في الحصن كصياح وأنين كل من سكب دمه على طوب هذا البناء المنحوس. وقد تناوب على قيادة المركز العديد من الضباط وصف الضباط، لم يكونوا كلهم بقسوة الملازم كانتاوو إلا أن الأقل تشددا يلقون العقاب، وأقله الحرمان من ترفيع الرتب حتى التقاعد. ورغم اكتشاف مؤامرة جديدة لإسقاط النظام في باماكو واعتقال القادة السابقين من قبل الرئيس إلا أن من حلّوا محلهم كانوا أشد قسوة من سابقيهم الذين نقل العديد منهم إلي تاودني ليعيشوا مع من لم يمت من السجناء الأولين. وقد رفعت عن النقيب "بازاني" الرقابة، إذ لم يعد يشكل أي خطر، وأصبح من بين السجناء مجرد جثة متحركة، ، بلا لحم ولا أعصاب، مثل التمساح الجائع، يزحف في تنقله على يديه وركبتيه، تاركا خلفه خطوطا عميقة في الرمال الحارة، من السهل اقتفاؤها، ولم يعد له من العمل إلا جمع بعر الإبل حول البئر لغرض الطهي، وقد قيل إنه فقد ملكة النطق بسبب العزلة الطويلة التي يعيشها، لكنّ من نظر إليه عن قرب يرى بقية بريق، يشكل نوعا من التحدي لسجنائه. وأمام تعلقه بالحياة تجرأ الملازم كانتاو على اتخاذ قرار خطير العواقب أمام التاريخ وهو قتل هذا السجين الذي كان بلا شك الهدف النهائي، وطريقة التنفيذ متروكة له. وفي أحد الأيام استدعى الجندي الطارقي الشاب سالم آگ سالم ودار بينهما الحديث التالي: - سالم، هل صحيح أن أخاك قتل في التمرد (1963)؟ - مع الأسف نعم، وما أزال أبكيه، يرد الجندي - هل ترغب في معرفة ظروف موته، وقاتله؟ - إنني أجهل ذلك، لأنني كنت صغيرا. آه! نعم، وألف نعم! إنني أحب أن أعرف القاتل، وبالي لن يهدأ قبل أن أقوم بالواجب المقدس، وهو الثأر لدم أخي - اسمع جيدا. كان أخوك شجاعا بين الشجعان، عرفته قبل التحاقه بالتمرد، وأنتما تتشابهان كقطرتي ماء. لقد قاتل من أجل قضيته، لكنه فوجئ مع صحبه بسبب وشاية، خلال عملية تمشيط للجيش، دارت خلالها معركة دامت صبيحة يوم كامل. وبعد استنفاد ذخيرتهم استسلم أخوك ومن بقي معه من زملائه، ورفض بإباء الإدلاء بأية معلومات لمحققي شعبة مخابرات المكتب الثاني رغم التعذيب، بل بلغت به الجرأة حد البصق في وجه الضابط الذي يستجوبه، موقعا بذلك صك موته. كان أخوك يفضل الموت وسلاحه بيده، لكن ذلك لم يقع، بل أجبر على شرب قدح من البنزين، ثم صُب على جسده المتبقي وهو حوالي ثلاث لترات، وأشعلت النار فيه، لكنه قابل ذلك برباطة جأش ودون أن يطلب الرحمة أو يُصدر أنينا، حتى انفجر كالقنبلة. وكان الضابط يتوقف بين الحين والآخر ليرى وقع سرده التمثيلي للقصة على الشاب الطارقي، الذي انكسر قلبه وهو يبكي بدموع حارة، يرتعد جسمه من شدة الغضب والتأثر، منتظرا أن يكشف له اسم القاتل، إلى أن سمع: هل أنت مستعد لأخذ الثأر لأخيك، عندما أكشف لك عن اسمه؟ - كيف لي بذلك؟ وكيف الوصول إليه؟ - قل لي نعم، وسأقدمه لك في الدقائق الآتية - نعم! نعم! نعم! - حسنا، ياصغيري، إنه النقيب بازاني، الذي قتل أخاك الأكبر - لا، هذا غير ممكن! - إنها الحقيقة بعينها، وهو الآن نحو البئر، فهو لك ، سالم، افعل به ما تريد، اقت... ولم ينتظر سالم إتمام الجملة فطفق يعدو مطلقا صيحة الحرب، كما يفعل أجداده عند الهجوم، وفي الطريق أخذ دبوسه متجها إلى البئر، مواصلا صيحاته. وفي هذا الوقت كان النقيب بازاني الذي يجهل أن مصيره قد تحدد، منبطحا على وجهه فوق الرمال الساخنة يضع يديه على رقبته ليقيها حر الشمس، بعد أن أنهى نوبته من جمع البعر حول البئر. وقد وصلت إلى مسامعه صيحات سالم كالصدى، ولم تكن غريبة عليه، لأنه سمعها من قبل في الجبل، ثم بدأت تقترب، غير أنه كان يجهل أنها موجهة إليه. وقريبا من جسد النقيب بازاني المشوه توقف سالم، والنقيب رافع رأسه إليه ليتلقى في الوجه حثوة تراب أثارتها جزمات الجندي الطارقي الشاب، وعند فتح عينيه عرف دبوس الراعي البدوي المخيفة ذات الرأس المدبب كراس الثعبان، وتكشيرة في وجه سالم، ورغم حاله الضعيف حافظ النقيب على بعض الوعي، مدركا أن أجله قد حان، حيث نزلت العصا على رأسه ليلفظ أنفاسه الأخيرة. وبذلك فقد النقيب ديبيى سيلاس ﭽارا، "أسد الصحراء" سيد كيدال، قاهر التمرد، معركته ضمن صراع الحياة الفانية. إن الإرادة الإلهية تسوقنا حتما – فرادى وجماعات – إلى مصيرنا، كما ساق النقيب بازاني معه إلى هذه النهاية المفجعة معظم الضباط وضباط الصف الذين شاركوا في حملة كيدال، خاصة الملازم سام الذي أشرف على قتل فيلي دابو سيسوكو وحامادون ديكو وقاسم تورى، فقد ظلت تربطهم سلسلة خفية حتى الرمق الأخير من حياتهم" . يتواصل |
|
08-01-2012, 03:35 PM | #6 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
"أوراق" عن أزواد/ السادسة/ سنوات التيه
لم ينته عهد موديبو كيتا في نونبر سنة 1968 إلا بعد أن دمر أزواد اقتصاديا واجتماعيا وسلبه أغلى ما يملكه أهله: العزة والكرامة، فأذلّ كبراءه واستباح حرماته، ليحل الغضب محل الكبرياء الذي عرف به الأزوادي بين جيرانه، وساد اليأس ربوع أرض موسى آگ أمستن وفيرهُن والميون بن حمادي، ومحمد بن رحال. وكادت الحِلَلُ العامرة بمخيماتها الكثيفة المتراصة تختفي، ومعها قطعان الإبل البيضاء والشقراء البديعة، والأغنام الوافرة، كما اختفت سباقات الهُجن الذلولة التي لا تحتاج سوى تحريك الخطام، دون عصى أو نسعة، المزينة بالرواحل ذات القرابيس العالية، المبطنة بالأحزمة الجلدية والشعرية المتدلية، بألوانها المزركشة الأصيلة، تحت رجال أشداء ذوي قامات فارعة، بدراريعهم السوداء والبيضاء، وعمائمهم الطويلة، الممتشقين بعزة وكبرياء سيوفا قهرت الطامعين على مدى التاريخ، وضاعت مكتبات عريقة غنية بنفائس الكتب، في خضم هذا التشتت غير المسبوق. وأصبح مصير الإقليم بيد الضباط والجنود الذين كانوا يد الناظم البائد الباطشة، بعد أن استولوا على السلطة، التي لم تغير في شيء، اللهم تفكك النظام الاشتراكي الذي ظل يحسب على الناس أنفاسهم ويقيد تصرفهم بأموالهم. وسار الجديد على خطى القديم باعتبار أزواد منطقة