324. أنار / المنير بن حماد الإدريسي التبورقي السوقي :
هو الشيخ المنير ويعرف أيضا بأنار ابن حماد بن مُحمد ابن مَحمدْـ ابن سيدي بو بكر ينتهي نسبه إلى الشريف إبراهيم الدغوغي(1) .
قال الشيخ العتيق : ولد عام ألف وثلاث مائة وستة وثلاثين 1336هـ وتربى في حجر والده الذي هو شيخ الشيوخ في وقته وتعلم من آدابه ما يحتمله سنه فإنه لم يبق معه إلا ثمانية عشر عاما ، وتعلم العلوم الشرعية على شيوخ من حيه منهم الشيخ محمد بن محمد محمود ، والشيخ محمد بن نوح والشيخ المحمود ، وكان حريصا على حضور مجالس العلم التي تعقد في حيه دائما ، تارة يحض مجلس التفسير وتارة مجلس الفقه وتارة مجلس تدريس الأصول الفقهية ، وكان سابقا في علوم الأدب واللغة العربية وأحب العلوم إليه بعد علوم القرآن الحديث النبوي فإنه كان يقرأه تفقها ، وكان الناس قبله يهابون العمل بالحديث فيقرءونه تبركا لا تفقها لما يقال من أن المقلد محجور عليه لا يجوز له أن يخرج عن مذهب إمامه ويعمل بالحديث وإن كان صحيحا إلا معارض له وإن التقليد هو الواجب في العصور المتأخرة لا يعدل عنه إلا ضال مضل ، وهذا القول هو الذي سبق إلى قلوب أهل البلد وتمكن فيها حتى صار بعض المتفقهة ينكر على من عمل بالحديث ، وكان الشيخ المترجم لا يرى ذلك الرأي ولا ينقاد له لكن لا يخاصم أهله بل تركهم وماهم عليه وأقبل عليه وأقبل على الاشتغال بالحديث قراءة وتفقها وقلل من قراءة كتب الفقه وإعانة على التقليل من قراءة كتب المتأخرين أنه لا يفصل بين الخصوم ، وفتح بعمله في كتب الحديث بابا مسدودا قبله فتبعه من بعده من المتعلمين واقتنوا كتب الحديث وشروحها لتعلمها والاستنباط منها على سبيل السلف الصالح وأعرضوا عن أقوال المثبطين عن تعلمها ، فعسى أن يكون له من الأجر ما يكون لمن سن سنة حسنة فكان من يعده من علماء قومه يجمعون بين الفقه والحديث يخلاف من يقتصر في تعلم الفقه على مختصرات الفروع ، فجزاه الله عن المسلمين خيرا . ولما مات والده واتخذ الناس أخاه المحمود خليفة له كان له عضدا يعاونه ويشد أزره وحاول أن يقوم عنه بكل أمر يشق عليه من أمور العامة والخاصة لكي يتفرغ هو لما هو الأهم عنده من التصنيف والإرشاد وتعاونا على ما تصلح به أمور العامة والخاصة وتسابقا في المكارم والإحسان إلى الخلق ، وأيضا النفع إلى القريب والأجنبي والصديق والعدو . وسمعته مرة يقول لولا القيام بمؤنة ضيوف أخيه لم يقتن مالا ولم يدخر شيئا ، وكان كل منهم برا بصاحبه ويعتقد كل منهما في الأخر أنه بمنزلة والده في وجوب البر يجب له عليه مثل ما يجب عليه للوالد كانا كذلك منذ خلفهما والدهما إلى أن مات الأخ الأكبر فأقامه الناس مقامه وصار إليه حظه من الميراث وتم له الأمر ولم يحدث بعده ما يحدث الخليفة بعد استخلافه لأنه لم يزل مشاركا له في الأعمال التي يقوم بها فاستمر على حاله ، وأكبر مهماته التعلق بالمصحف في كل مناسبة وفي كل حال من الخوف والأمن لا يشغله شيء عن النظر في المصحف ويشغله النظر فيه عن كل شيء ولا يفارق كتب التفسير ، وربما فهم من الآية معنى دقيقا لم يدركه غيره ولم يره في كتب من قبله بل بطريق الإلهام والفتح الرباني . ولما ضعف في آخر عمره عن النظر في المصحف كما كان يعمله في أيام قوته جعل يأمر بعض الحفاظ أن يقرأ عليه ويستمع مه وكان من عمله الذي لم ينقطع إلى آخر أيامه أن يجمع أهل القرآن ليقرءوا القرآن كله في داره بكرة وعشيا . والأهم عنده بعد المصحف السعي في نفع المسلمين بالإحسان إلى الجيران وكفالة الأيتام وإنكاح الأيامى والقيام بالضيوف بالقرى