|
المنتدى الأدبي ميدان للإبداع خاطرة أدبية أوقصة أو رواية أو تمثيلية معبرة أو مسرحية أو ضروب الشعر وأشكاله |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
إضاءة: - التحريف الأسلوبي: مصطلح نقدي أسلوبي، جاءت به جماعة مو le groupe mu، وهو مرادف لمصطلح الانزياح، لدى فاليري، وريفاتير، كما يرادف نوعاما مصطلح (المجاز، والعدول، والتوسع) عند القدامى. إنه مصطلح مائع كما يقول المسدي، بحيث يصعب تحديده إلا بوضعه إزاء مقابله، ويتضح ذلك فيما يلي: للغة مستويان أواقعان، واقع أصلي، وواقع عرضي، وهو الذي يسميه المسدي ب(الاستعمال النفعي للغة)، واطلق على كلا الواقعين عدة أسماء، منا: الواقع الأصلي اطلق عليه: الاستعمال السائر، والاك وفاران. ( l usagr courant) wellek et werran النمط، ريفاتار، (la norme), Rifettare الخطاب الساذج، جماعة (مو)، ( le discourse naïf) le groupe (mu) الواقع العرضي أطلق عليه: الاختلال، والاك وفاران، la distorsion) الانزياح، ريفاتار، (l` ecart)) التحريف، جماعة (مو)، (l` alteration) هكذا رأينا (الاختلال) مقابل (الاستعمال السائر) عند والاك، وفاران، و(النمط) مقابل (الانزياح)، عند ريفاتار، و(التحريف) مقابل (الخطاب الساذج) عند جماعة (مو). ويشير البلاغيون إلى هذا التقسيم عندما يقولون : (الحقيقة/ المجاز). ومن الدراسات الهامة في الموضوع دراسة الدكتور بسام قطوس، في كتابه ـ استرتيجيات القراءة ـ بعنوان: "مظاهر الانحراف في مجموعة الشاعر البردوني {وجوه دخانية في مرايا الليل}" ويعرف (الانحراف) بأنه: (ظاهرة أسلوبية ونقدية، وجمالية، يعنى بها النقد الحديث، وإن كانت موجودة في نقدنا العربي القديم، من خلال الاستعارة، والمجاز، بمسميات كثيرة، منها التوسع، أو الاتساع، والعدول). وهناك مصطلح يزاحم (التحريف) في التطبيق، وهو (التغريب) عند الشكلانيين، فإنه (يقصد به نزاع الألفة مع الأشياء التي أصبحت معتادة، أي مضاد لما هو معتاد). فمن أهم المميزات الشعرية إذن: التحريف، التوتر، المفاجئة، الدهشة، توليد اللامنتظر. إذا اتضح هذا كما أرجو فإنه تنبغي الإشارة إلى أني اخترت هذا االمصطلح (التحريف)، دون بقية المصطلحات، مثل (العدول/ التوسع...)، مع أنهما أصيلان في تراثنا، لأني أود اللفت منذ البداية إلى أني في حقل منهجي جديد، (الحقل الأسلوبي)، وهو حقل لم يرض رواده أن يكون صورة طبق الأصل (للبلاغة)، فالأسلوبية بديل عنها في عصر البدائل، كما يقول المسدي. كما أنني لم أختر مرادفه (الانحراف) إشارة إلى أن ظاهرة التحريف لا تأتي عفوية، بل هي مقصودة، كما أوجبه بعض الباحثين، إلا أن التحريف المقصود، تنتج منه انحرافات غير مقصودة. اهتممت بمتابعة مظاهر التحريف، في هذه القصيدة، مستفيدا من الشكلانية، في نظرتها إلى (الشكل)، وإعطائه أهمية كبرى، دون إغفال (المضمون)، وبالتالي إبراز (أدبية الأدب)، ومن هنا كذلك عنيت بأدوات (التغريب)، " القافية، والإيقاع، الجرس، المفردات، البنيات، اللغة عامة".