أمنية، أهلها محل اتهام دائم بالإرهاب والتمرد. وصادفت هذه الفترة موجة الجفاف الماحق التي ضربت منطقة الساحل والصحراء سنوات متتالية، في سابقة لم يعرفها السكان المعتادون على دورة القحط لا تدوم إلا سنة أو سنتين، يتبعه الغيث والخصب، كما تبينه حوليات المراكز الحضرية. فلم يكن السكان إذن مؤهلين لمواجهة الكارثة، وتصرفوا كما كانوا يفعلون، ينتقلون بمواشيهم إلى المناطق الرطبة وضفاف الأنهر، ليقايضوا منتجاتهم بالمواد الغذائية، لكنهم وجودوها منكوبة، إذ لم يكن أحد يدرك أبعاد الظاهرة ولا مداها. ومن هنا كان على الحكومة المالية أن تتصرف بسرعة وفعالية كما في الدول المجاورة: موريتانيا وبوركينا فاصو وبنسبة أقل النيجر. ففي موريتانيا مثلا أُعلن النفير العام وسخرت الحكومة ما لديها من إمكانيات لمواجهة الجفاف، فنشطت الإدارة والحزب الحاكم ووسائل الإعلام لمؤازرة السكان وتنويرهم بأبعاد ما حل بهم، وطلبت العون الخارجي، ثم اتخذت على الفور إجراءات عملية، تمثلت في إلغاء العشر نهائيا عن الماشية، ووضع برنامجي عرف بخطة التدخل السريع، اضطلع بتوزيع المواد الغذائية والدوائية وحفر الآبار، تحت إشراف وزير الصحة والشؤون الاجتماعية د. عبد الله بن ابّاه، الذي وضعت تحت تصرفه تجهيزات القوات المسلحة والحرس ورجالهما، فأضافوا الفعالية على هذا الجهد الوطني، خاصة بإشرافهم على أسطول السيارات الذي جاب المناطق المتأثرة، المنتشرة في غالبية أرض الجمهورية، حيث تحقق المطلوب في الوقت المناسب، رغم انعدام الطرق المعبدة في تلك الحقبة. وكانت تلك بدايات إقامة مفوضية الأمن الغذائي، التي اعتبرت تجربة رائدة استنسختها عدة دول. أما في أزواد فكانت وطأة الجفاف أشد لأن الحكومة لم تكن مبالية به، فتركت السكان يواجهون مصيرهم وحدهم، لا مرشد ولا معين، واستمرت في جباية الضرائب على الماشية، ومتابعة الرقابة على تنقل السكان بحيث لا يحق لهم الاقتراب من ضفاف النهر إلا بمسافات معينة؛ ولم تصل سنة 1973 حتى نفق جل الثروة الحيوانية، وانتشرت المجاعة في أصقاع الإقليم، وأصبح الناس عاجزين عن توفير ضرورات الحياة الأساسية من مأكل وشرب وملبس وسكن، فتشتت الرجال لا يلوون على شيء في الاتجاهات كافة بحثا عن وسيلة لإنقاذ من تركوا خلفهم من نساء وصبوة وعجائز في مخيمات قرب الآبار، والتي أصبح جلب مائها غاية في الصعوبة بعد نفوق الماشية؛ وكان الرجل يصحب معه في رحلة الميرة تلك كل ما بقي له من دواب صالحة للبيع، وبقايا الأثاث: من زرابي وطنافس ومصنوعات جلدية وخشبية، كما جلبوا معهم كتبا مخطوطة نفيسة وحلي النساء ومقتنياتهن، بل إن البعض اضطر أن يترك عياله في العراء ويأخذ الفروة ليقايضها بمواد غذائية. ومع طول الوقت أصبحت أكثرية الأسر معدمة، لا تملك ما تقايض به الطعام، فمات الآلاف من الناس جراء الجوع وتبعاته، غالبيتهم في مخيمات، ذكر شهود عيان أنها كانت مسكونة بأناس شديدي الهزال، لا يقدرون على الخروج إلى الزائر، خوفا من الظهور في أوضاع غير لائقة، منها العري، مما يذكّر بما مرت به العديد من المناطق الموريتانية إبان الحرب العالمية الثانية، تحت الاحتلال، حيث لبس الناس الجلود وقطع الوبر المحاكة للخيام، حتى أن بعض الأحياء البدوية كانت لا تملك إلا دراعة واحدة يتعاقب عليها رجاله، عندما يتعين على أحدهم الخروج للقاء زائر؛ وقد قيل في السبعينات إنه لو لم تكن لموريتانيا حكومة مركزية لمات جل سكانها الذين كانت نسبة البدو منهم – حينها - تزيد على 70% . وكنا في منكبنا البرزخي نسمع بعض الأخبار عن مأساة أهل أزواد التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام الغربية المكتوبة، من بينها صحيفة "لموند" الباريسية التي نشرت سلسلة مقالات للكاتب الصحفي الشهير "فيليب دَكْرينْ" عن الجفاف في مالي، نقل فيها صورا مخيفة عن حالة السكان في أزواد، متهما الحكومة المالية باستخدام الجفاف لتصفية حساباتها السياسية والأمنية مع السكان، وانتقد سكوت العالم عن هذا الوضع البشع. وقد قامت مجموعة من الشباب في نواكشوط بتكثير هذه المقالات وتوزيعها على الرئاسة والوزارات، مطالبين بوقفة تضامن مع الأشقاء الأزواديين، ومستنكرين الصمت على أفعال باماكو. لكن أحدا لم يتحرك، لإنقاذ هذا الشعب أو التخفيف من محنته، لا في الدول الغربية ولا الأمم المتحدة أو التجمعات الإقليمية، حيث لم تكن الصحوة العالمية لمؤازرة حقوق الإنسان وحماية الأقليات التي شاهدناها مع بداية انهيار الكتلة الشيوعية قد ولدت بعد؛ وذلك رغم وجود حركة تكاد تكون كونية يقودها اليسار، تدافع عن حركات التحرير في إفريقيا وفلسطين وفيتنام. والّفتة الوحيدة للدول الغربية ومنظماتها الإنسانية، كشركات الصليب الأحمر، كانت إرسال بعض المواد الغذائية والأدوية إلى حكومة باماكو، دون مراقبة على تصريفها، فاستحوذ عليها الضباط القابعون في السلطة، واستمرت المعاناة وتشعبت، ولم يلتفت أحد إلى أن جوهر المشكلة السياسي، حيث تصر حكومة على ممارسة التمييز على جزء من شعبها، والتخلي عن مسؤوليتها اتجاهه، مما يتنافى وواجباتها الدستورية وما يفرضه القانون الدولي والشرائع السماوية وتقاليد التعايش والمساكنة. بداية التشرد اكتملت هجرة سكان البادية إلى المدن والمراكز القريبة من مصادر المياه، وانتشرت الفروات وأقفاص الحشائش، على أطرافها، بينما أصر قسم منهم على البقاء في الأرض التي ألفوها، حيث بقيت على الألسن مآثر بعض رجالهم من تجار ووجهاء وزعماء قبائل بذلوا أموالهم وجاههم لمد يد العون لهم حتى تحسنت الظروف مع الثمانينات، ومن هؤلاء السلطان بادي بن حمادي. ولم تحرك السلطات الرسمية الحضرية ساكنا لتخفيف وطأة المجاعة على الواصلين الجدد، فآثر عدد من أرباب الأسر مواصلة الرحلة إلى الجنوب داخل مالي وإلى الدول المجاورة لها في الجنوب، وهكذا ظهرت في شوارع لاگوص وكوتونو ولومى وأكرا وأبدجان مشاهد غير مألوفة، وهي تسول صبية غرباء، بنين وبنات، بزي غير مألوف وبشرة