وبالإجازة ، وبسطت عليه الهدايا ما شاء الله فبسطها على الأقارب والأجانب وكان من سنته تأليف القلوب بالعطايا الجسيمة والإحسان إلى غير المخلصين له فكان يعطي من يعرف منه عدم النصح يستثقل الناس إحساناته إلى من لا يرونه أهلا لها ولكن لا يلتفت إلى قولهم بل يحسن من ينكرون إحسانه إليه وربما كانت إحساناته إلى بعض أهل القوة والفساد سببا لدفع عدوانه عن الناس عموما وخصوصا من له علاقة بالشيخ ثم يصير بعد ذلك من محبيه المخلصين ، ومن سيرته أنه لا يرد الهدية فمن يخاف أنه إذا ردت عليه هديته ساءة ذلك فغضب ويحدث إلى بعض الناس شرا بل كان يوهمه أنه يحبها ويظهر له الشكر ويأخذها ويصرفها في بعض أمثال الهدي ممن لا يبالي بما يأكل . مثلا إذا أهدى إليه بعض الحكام مالا قبله وادخره ولا ينتفع به حتى يأتي بعض أمثاله وكانوا كثيرا ما يفدون عليه بعضهم لطلب الحوائج وبعضهم للتبرك وطلب الدعاء ، وربما يستصحبون معهم الهدايا فإذا أتاه منهم طالب حاجة أعطاه من هدية إخوانه التي يعجبه الانتفاع بها ولا يعجبه ردها على مهديها لئلا يتأذى بردها عليه ، وربما أتيته فيقول لي اليوم أعطيك من الحلال الطيب فإني لا أريد أن أعطي مثلك إلا الطيب ، وقال لي إن لي وعاء مختصا بالحلال لا أخلط ما فيه مع الهدايا التي تأتي من بعض من لا آمنهم . وكان يحب أهل العلم ويعظمهم ويسبغ عليهم العطايا . وأما الإحسان إلى اليتام فله فيه طريق لم أر مثله لغيره وهو أنه إذا وصلى المغرب وما بعده من النوافل استحضر أيتام حيه فيطعمهم وإن كان الزمان زمانا يقتات الناس فيه باللبن بدأ بسقيهم قبل صغار أولاده ولا يسقي أولاده إلا بعد فراغه من سقي الأيتام ، ومن العجب أن الصغير من أبنائه إذا جاوز ثلاث سنين دربه على أن لا يشرب إلا بعد شرب الأيتام فيرضى الصغار بذلك ويتدربون على إيثار الأيتام على أنفسهم ، وصحبته مرة في سفرة قصيرة حتى نزل على بعض إخواننا فلما صلينا المغرب قال لبعض رجال الحي أن لي وردا لا أريد أن ينقطع وهو مبادرة سقي الأيتام أول الليل فعجل إلي اللبن فأتاه باللبن عاجلا فقال له إئتني بيتيم أو أيتام أسقيهم فقال له الرجل كل يتيم في حينا له من اللبن ما يزيد على كفايته فتأسف لما فاته من سقي الأيتام في تلك الليلة . وأما قرى الضيف فله فيه أيضا طريق غريب وهو أنه لا ينتظر بالقرى أن يحضر الضيوف بل يهيئ ما قدر له من أنواع الضيافات ثم ينتظر من يأتيه فإذا حضروا عجله إليهم قبل الوقت المعتاد فيه ذلك وإذا أتى عليه وقت الغداء ولم يحضر عنده ضيف وذلك من النادر ، قال لبعض جيرانه كن ضيفى في هذا اليوم وخذ حق الضيوف . وأما إجازة الوفود فكان يعتني فيها بما لا يعتني به غيره وربما اجتمعت عنده جماعة مختلفة الأجناس أو البلدان أو الأعراض فيجيز كلا منهم بما يناسبه ، قال لي مرة ما معناه لا تنس أن إجازة الوفد مما وصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم " وكان غيره من سائر أهل البلد إنما يعتنون بالضيافة وأما الإجازة فلا تكون إلا من قليل لقليل ممن تشهتد بينهم الروابط ، وقال لي مرة إن الشيخ الوالد حماد رضي الله عنه أتيته يوما وأنا أقرأ أول الكافية فقال لي يا فلان اجتهد في نفع المسلمين فإن الله لا يسألك عن سبب ضرب زيد لعمر ، فبذل جهده بعد ذلك في الخدمة للمسلمين وعاش بعد والده ستين سنة لم يزل يبذل فيها جهده في إصلاح أمور المسلمين عامتهم وخاصتهم حتى أكرمه الله بالشهادة فعاش سعيدا حميدا ، ومات شهيدا لسبع عشرة خلت من جمادي الأولى عام أربع مائة وخسمة عشر 1415هـ تغمده الله برحمته آمين(2) .