كما استفدت من البنيوية الاهتمام ب(العلائق) والربط. تلك هي المنابع التي استقيت منها، وهي المنارات التي وضعتها أمامي، وأنا أقرأ هذه القصيدة، فروافدي إذن: البلاغة، الأسلوبية، الشكلانية، البنيوية، اللسانيات عموما. مع أن المنهج المتبع حقيقة أولا وآخرا هو الأسلوبي. الإجراء التطبيقي: يبدأ شاعرنا بالتحريف من العنوان : (صور من تمثال المجد)، فإن اللغة العارية لا تسند للمجد تمثالا، فضلا عن أن تنحت لذلك التمثال صورا، ولكن الشاعر يبدأ باللعبة اللغوية، والتشويه الأسلوبي بهذه الصياغة المحددة لموضوع القصيدة، ولو قال: صور من مجد السوقيين. لما خيبت اللغة أفق الانتظار لدينا، ولما حركت منا حاسة الذوق الجمالي. وهكذا يبدأ الانحراف الأسلوبي من العنوان لينسحب على القصيدة كلها. تتحدد بينة النص من بنيتين كبيرتين، أو قصيدتين كما سيتضح، تندرج تحتهما بنيات فرعية، والأولى هي بنية (السوق) من البيت 1، إلى 14، والثانية بنية (الملتقى السوقي)، من البيت 15، إلى آخر القصيدة 27، علما بان آخر القصيدة اشتمل على الاعتذار عن عدم الحضور، وتقديم القصيدة كبديل عن الحضور. بنية السوق: السوق في ساحة الأمجاد تمثال ** مرآه في شاشة الصحراء أطلال حشد الشاعر جميع المكونات الشعرية في هذا المطلع، ليخلب ألبابنا، علنا نستمع لتنهداته كلها، وهل تمكن منا؟ وكيف؟ كل متلق لهذا البيت يشده إليه، ليس لأنه اشتمل على الوزن الصحيح، ـ البسيط ـ والروي، والتصريع، وتركيب كلمات متعانقة، ليس لهذا فحسب، وليس لأن الموسيقى الداخلية، وما تمنحه حروف المد كلها (واي) في البيت ـ عشر مرات ـ من انسياب غنائي رتيب، ومن عجائب الإبداع العفوي أنها مقسمة بين الصدر والعجز بالعدل والسوية، (5/5)، لم يخلب كل ذلك عقولنا بقدر ما صدمتنا العلائق الغريبة التي وطدها الشاعر بين كلمات لغوية متنافرة عادة، من وصف (السوق) ب(التمثال)، من شدة شهرتها في نظر الشاعر المحتفي، على أن تخييب الأفق سيشتد عندما ينفي ضمنيا ما أثبت هنا، ناحتا للصحراء (شاشة) تتراءى من خلالها مدينة السوق، وهي مجرد أطلال بالية، ليخترع الشاعر صورتين للسوق في آن، والأولى تلخصها سيميائية (التمثال)، والأخرى تقربها كلمة (الأطلال)، لكن في أية شاشة تبدو السوق تمثالا وأطلالا معا؟؟ لا شاشة تبرز ذلك سوى شاشة الإبداع، ولهذا قبلنا هذا الانحراف عن المعتاد عقلا ولغة. يريد الشاعر فقط أن يقول: إن مدينة السوق أشهر من التمثال عند الأمجاد، مع أنها عفت كالأطلال في الصحراء الكبرى، وبالتحديد صحراء دولة مالي. وما كان ليتسنى له أن يدغدغ مشاعرنا، لو لم يحرف اللغة، ولو لم يفعل لما استحق القيمة البلاغية القديمة {حسن المطلع}. (يعيد الشاعر ضمير المذكر على (السوق) على اعتبارها بلدا، أو من أجل الإيهام بالسوق التجاري الذي يذكر ويؤنث، ولكني في التحليل أعيد الضمائر مؤنثة باعتبارها مدينة، فأنا لا يقيدني الوزن الذي يقيده). وبهذا التحديد لموقع المدينة (الصحراء)، وما بعده نرى الشاعر يقدم نبذة جغرافية عن المدينة، ولكن هل يتكلم بلغة علمية، تليق بالمؤلف الجغرافي؟ إن الشاعر يتحدث في الأبيات الأولى في الجغرافيا، ولكن بلغة شاعر تائه، كأنه لا يعي ما يقول، إذ يقرر: ثم القصور تخاله الصــخور ولا ** رمل هنالك إلا المــسك ينهال ألم يقلب الحقائق الجغرافية، ألم يحرف اللغة، يخبر كل جغرافي حول (السوق) بأن فيها صخورا، ورمالا، غير أن اللغة الشعرية تنفي هذه المعلومة، إن ما تراه هناك على أنه صخور، قصور، وما تظنه رملا هو مسك نثير، أية مدينة هذه؟ إنها السوق في خيال اليعقوبي، بل هي السوق في اللغة الشعرية الجميلة. هذا التصوير تصوغه مخيلة اليعقوبي في هذا القالب الرنان، بسجع الحمام بين (القصور/ والصخور) فبله الإيقاع السحري، الذي حققته موسيقى التكرار، للصاد مرتين، في الصدر، وللكاف في العجز كذلك.مغناه معتـبر للعيـن مـــنتزه ** معناه فيض من الإلـهام هطـــــــال وللأصالة من أحضانه انبجـست ** عيون عز به التاريخ يخـــــتال برد المحاسن غض الوشي فيه وإن ** شيب الزمــان به الفضي أسمال يلعب اليعقوبي بعقولنا دوما، وكأنه نسي أنه أقنعنا قبل قليل بأن (السوق) مجرد أطلال في الصحراء، وها هو هنا يصدمنا بضد ذلك، فهي (منتزه)، و(مغنى) تسرح فيه العين إلى عالم العبر، وكأنها تذكر بقدرة الخالق وإبداعه، إلا أن هذا تلاعب مرضي لا ننشد سواه، فهو تلاعب فسيفساء اللغة، هذه الضديات بذاتها هي ما يستفزنا، ومن ثم تخلبنا قسرا. إن العين إذ تقرأ بدائع الله من خلال السوق، وتعتبر، فإن المعاني تفيض إلهاما روحيا، شعريا، تاريخيا، ... أي شيء تريد، فهي فيض هطال، لا يتوقف. ولا أراك إلا مسلوبا بهذه الضديات البديعة التي ارتكبها هنا: برد المحاسن موشى/ ثوب الزمان أسمال برد ... غض الوشي/ الزمان مشيب جديد لا يبلى / قديم يبلى يمثل الجدول الأول من الثنائيات مدينة السوق، بينما يتمثل (الدهر أو الزمن) في الجدول الثاني، فانظر المفارقة، والتحدي، والصمود. كل هذا ليصور لك الشاعر كيف كانت محاسن السوق جديدة كالوشي، وكالشباب، رغم تقادم الزمان، وهرمه. فقد قاومت بشبابها تقادم الصروف، ونوائب الدهر, فاستحقت أن يعتز بها (التاريخ)، ويتبختر بعيون العز التي انبجست من أحضان (السوق)، فاقرأ كيف حرف الشاعر المعاني، بالأساليب هنا، فبدل أن تعتز مدينة السوق بتاريخها المشرق، كان تاريخها نفسه هو المفتخر بها، فكأن الشاعر بهذا يجاري المتنبي في (تحريف المعاني) المعهودة، الذي يقول: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ** وبنفسي فخرت لا بجدودي أثناء تحقيق المتعة البيانية، يحاول الشاعر دائما مصاحبة