بيضاء ينتشرون على قارعة الطريق، وعند إشارات المرور، لإعالة ذويهم الذين اختاروا أشجار الشوارع مأوى لهم. واتجهت أعداد من سكان المناطق الوسطى والشمالية مثل أُولمدَنْ والهگار وإفوقاس وكل السوق إلى مدن الجزائر الجنوبية كتمنغاست، وعشائر الاتحادية الكنتية إلى آدرار، حيث يرتبط هؤلاء وأولئك مع سكان الجنوب بوشائج القربى، فاستقبلتهم السلطات الجزائرية برحابة صدر، وآوتهم ووزعت عليهم بطاقة التموين التي انتشرت بين الأزواديين إلى عهد قريب، إضافة إلى ذلك لقي هؤلاء الترحاب من أبناء عمومتهم الجزائريين، فشكلوا جسرا للتواصل، وانتعشت التجارة وتبادل المنافع مع الإقليم وبدأ الاطمئنان يعود إليه بعد أن أصبحت أجزاء منه في حكم التابع للجزائر، التي ظلت على مدى سنوات لاعبا لا غنى عنه بالنسبة للمناطق المتاخمة لجنوبها، ونجحت في إقامة علاقات متميزة مع أولائك الجيران، رغم تربص الدوائر الغربية وإعلامها للصيد في المياه العكرة بين دول شمال إفريقيا وجنوبها. يتواصل |
|
08-02-2012, 08:09 PM | #7 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
جميل جميل جدا نشكرك اخي الخزرجي على النقل الكامل لمقال ونشكر الكاتب الكبير على مقاله الرائع
|
سوقي وأعتز شامخ الراس مايهنز أشوف المدينه ويضيع قلبي ويفز
|
08-26-2012, 11:25 AM | #8 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
أوراق عن أژواد/ السابعة/ الهجرة إلى ليبيا
ما أن حلت سنة 1973 حتى بدأت الهجرة الأژوادية تتدفق على ليبيا، قادمة من النيجر التي يشاطرها الحدود، والتي ظلت ملجأ سكان الإقليم، كلما ألمت بهم المحن، مثل الاحتلال الفرنسي، الذي هرب الناس في وجهه من أژواد فضاعفوا عدد العرب والطوارق الأصليين فيه، وازدادت اللحمة والترابط، حتى تحول النيجر رغم ظروفه الصعبة إلى ملجإ ومنفذ لهؤلاء المشردين. إن الوجهة الليبية لسكان جنوب الصحراء ليست سوى استمرار لصلات تاريخية قطّع أوصالها الاحتلال وحدُوده المصطنعة، فجنوب الصحراء يرتبط بعلاقات صمدت طيلة عصور الصحراء المناخية والسياسية الضاربة في أعماق التاريخ، من أبرزها في العصر الحديث، ما ارتبط بفتوحات الإسلام على يد عقبة بن نافع الفهري لفزان بجنوب ليبيا، في العقد الثالث من القرن الهجري الأول، حيث استقر الإسلام في بواديها وواحاتها وكَوَرها، فتشكل من سكانها العرب والكور أول الدعاة التجار إلى جنوب الصحراء: النيجر ونيجيريا ومحيط بحيرة تشاد، وذلك قبل انتشار الإسلام في أجزاء من غرب الصحراء بقرنين. يضاف إلى هذه الصلة روابط الدم بين طوارق جنوب الجزائر وأزود وأزواڴ، الذين هم امتداد لإخوتهم في ليبيا، كما لم تنقطع جسور التواصل بين مدن القوافل الليبية المتاخمة للصحراء كغات وغدامس المرتبطة بتادمكت وتغازة وتنبكتو، إلى حد أن لبعضها مضافات تستقبل قوافل الأخرى. كما انتقلت قرونا بعد الفتح من ليبيا إلى نهر النيجر وبحيرة تشاد، مجموعات من القبائل العربية المصاحبة للهجرة الهلالية، واستقرت بها، وهي اليوم موزعة بين الدول المحيطة بالبحيرة بفعل تقسيم الاستعمار: النيجر وتشاد والكاميرون ونيجيريا. ومع بداية التسرب الاستعماري إلى نهر النيجر والصحراء الكبرى ونهر شاري ووسط إفريقيا مع نهاية القرن 19 وبداية 20 اصطدمت قواته بأتباع الحركة السنوسية المنتشرة في النيجر وتشاد وشمال السودان، حيث حملت زعامة الحركة في بلدة الجغبوب بالشرق الليبي (بعد انطلاقها من موطنها الأول في الجزائر) لواء الجهاد، فأرسلت النجدات المعززة بالسلاح والعتاد والمؤن إلى تلك المناطق، التي تحالف فيها السكان المحليون من أتباع السنوسية أو زعماء العشائر الطارقية والعربية والكورية الغيورين على دينهم، فخلد التاريخ ذكر رجال منهم قادوا الجهاد ضد القوات الفرنسية والإيطالية وكبدوها خسائر فادحة، من أمثال محمد كاوصن أحد أبطال قبيلة أولَمدَنْ الطارقية الشهيرة بقوة الشكيمة، ورباح بن فضل الله الذي استشهد في تشاد. وجعل هذا الوضع الفرنسيين يعبئون طاقاتهم لمواجهته عبر قواتهم الغازية من غرب إفريقيا، وبعض الوحدات المرابطة في الجزائر ومخابراتهم (قنصلياتهم) في طرابلس وتونس واسطنبول، في خضم حملةِ دعايةٍ وتشهير ضد الطريقة السنوسية، حتى أن من يقارن بين الحرب على ما يسمى الإرهاب اليوم يتخيل أن التاريخ يعيد نفسه. ليبيا ترحب كانت غالبية هؤلاء من الشباب، جزء منها من مواطني النيجر، حيث دخلوا جميعا بدون صعوبة، سواء من له أوراق ثبوتية أو بدونها، وهم الأكثر، ونزلوا وسط ترحاب من المواطنين والسلطات في ولاية فزان التي ظلت تحتضن العدد الأكبر منهم في مراكزها الحيوية كعاصمتها سبها، ومدن بْراك وأُباري وغات ومرزڴ، قبل أن ينتقل منهم البعض إلى مدن الغرب: طرابلس والزاوية وغيرها في الجبل الغربي، بل انتشروا في الأرض الليبية وصحرائها الشاسعة، حيث تعمل شركات الإنشاءات ومشاريع الزراعة. وبشكل عام، ورغم بداوتهم، تكيف أكثرهم مع العمل اليدوي في المرحلة الأولى، لكن مشكلة تحويل الأموال إلى أهلهم في الصحراء شكلت مفاجأة غير سارة، إذ تشترط الشركات إقامة رسمية، لتسليم الرواتب ورسائل التحويل إلى البنوك، وهو أمر بالغ الصعوبة، إذ لم تكن أكثرية الأژواديين تحمل جوازات سفر، فأصيب الكثيرون بخيمة الأمل، وزهدوا في العمل، وتحولوا إلى أنشطة طفيلة أقل تعبا ومن ثم أقل مردودية، كرعي الماشية أو "الحجاب" أو التيفي" على هامش الحواضر العمالية وبعض المراكز الحضرية، قبل أن يتولى معظم ذلك النشاط فيما بعد، صغار تجار البيظان من موريتانيا ومالي الذين انتقلوا من دول إفريقيا الغربية طمعا في الربح في السوق الليبية الواعدة. موريتانيا: تعاطف في الداخل وحماية في الخارج عبّر العديد من الموريتانيين بمن فيهم المسؤولون عن عواطف جياشة تجاه الأژواديين في محنة الجفاف المشتركة، لكن من لجأ منهم إلى موريتانيا في السبعينات كان محدودا، وكان ينتمي في الغالب إلى المنطقة الغربية الجنوبية للإقليم المتاخمة للحوضين، وقد شاطرهم الموريتانيون عيشهم واستقروا كمواطنين لا يتميزون إلا للضرورة، منهم شباب متعلمون – على قلتهم – وُظّفوا رسميا في الإدارة، ووجوه سياسية وتجار ورجال دين من حفظة القرءان ونسّاخ مصاحف وكتب يكسبون من هذه المهنة العريقة التي كانت في طريق الانقراض في موريتانيا، بعد الاتصال بمراكز الطبع والنشر في العالم. أما الغالبية فكانوا مواطنين عاديين تحللوا في النسيج الاجتماعي المحلي. وفي هذه الفترة أقيمت علاقات دبلوماسية بين موريتانيا وليبيا، في خضم الانفتاح الليبي الجديد على العالم العربي، وفتح الحدود لاستقبال مواطنيه للدراسة والعمل، وبصورة خاصة أعطت طرابلس عناية كبرى للموريتانيين الذين انبهرت بثقافتهم العربية الإسلامية، وبسياسة الحكومة الموريتانية، خاصة في التقارب والتعاون العربي الإفريقي، فاعتبرتها الأكثر أهلية لتكون بوابتها إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما جنت طرابلس ثماره على الفور بفتح سفارات في أغلب عواصم المجموعة الناطقة بالفرنسية بتدخل من الرئيس المختار بن داداه، بينما دعمّت طرابلس نواكشوط اقتصاديا بفتح مصرف تجاري على الفور وتقديم وديعة إلى البنك المركزي، ومواكبة خطوات تأميم ميفرما، في وقت كانت وطأة الجفاف قاسية على البلاد، وعُقدت اتفاقيات في مجالات عدة، إحداها تنظّم العمالة والإقامة، ليفتح الباب أمام الطلبة والعمال وحركة التنقل المختلفة. وشمل الاهتمام الليبي بيظان أژواد والصحراء الغربية، وتصادف ذلك مع مولد حركة تحرير الصحراء الغربية ضد الاحتلال الإسباني التي تحولت فيما بعد إلى جبهة بوليزاريو، فاغتنمها الليبيون فرصة ليكونوا أول من يقدم لها الدعم العسكري الذي استخدمته في عملياتها الأولى ضد المحتل، وكان ذلك انطلاقا من نواكشوط، حيث ظل المسؤولون الليبيون يتندرون ب"الطيبة الموريتانية التي مكّنتهم من توريد أسلحة في صناديق مخصصة لكتب المركزين الثقافيين الليبيين في نواكشوط وأطار"!. وما أن حلت سنة 1975 حتى أصبح وجود الموريتانيين وبيظانهم خاصة مع إخوتهم من الصحراء الغربية ومالي والنيجر وطوارقهما ظاهرة ملفتة في ليبيا، مشكلين جالية واحدة، بعد ما فُتحت المعاهد الوسطى الليبية والجامعات للطلبة من جنوب الصحراء، ووصل عدد من معلمي القرءان الكريم وأئمة المساجد، ثم العمال وصغار التجار، وجاء الصحراويون في مجموعات من تلاميذ المدارس الابتدائية ثم الإعدادية، وبعض المتمرنين على السلاح (1975-1976) أما غالبية الجالية فتنتمي إلى أژواد وأژواڴ وجلها من العمال اليدويين. وبالإضافة إلى الترابط الثقافي والعرقي واللغوي بين هذه المجموعة، زادت اللحمة عبر العمل في الورشات والسكن ضمن التجمعات العمالية في المناطق الصحراوية، يعيشون المشاكل نفسها، فتوحدت المواقف إزاء المطالبة بالحقوق لدى الشركات، ومنها بصورة أساسية قضية تحويل ريع عملهم المضني، وكذلك الدفاع عن النفس خلال الاحتكاكت مع مجموعات أخرى أو مع أرباب العمل. وقد تمكنوا جميعا في المراحل الأولى من المحافظة على الصورة المشرّفة التي يحملها الليبيون عنهم، حسب توزيع صدر عن بعضهم: "الموريتانيون مسالمون، حملة علم وحفظة قرءان، والصحراويون أصحاب قضية، والماليون والنيجيريون – بعربهم وطوارقهم – مطارَدون، وهم رجال، لا يكذبون ولا يخافون". ولأسباب عديدة تعيّن على موريتانيا أن تكون الوصية على هذه الجالية، من ذلك وجود سفارة في طرابلس، والارتباط بعلاقات قوية مع ليبيا، من ضمنها الامتيازات المخولة لمواطنيها بموجب اتفاقية قنصلية، ثم لانعدام أية حماية لمواطني مالي الغائبة عن الساحة، والمتبرئة من مواطنيها عمليا، وتوتر علاقات حكومة النيجر مع مواطنيها العرب بعد محاولات انقلابية اتهمتهم بالمشاركة فيها، بينما ظلت مرجعية الصحراويين موريتانيا، إلى أن اندلعت حرب الصحراء في بداية 1976. وقد سهل الرعاية الموريتانية لهذه الجالية كون السفراء معتمدين لدى الدول المجاورة (النيجر وتشاد) وكذلك بوجود قنصلية عامة في مدينة سبها (1978) قبل أن تحول لاحقا إلى نْيامى، إلى جانب الشُّعبة القنصلية في السفارة بطرابلس، وتوفير الإمكانيات لموظفيهما بالتجوال في أماكن وجود العمال في الداخل ومتابعة قضاياهم مع الجهات المعنية، كما وفرت أسباب الإقامة لهم والتمتع بريع عملهم، وتحويله إلى بلادهم عبر البنوك التجارية، بعد ما عانوا من تغوّل الشركات الأجنبية، كما حمتهم من أخطار التجنيد، المخيمة على المقيمين العرب وبعض الأفارقة المجاورين ومن كل من ليست له حماية قانونية، وذلك في أوج حروب تحرير، أو صراعات داخلية في عدة مناطق من القارة وفي العالم العربي (فلسطين، لبنان، تشاد، السودان، جنوب إفريقيا، الصحراء الغربية). وكانت بداية الإقبال على الأوراق الموريتانية ما توفّر لعمالها من تسهيلات بفضل الاتفاقية القنصلية، التي على أساسها أصدرت السفارة بطاقة، أجازتها دوائر الأمن والجوازات ووزارة العمل، فزالت – إلى حد كبير – العديد من العقبات، رغم الجو المضطرب الذي تمر به الإدارة المحلية آنذاك نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية المستجدة. وعندما علم أهل أژواد وأژواڴ بالأمر اتجهوا صوب السفارة، على اعتبار أنهم موريتانيون، خاصة منهم البيظان، فاشتُرط في المرحلة الأولى حملهم لأوراق ثبوتية موريتانية كالجواز، الذي كانت غالبيتهم تحصل عليه ـ في فترة زمنية قياسية - من إدارة الأمن في نواكشوط، التي تسلمه لكل من يقدم الملف المعهود الذي يحصل عليه الناس دون عناء، عبر وسطاء من الأقارب أو السماسرة؛ وهكذا بدأت عملية انتشار الأوراق الموريتانية الثبوتية، وتحددت أثمان كل منها (جواز السفر، قيد الازدياد، شهادة الجنسية، البطاقة الشخصية، شهادة الإقامة، شهادة الخلوّ من السوابق، رخصة قيادة السيارة). وكانت التعليمات الدائمة إلى السفارات – التي بحوزتها بعض الجوازات قبل أن تُنزع منها صلاحيات الإصدار- تأمر بتسليمها لكل من يقدم ذلك الملف. وبعد