المزامير معه، فيناظر بين كلمتين تقعان في الأذن موقعا واحدا، لولا حرفان متحدان مخرجا، (مغناه/ معناه) ما يعرف ب{الجناس} الناقص، لكن هذه الوحدة الموسيقية لا تقل عنها تلك الخفة الإيقاعية الناتجة عن استيلاء مجموعة (الحلق) في هذا البيت أكثر من أي صوت آخر ( العين/ الغين/ الهاء)، فيكاد البيت يسيطر عليه الحلق دون بقية المخارج، وهو أمر يميز الوحدة الموسيقية للبيت عن بقية الأبيات، ويعطيه وقعا خاصا، وهنا نخالف ابن سنان الخفاجي الذي يقول بأن تقارب الحروف في المخرج يسبب الكراهة في السمع، بخلاف التباعد، الذي يحدث الإيقاع، وقد اتبعنا ابن الأثير الذي يخالفه، ويستدل بكلمات متباعدة المخرج، مع أنها قبيحة الإيقاع/ مثل (ملع)، وكلمات مستحسنة، مع أنها متقاربة المخرج مثل (جيش). بعدما رسم الشاعر الصورة المادية للسوق، وما يمكن تسميته بالبنية التحتية، والتقديم الجغرافي، يختم الصورة بالجانب الفوقي، الثقافي، والمعرفي، كأنه ينتقل من الجغرافيا إلى التاريخ، إلا أنه كما سبق لم يكن ليتحدث بلغة المؤرخ الحقيقية الناقلة، إنما يتحدث بهذه اللغة: ما للثـقافة إذ تجلى مراكزها ** جمالها من لجين السوق معطال ألم يعرب بنحو السوق معجمها ** ألم تنمق بخط السوق أشكالغير الشاعر أسلوب (الخبر) الذي استهل به القصيدة، إلى أسلوب (الإنشاء)، عن طريق الاستفهام التقريري، وقد شغلت الجمل الخبرية الجانب الأكبر من مساحة النص، حيث تصل (40)، جملة، بينما لا تتعدى الإنشائية (3)، مع أنها في معنى الخبر، فإن دلالتها التقرير، لا السؤال، وهذا التفاوت بين الخبربة، والإنشائية يلاحظ مثله أيضا بين (الاسمية، والفعلية)، فالجمل الاسمية تبلغ (24)، بينما لا تتجاوز الفعلية (15). وهي مفارقة وفق فيها الشاعر في نظري توفيقا، فقد كان المقام مقام مدح، واحتفاء، فكان المجال مجال إثبات، وتقرير، وتأكيد، على الدوام، والثبوت، وتلك معان تمثلها الأساليب الخبرية أكثر، والجمل الاسمية كذلك. ومن الطريف أن القصيدة خالية من (النفي) تقربيا، إلا في أربع جمل: (إن لم يكن مدرج ../ وما به لقناة البث ../ لم يمس فقهها البال/ ما عفت منهن أطلال). فتكاد القصيدة تكون كلها خبرية موجبة، لتنسجم أساليب الجمل في القصيدة مع مقام إثبات الفضائل. وفي سياق الاستفهام التقريري يقول: ما للثــقافة إذ تجلى مراكزها ** جمالها من لجين السوق معطال ألم يعرب بنحو السوق معجمها ** ألم تنمق بخط السوق أشكال لقد أغرق الشاعر في التحريف الدلالي، والأسلوبي معا، فمراكز الثقافة محسوسة، فقد يفهم العقلاء مجازا أن تشبه بالمرأة، فتستعار لها القلائد الذهبية، تصويرا لحسنها، وجمالها، وأن القلادة التي تزدان بها مراكز الثقافة مسبوكة من ( لجين السوق): الذهب, وإلا فهي معطال، والمرأة المعطال: هي التي خلا جيدها من القلادة والزينة، لكن شاعرنا لا تشفي ظمأه الإبداعي هذه الصورة، المستمدة