سنة 1978 تفاقمت الظاهرة، التي كانت مقتصرة على الراغبين في العمل بليبيا، حيث لم تكن مسألة الهجرة إلى أوروبا قد بدأت، مما جعل العديد من السفارات تنبّه إلى خطورتها، ومنها بعثة طرابلس مصطحبة مع الرسائل – أحيانا - نماذج من وثائق رسمية موقعة ومختومة من جهات عدة تابعة للإدارة الإقليمية، دون ملء خانات الأسماء الشخصية أو العائلية - للتحذير من مخاطر العملية وضرورة وقفها. وعلى كل كانت موريتانيا في تلك المرحلة من أواخر الدول التي "طُرحت" أوراقها في "السوق" وأقلها عددا، ضمن منظومة إفريقيا الناطقة بالفرنسية التي ظلت جوازاتها إلى عهد قريب تباع بمبالغ زهيدة، وفي طليعتها مالي وزائير ونيجيريا، عكس دول لها خصوصيات تحافظ عليها، كالكاميرون والغابون وأنغولا ورواندا وبوروندي، أو الدول العربية الإفريقية أو معظم تلك الناطقة بالإنڴليزية، ولم تول الحكومات المعنية أهمية بالموضوع إلا مع تنامي الجريمة العابرة للحدود، واندلاع الحروب ضد ما سمي الإرهاب. البطاقة القنصلية (بناءً) انتشرت بين الموريتانيين والماليين والنيجيريين – كما سلف - البطاقة القنصلية، سواء كانوا من حملة الأوراق الموريتانية، أو من غيرهم، ممن تقطعت بهم السبل، فشوهد العديد من حملتها – مؤشّرة - في جدة، إذ كان بعض السفراء السعوديين يُغمضون أعينهم حتى "لا يَرُدّوا الموريتانيين عن زيارة الحرمين الشريفين". وترسخت أسطورة "بناءً" - كما سُميت - دون مثيلاتها التي تُصدرها سفارات الدول المرتبطة باتفاقيات مشابهة بليبيا، ولم تعد حكرا على من أنشئت لهم، بل وُجدت لدى بعض الجنسيات الأخرى، حيث تُنتزع صورة صاحبها وتوضع محلها صورة المالك الجديد، وطبقت شهرتها آفاق ليبيا وحيزها. وَوَجدت جميع الأطراف ضالتها في البطاقة، حيث وفرت على السلطات الرسمية الليبية الجهد، بوجود مرجعية قانونية مسجلة عليها، وأصبحت تضع عليها الإقامة بدل الجواز أحيانا، وذلك بلا شك رغبة في تسهيل أمر حملتها، ومساعدتهم؛ هذا في وقت لا تشكل فيه البطاقة وثيقة دولية معترفا بها، تكون لها تبعات قانونية محرجة، حيث لا تضم سوى النص التالي: "بناء على الاتفاقية القنصلية الموقعة بين الجمهورية الإسلامية الموريتانية والجمهورية العربية الليبية بتاريخ 13 شعبان 1393 هـ الموافق 10 سبتمبر 1973م والتي صدرت بقانون ليبي رقم 99 لسنة 1973م والتي تنص على حق مواطني الدولتين في مزاولة كل المهن والأعمال الحرة في كلا البلدين والدخول بدون تأشيرة - دخول وإقامة بدون حدود- إذا كانوا يحملون وثائق سفر معترف بها. ترجو السفارة الموريتانية بطرابلس من السلطات والهيئات في الجمهورية العربية - كل في ما يخصه – السماح بالإقامة والعمل لحامل هذه البطاقة". وقد استمر الإقبال على "بناء" إلى عهد قريب، رغم جميع المحاولات التي قامت بها السلطات الموريتانية، خاصة بعد انتفاء جل الأسباب التي ساهمت في انتشارها مثل وقف حرب الصحراء سنة 1978، وفتح سفارة لمالي في طرابلس سنة 1980. يتواصل |
|
09-02-2012, 07:03 PM | #9 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
أوراق عن أژواد/ الثامنة/ الترابط مع ليبيا
طاب المقام في ليبيا مع بداية ثمانينات القرن الماضي لطوارق مالي والنيجر وعربهم وبعض الموريتانيين، حيث وجدوا قواسم مشتركة مع المواطنين الليبيين، الذين عاملوهم بكرم وتسامح، وهو دين اشتهروا به على مدى التاريخ، حيث اكتشف الطرفان بعضهما البعض، فالوافدون بحاجة إلى العناية والاستقرار، وبعض القبائل الليبية متعلقة بأصول تربطها بالساقية الحمراء والصحراء، من هجرات مرتدة من تلك الأصقاع بعد ما وصلت مع الهجرة العربية (الهلالية) الشهيرة التي تشكل معظم عرب ليبيا. وفي ظل النظام القبلي الذي هو أساس الحكم في ليبيا آنذاك، كانت القبائل تتبارى في تعزيز مراكزها ضمن التنافس على السلطة والنفوذ، حيث اكتشفت أن للكثير منها صلات "قرابة" مع قبائل البيظان، وأرادت أن تعزز وضعها حتى ولو لم يتحقق من ذلك – في النهاية - الشيء الكثير. ويتكئ بعضهم في ذلك إلى روايات قديمة عن وجود صلات قرابة، كما الحال بين أولاد سْليمان في فزان وعشيرة أولاد سْليمان البربوشية، بينما يرى معظم الباحثين أن الأمر لا يعدو تشابها في أسماء القبائل العربية على طول أوطانها من الجزيرة العربية إلى الصحراء الكبرى. ومن ذلك في ليبيا وموريتانيا: البحيحات، أولاد إبراهيم، البريكات، الجعافرة، أولاد موسى، اليعاقيب (إيديقب) أولاد خْليفة، بنو داوود (أولاد داوود) بنو رزق (أولاد رزق) أولاد عطية، أولاد سالم، الشويخات، أولاد الشيخ، الطرشان، الفقرة، أولاد عبد الله، العبيدات، أولاد عْلي، العيايشة، القواسم، القرعان (الڴرع) أولاد مبارك، أولاد ناصر (أولاد الناصر) أولاد وافي (أولاد الوافي) الهماملة (الهمال) أولاد يونس... ومن هذه القبائل مَن اسمه واحد لكنه يختلف في الأصل إذ البعض عربي والآخر أمازيغي. أما بالنسبة للطوارق فالأمر أسهل، لأن الرابطة لم تنقطع بين مَنهم في شمال الصحراء وفي جنوبها. وساهمت القرابة هذه في اكتساء هجرة الطوارق الماليين والنيجيريين وعربهم في الثمانينات طابعا جديدا شجع على التحاق العديد من أسرهم بهم في ليبيا، حيث فُتح لهم باب التجنيس كبقية المواطنين العرب، باسم "الجنسية العربية" وهي غير الجنسية الليبية، التي اقبل عليها الكثيرون من مواطني الدول العربية الذين لم يجدوا فرصا في التمتع بالإقامة وحق العمل، فتوفرت لهم الخدمات نفسها التي يتمتع بها الليبيون: التموين ومجانية التعليم، ومزاولة بعض المهن، ولكن مع التجنيد في القوات وقوات الأمن، الذي يؤمن نظريا الحماية والنفوذ، لكن هذا الوضع لم يشمل في الحقيقة من الأژواديين والأژواڴيين سوى من ليست لهم أوراق ثبوتية تخولهم الإقامة أو البطاقة القنصلية، التي كان الليبيون يتحاشون مضايقة حمَلَتها. إلا أن هناك البعض الذي حصل على الجنسية الليبية، منهم مجموعة الطرشان النيجيرية ذات الأصول العربية الحسانية المهاجرة من موريتانيا إلى أژواد ومنه إلى النيجر، فقد التحمت بالمجموعة الليبية التي تحمل الاسم نفسه واستقرت في سرت إلى اليوم. الدخول إلى ساحات المعارك مع استمرار أوضاع مالي والنيجر في التدهور اقتصاديا واجتماعيا، ازدادت الاضطرابات والتناحر على السلطة في باماكو ونيامى وتوالت الانقلابات العسكرية أو محاولاتها، فتفاقمت أحوال العرب والطوارق بصورة أكثر، واستفحل البؤس، واتسعت الهوة بينهم وحكومتيْهما، التين لم تثق يوما في ولائهم، وظلت على مدى عقود من الزمن تتهمهم بتربص الدوائر بها، حتى قبل انخراطهم في عملية التجنيد. وقد تسارعت الأحداث ليتحقق ما كان مجرد اتهام، عندما دخلت طرابلس في حلبة الصراع الإقليمي والدولي المعقّد، ضمن طموح العديد من القوى الناشئة إلى ملء الفراغ، الذي تركه لاعبون كبار في الساحة، بعد أن ظلوا مهيمنين عقودا من الزمن، كمصر والهند ويوغوسلافيا (على رأس كتلة عدم الانحياز) وتزامن ذلك مع انفجار صراعات دامية في المشرق العربي بسبب محاولة إسرائيل القضاء على الثورة الفلسطينية، التي كانت في أوج عنفوانها، حيث نجحت في إرغامها على الانغماس في الشؤون الداخلية للدول المجاورة الضعيفة، فدخلت في صراعات دموية جانبية مع الأردن الذي كادت تطيح بنظامه، ثم مع لبنان الذي كانت فاعلا رئيسيا في حربه الأهلية، ثم المشكلة الأفغانية مع غزو الاتحاد السوفيتي لها، وتفجر الثورة الإيرانية، التي كانت مقدمة للحرب المدمرة العراقية الإيرانية. وقد أغرى هذا الوضع ليبيا التي كانت في أوج انفتاحها على العالم الذي جعلها قبلته، لما لها من ثروات نفطية هائلة، واستعداد لوضعها في خدمة أهدافها السياسية الطموحة، وخاصة محاربة السياسات الامبريالية، فانجرت إلى الدخول في مواجهات مسلحة مع مصر (سنة 1977) والسودان (1976) وتونس (قفصة 1980) وتشاد، وانخرطت في العديد من بؤر الصراع: جزر مورو بجنوب الفلبين، وباناما ونيكاراغوا، وأيرلندا الشمالية، مع أنها طرف – بشكل أو آخر - في حرب الصحراء الغربية. في هذه الظروف كانت طرابلس في حاجة ماسة إلى العنصر البشري، لاستعمال ترسانتها الضخمة من الأسلحة، فاتجهت إلى تجنيد الكثير من المواطنين العرب – كما سلف - الذين جذبتهم الحملة الدعائية الكبيرة التي تقدم ليبيا كقلعة للحرية والمقاومة ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والميز العنصري، بديلا لمصر جمال عبد الناصر، وهو ما استجاب له في بداية الأمر الكثيرون، وغالبيتهم تنتمي إلى منظمات سياسية معارضة لأنظمة قائمة في الدول المجاورة، مما عرّض طرابلس لضغوطٍ وتشهيرٍ إعلامي، أدى في النهاية إلى تسريح غالبيتهم، أو وضعهم مباشرة تحت تصرف منظماتهم، كما الحال في السودان وتشاد. وكان ممن بقي في جيشها من المجندين مجموعات من شباب أژواد وأژواڴ عربا وطوارق، شاركوا في عمليات خارجية، من أهمها الانضمام إلى مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982؛ ضمن قوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، حيث دخلوا في مواجهة مع الإسرائيليين في الجنوب اللبناني، الذي قاتلوه ببسالة، فسقط منهم عدد من الشهداء، ثم اتجهوا إلى الشمال لينسحبوا مع الجيش السوري إلى دمشق، لكنهم لم يلبثوا أن لجؤوا إلى السفارة الموريتانية - على رأسهم إياد آڴ غالي - لتؤمّن لهم الحماية والعودة إلى وطنهم. وقد حاول مبعوث من أمين الجبهة العام أحمد جبريل أن "يستعيدهم" لكنهم رفضوا الاستمرار في التعامل مع هذه الجبهة، التي اتهموها بالخَوَر، وأفرادَها بالفسوق، وهم الذين جاءوا "دفاعا عن الإسلام والمسلمين"، وقد رتبت السفارة سفرهم إلى الجزائر، الأقرب إلى وطنهم. ومع اشتداد الصراع بين ليبيا وتشاد سنة 1987، ووقوع قوة ليبية كبيرة في أيدي التشاديين في "فايا لارجو" و"وادي دوم" وشلل قوات الدروع والدبابات، وبروز فاعلية القوات الخفيفة المشكلة من سيارات الدفع الرباعي، المجهزة بالرشاشات والمدافع، اتجهت ليبيا إلى هذا السلاح، وإلى تكوين كتائب سريعة الحركة، كان فرسانُها بلا منازع الأژواديين، مثل الصحراويين قبل ذلك بسنوات. وقد شارك العديد منهم في معارك منطقة آوزو محل النزاع بين ليبيا وتشاد، قبل أن تعود إلى الأخيرة في تسعينات القرن الماضي بقرار من محكمة العدل الدولية التي أنيط بها الملف؛ كما شارك عدد محدود من رجالهم في العمليات المسلحة في أزواڴ وخاصة أژواد من سنة 1990 – 2006 ضد حكومتيهما، مع العلم أن السلطات الليبية ظلت حريصة على منع انتقال أعداد مؤثرة من الرجال والسلاح إلى الدولتين، التين ارتبطت معهما بعلاقات قوية، وجعلتهما حجر الزاوية في سياستها بإفريقيا التي استثمرت فيها طاقات سياسية واقتصادية كبيرة، فألجمت أي محاولة جادة تنطلق من أراضيها لتهديد الحكومتين، إلى جانب معطى آخر هو احترام تفاهما مع الجزائر بأن لا تتعدى حدودا معينة في نشاطها داخل الإقليمين، حتى أنها أغلقت قنصليتها في كيدال بعد فترة قصيرة من فتحها بضغط جزائري. وقد أثبتت الأحداث اليوم أن أژواديي ليبيا كانوا يحضرون أنفسهم من زمن طويل لانتهاز أول فرصة تتاح، للعودة إلى صحرائهم وتحقيق حلم الأجيال بإقامة كيان ينعمون فيه بما حُرموا منه خلال نصف قرن:الحرية والكرامة، واستعادة الهوية الثقافية والدينية، وقد توفرت هذه الفرصة بعد اندلاع ثورة فبراير الليبية سنة 2011، وقيام حلف شمال الأطلسي بشن غاراته المدمرة، حتى سقط النظام، مما قلب الموازين في الإقليم وفي المنطقة بأسرها. فانتقل الأزواديون دون عناء إلى وطنهم ليطردوا الجيش المالي بسهولة مذهلة، وبتنسيق كامل ومحكم بين الفصيليْن الرئسييْن حركة تحرير أزواد، وحركة أنصار الدين، ويحكموا سيطرتهم على الإقليم المترامي الأطراف، ومدنه وبلداته، وذلك رغم التباين في الأهداف المعلنة، فالأولى علمانية لا ترضى بغير الاستقلال بينما تعلن الثانية أن مطلبها تطبيق الشريعة الإسلامية ولا تتحدث عن الانفصال. يتواصل |
|
10-29-2012, 01:31 PM | #10 |
|
رد: "أوراق" عن أژواد/ محمد محمود ودادي
أوراق عن أژواد/ التاسعة/ الانتصار العسكري والتركة الثقيلة/
محمد محمود ودادي كان من نتائج سقوط النظام الليبي - التي فاجأت الجيران ودول حلف شمال الأطلسي - خروج تشكيلات أژوادية مدججة بالسلاح من رحم القوات الليبية، وقطع آلاف الكيلومترات عبر النيجر وربما الجزائر، لتأخذ مواقعها نهارا جهارا في أرض أژواد، وتباشر استعداداتها الحربية أمام أعين القوات المالية المرابطة في قواعدها المختلفة، وتحتل بسرعة البرق كامل إقليم أژواد، وتنهي وجود الحكم المالي جيشا وإدارة. ومن الواضح في هذه الملحمة إحكام الخطة التي وضعت لتحقيق أهدافها المصيرية، دون خسائر تذكر، بفضل الكفاءة العسكرية، وانضمام غالبية المقاتلين الأژواديين العاملين والمسرّحين والمنخرطين في الجيش المالي، واختيار الوقت الأنسب، حيث كان الجميع منشغلا بما يجري داخل دول الربيع العربي، دون أن يرفعوا البصر صوب حزامه الجنوبي، حتى يروا حراكا ربيعيا آخر على يد فصيل من هذا النسيج الاجتماعي والبيئي العربي الإفريقي الإسلامي، الذي عانى منذ القرن الثامن عشر الغزو الاستعماري الصليبي والذي استعبد السكان ونهب الخيرات، وحارب الدين واللغة، ومسخ الهوية وحطم أسس المجتمع الأهلي، قبل أن يضطر كارها - في أحيان كثيرة- إلى الانسحاب تحت ضربات المقاومة التي لم تتوقف وإن تعددت أشكالها، ويغادر - في أحيان أخرى - بترتيب مرتب، يضمن استمرار النهج على يد أنظمة حارسة لمخلفاته. لقد كان من الجلي أن الحركات الأژوادية قد استوعبت دروس نضالها الطويل الذي شاب فيه الولدان، والنكسات التي تعرضوا لها، خاصة ثورة 1990 التي قادتها حركة تحرير أژواد بزعامة إياد آڴ غالي، قبل أن تتفرق إلى خمسة فصائل موزعة الولاء - الكلي أو الجزئي - بين الدول المجاورة (الجزائر، ليبيا، المغرب، بوركنا فاصو، موريتانيا) لتكون ثمرةُ التضحيات الجسيمة التي قدمها المقاتلون والشعب الأژوادي في الداخل وفي المهجر، رزم من الاتفاقيات والالتزامات، التي صدرت عن مؤتمرات جُند لها عشرات الدبلوماسيين، وأظلتها منظمة الأمم المتحدة، بمشاركة المنظمات الإقليمية، والدول المجاورة والمانحة. وكل ما تحقق تظاهرات دعائية فولكلورية، أهم مشاهدها حرق السلاح، ووعد بماكو بإقامة حكم أقل مركزية، والتزام المانحين بتقديم مساعدات اقتصادية لتنمية الإقليم وفك عزلته وربطه بمسيرة التنمية في مالي، غير أن كل ما نُفذ إنشاء ولاية جديدة على الورق في كيدال، بدون موارد ولا تجهيز، وضمِّ مجموعة من المقاتلين إلى الجيش المالي، واكتتاب بعض صغار وكلاء الإدارة، بينما استحوذت الحكومة المركزية على المساعدات المقدمة من المانحين، واكتتاب الأمم المتحدة بعض زعماء الجبهات المقاتلة. لذلك لم يكن أمام زعماء الحركات الأژوادية بعد عقدين من اتفاقيات تمنغاست ومماطلة الحكومة سوى الدخول في هذه المغامرة الكبيرة ورفع سقف مطالبهم هذه المرة إلى أقصاه، وهو الاستقلال (حركة تحرير أژواد) أو تطبيق الشريعة الإسلامية في مالي كلها (أنصار الدين). وكان من المنطقي – لو في مالي حكومة مسؤولة – أن تُقر بالأمر الواقع وتتعامل مع الوضع الجديد بحكمة وصدق في النيات، وتبدأ مفاوضات فورية بعد أن أعلن الطرف الثاني استعداده لها، لكن عادة السلطة المالية التعنت والاعتماد على العنف، وهو ما تغلب هذه المرة أيضا. في هذا الوقت دخلت على الخط فرنسا، الوصي المعتمد على مستعمراتها السابقة، فشجعت انقلابا عسكريا على الرئيس المنتهية ولايته، ودخلت في اتصالات علنية مع حركة تحرير أژواد، موحية بأنها خاضعة لها، عندما تدخلت بقوة لمنع تنفيذ اتفاق بين الحركة وأنصار الدين ينص على أن الدولة الجديدة ستطبق الشريعة الإسلامية. وبذلك دقت إسفينا بين الحركتين، مما عجل بإبعاد حركة تحرير أژواد عن الساحة، وتوزيع النفوذ بين أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، وخلق حالة من الفوضى في بماكو بعد أن تبين أن قائد الانقلاب عاجز عن تحقيق ما كانت تعلق عليه من آمال، فتحملت بذلك مسؤولية في ما يجري اليوم في بماكو من فوضى سياسية وانفلات أمني، وإفلاس أخلاقي كان آخر تجلياته قتل الدعاة. لقد كانت تصرفات فرنسا خلال سنوات ساركوزي في الإقليم عودة فجة لممارسات خلية "فرنسا - إفريقيا" التي حمت الأنظمة الفاسدة وضمنت لفرنسا الاستيلاء بأقل ثمن على خيرات تلك الدول، وخططت ونفذت معظم الانقلابات التي أطاحت بكل من شب عن الطوق، وحاول الإصلاح في بلاده. العلاقة بين السلطة والجريمة المنظمة كان آخر رئيس لمالي هو الجنرال أمدو توماني توري، الذي قضى مأموريتين رئاسيتين، وهو قائد انقلاب 1991 على الجنرال موسى تراورى، حيث تفاهم مع زعماء الحراك المدني على أن يعود إلى السلطة بعد الرئيس المدني عمر كونارى، وظل مدلل الغرب لقبوله الانتظار حتى حلول فرصته، وارتبط بدوائر صنع القرار، ومنظماته المشرفة على ترسيخ أنموذج النظام الغربي للحكم في القارة، وترميم ما تهرأ منه، مثل مركز كارتر والمعهد الأمريكي للديمقراطية، وغيرهما من المراكز والمنظمات الممولة من مؤسسات الغرب، وأصبحت البلاد أحد أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بصورة فردية، لتكون واجهة في غرب إفريقيا، ومضرب مثل في الحكم الرشيد المسالم، الزاهد في السلطة! حيث لا يملك الرئيس حزبا وبالمقابل لا يواجه معارضة، وإنما الجميع في أغلبيته، مما خلق فراغا سياسيا: لا نقاش ولا جدل ولا حوارا، الكل حر في الانهماك في شأنه الخاص، على حساب قضايا الوطن. وفي هذا الجو انتشرت الجريمة المنظمة: التهريب والاتجار بالمخدرات و السلاح واختطاف الرهائن والهجرة السرية، وكلها شكلت أنشطة مربحة للمتنفذين في الحكم. كان التهريب قد انطلق ابتداء من تسعينات القرن الفائت من الدول المجاورة ذات المنافذ البحرية: موريتانيا وسنغال وغينيا وساحل العاج وغانة وتوغو وبنين ونيجيريا والجزائر، أو البعيدة كليبيا والمغرب، وشمل في مراحله الأولى السلع المختلفة من مواد غذائية مدعومة (في ليبيا والجزائر) ومحروقات (جزائرية) وأدوية، وملابس وسيارات ... وخاصة السڴائر التي ساهم تهريبها إلى حد كبير في ظهور شبكات المخدرات. وقد ازدهر في أسواق شمال أفريقيا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بسيطرة قلّة من اللاعبين الكبار. وزوّدت تلك المستوردة منها عبر موريتانيا جزءاً كبيراً من الأسواق الجزائرية والمغربية، في حين تم توجيه تلك المستوردة عبر كوتونو في بنين ولومي في توغو، عبر النيجر وبوركينا فاسو، إلى ليبيا والجزائر. وأطراف هذه التجارة الفاعلون هم موزّعوها القانونيون، الذين يستوردونها من مناطق التجارة الحرّة مثل دبي، بدل الدول المصنعة لها مباشرة#. إن دوافع تهريب السلع وتجارتها فروق الأسعار بين الدول وتجنّب الرسوم والضرائب، وجرت بتواطؤ من فاعلين في المؤسسات الجمركية، قبل أن تنتشر في مختلف الإدارات المعنية، وتتغلغل في أجهزة الأمن والرقابة وفي قوات الجيش، وتصعد إلى الصفوف العليا في المؤسسات الحاكمة لبعض هذه الدول. و ما أن حلت الألفية الجديدة حتى حلت المخدرات محل البضائع القانونية، وتدفقت بسرعة من مصدريْن رئيسييْن: جنوب أمريكا عبر موانئ دول غرب إفريقيا: الكوكايين، وصمغ الحشيش من المغرب عبر موريتانيا أساسا، وأصبحت مالي أكثر الدول المتلقية لهذه السموم، وفي منطقتها الحدودية مع الجنوب الشرقي الموريتاني أقيم أشهر مركز لهذه الأنشطة هو أمگدي. ومع قيام تمرد ضباط طوارق في الجيش المالي في كيدال سنة 2006 ضد الحكومة المتهمة بعدم الوفاء بالتزاماتها المتكررة، ظهرت على السطح الصراعات بين شبكات تهريب المخدرات، وبينهم والمجموعات المهيمنة على المنطقة التي تسعى لفرض إتاوات على المهربين، الذين تفاحش غناهم ومعه بطرهم. وهكذا أصبح الإقليم وما جاوره بؤرة بؤرة لتجارة المخدرات وتوزيعها الذي يغطي المشرق حتى السودان ومصر والسعودية ودول الخليج، وأنحاء من أوروبا. وقد دخلت حكومة بماكو على الخط بعد تمرد 2006 "فحرضت قادة بعض الجماعات ضد جماعات أخرى، واعتمدت على قبائل محددة للإبقاء على منطقة الشمال تحت السيطرة. ولمواجهة قبيلتي إيفوقاس وإيدنان اللتين ينتمي إليهما المتمردون تحالفت القيادة المحيطة بالرئيس أمادو توماني توري، مع المتمردين المنافسين، وخاصة منهم القيادات المنتمية إلى قبائل البرابيش والامهار العربيتين، وكذلك إلى قبائل إيمغاد الطارقية. في بعض الأحيان كان المسؤولون في الدولة يتدخلون بشكل مباشر، كما فعل المقدم لمانه ولد ابّوه (ولد محمد يحيى) - وهو ضابط في جيش مالي له علاقات وثيقة مع رئيس جهاز أمن الدولة - خلال اشتباك وقع في أغشت 2007 بسبب شحنة كوكايين، حيث رتّب عملية إعادتها مقابل مبلغ مالي كبير، كما شجعت الحكومة شخصيات عربية بارزة من مناطق تنبكتو وگاوو على تشكيل مليشيات لحماية مصالحها التجارية، وذلك ضمن تعبئة الزعماء العرب لمحاربة المتمرّدين؛ وترأس هذه القوات مؤقتا ضباط من الجيش المالي، هو العقيد محمد ولد ميدو. ويمكن ملاحظة العلاقة بين الوجهاء المحليين والدولة ورجال الأعمال، وتجارة المخدرات في شحنة الكوكايين الضخمة المفترضة، التي تم نقلها في نومبر 2009 إلى شمال مالي على متن إحدى الطائرات، التي هبطت في منطقة تاركنت، شمال گاوو. ويعتقد أن وجهاء الأمهار على الأرجح – كما يقول صحفي جزائري على صلة بدوائر الأمن - هم الذين تعاملوا معها، وعلى رأسهم عمدة البلدة. وقد وصلت التوتّرات إلى ذروتها في يناير 2010، عندما استولت مجموعة مسلحة مكونة من أفراد من قبيلتي إيفوقاس وكنته على شحنة كوكايين كبيرة كان ينقلها مهربون متحالفون مع الحكومة من قبيلتي إيمغاد والأمهار، الذين ردوا بخطف زعيم كنتي في منطقة گاوو. كان لمثل هذه الصراعات المرتبطة بالتهريب بُعد سياسي أوسع أيضاً. فشقّة الخلاف التي كشفها الحادث الأخير ترتبط بالانقسام بين حلفاء القيادة في مالي وأعدائها. وعلاوة على ذلك، كانت قبيلتا الأمهار وإيمغاد تابعتين تاريخياً لقبيلتي كنته وإيفوقاس، على التوالي. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها صراعات تنطوي على تنافس بشأن علاقة التبعية. فقد اندلعت اشتباكات خلال التسعينات، حتى بعد انتهاء تمرّد الطوارق. وقد وقعت عملية مشابهة في منطقة تنبكتو، ونجحت الشخصيات المرتبطة بتهريب المخدرات في الضغط على قيادة مالي لإنشاء منطقة إدارية منفصلة (تاودني) وعدة مناطق جديدة في سياق عملية إصلاح إداري تم اعتمادها قبل اندلاع التمرّد الأخير مباشرة. وبالإضافة إلى ذلك، تم في كثير من الأحيان استثمار الأرباح المتحققّة من التهريب في الماشية والبنية الأساسية المرتبطة بها، مثل الآبار، ما أفضى إلى تأجيج التوتّرات بين المجتمعات على الموارد"2. وكان المراقبون الخارجيون وخاصة المسؤولين في الدول المانحة يغضون الطرف عن علاقات المسؤولين في الدولة والقادة السياسيين بالشبكات الإجرامية حتى لا يضعوا النظام في ورطة، وهم يعولون عليه في مواجهة الحركات المسلحة، التي يوليها صنّاع القرار في الغرب كل اهتمام بوصفها منظمات إرهابية. يتواصل..... ******* 1 مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، نشرة شتنبر 2012 2 المرجع السابق، والصحافة الإلكترونية الموريتانية |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
فصول من حياتي | السوقي الخرجي | المنتدى العام | 84 | 02-11-2013 11:45 AM |
الهوامش على ( أوراق سوقية للشيخ الخرجي ) | الدغوغي | المنتدى التاريخي | 4 | 09-04-2012 07:11 PM |
أمراء وقضاة أروان | التنبكتي السوقي | منتدى الأعلام و التراجم | 3 | 05-11-2012 07:44 PM |
تعاليق على مقال محمد أغ محمد : فرق بين الفرار والجهالة | أداس السوقي | المنتدى الإسلامي | 14 | 02-11-2012 09:31 AM |
محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني | الخزرجي السوقي | منتدى الأعلام و التراجم | 2 | 01-09-2012 08:31 PM |