من المحسوسات، فيحضر معنويا هو (الجمال)، وينكر أن يكون معطالا، لأنه يكونه ولا محالة إذا لم يتزين بقلادة، أو زينة مصنوعة من ذهب السوق. فجمال المراكز بذاته إنما يزدان بلجين السوق. إن المعنى الذي يلمح إليه الشاعر هو: أن (السوق مركز ثقافي عريق، كان بالنسبة للمراكز الثقافية الأخرى بمثابة الزينة في جيد العروس). إلا أن هذا المعنى مطروق، أو على الأقل قريب جدا، ففضل الشاعر تحريفه، والانحراف عنه. وهو ما أعنيه ب(التحريف الدلالي)، ولكن عن طريق (التحريف الأسلوبي) أيضا. ويأتي البيت التالي تقريرا وبرهانا، باختصار بديع لمحتوى المراكز الثقافية، فهي إما (مكتبة / كتب/) وإما أدوات التدوين (الخط)، وتبرز مكانة السوق في كلا الحقلين. ويختصر مضمون المراكز بعلامة سيميائية هي (المعجم)، فهي مفتوحة الدلالة هنا، فقد تعني كل مواضيع المركز (الفقهية، واللغوية، والبلاغية...)، وكل ذلك المعجم يتساءل الشاعر تساءل من لا يريد الإجابة، بل يقرر : ألم يوضح بنحو السوق.ويأتي الجانب الثاني (الخط)، فيقرر كذلك مستفهما: بأن كل الأشكال الجميلة إنما نمقت بخط السوق. هذا ومن الدلالة الخفية اللطيفة ما تشي به الدلالة النحوية وراء إضافة (النحو)، و(الخط) إلى (السوق)، إشارة إلى أن السوقيين اشتهروا في المنطقة بهذين الفنين، وكم افتخر أوائلهم بذلك، ومن أروع اعتزازهم بخطهم قول شاعرهم محمد يوسف السوقي: تخال إذا ما رقشوا الرق رقهم ** بتائك ريش من خوافي الطواوس تخر بأيدهم رواعف سجـدا ** سجود أبيل ناكـس في الكنائس صوادر من فيحاء مل يك ماؤها ** بغور ولا طـرق ولا متشاوس لا يلبث اليعقوبي تائها في غيه اللغوي، واحتفائه بمدينته حتى يتذكر وضعها الاقتصادي المذري، فليس فيها مطارات، ولا قنوات للإعلام، والإعلان عنها، ويحاول تزيين ذلك كعادة الشعراء: إن لم يكن مدرج للطائرات به ** وما به لقنــاة البث إرسـالِِِ فكم أواخ كشامات تنيط بها ** أعــنة الصـافنات فيه أبطـال وكم صدرن يصدرن العلوم بلا ** ضرائب من جياد السوق أرسال وربما انتبه اليعقوبي الآن بأنه ينحت من صخر، ويكاد يخرج من البلاغة المقبولة، إلى المبالغة المرفوضة، فلم يستطع أن يواصل في تحريف اللغة، فلخص الموقف بالكلام العادي، وكلمة (يصدرن) رغم كونها علمية مستهلكة كثيرا تحمل دلالتها الجميلة، فالسوق إن لم تصدر البضائع، والصادرات المادية، فهي تصدر العلم. كما لا ننسى مجانسة (إرسال) ل(أرسال)، لو لم يفصل بينهما البيت المتوسط، الذي لم يكن راقيا إلى درجة الأول، ولم يطق أن يصبح جواب شرط له. وكأن اليعقوبي نزل من سماء الإبداع، وطائراته، إلى الأرض، وصافناته بهذا البيت، وربما لهذا أحس بشيء في البيت المتوسط. وكم وردن حياض السوق ماردة ** نوازل لم يمــس فقهها البال
ثم انثنت زللا يروي لمــوردها** عنا المسائل تفصيل وإجمــال فصلت هذين البيتين عن السابقة رغم (كم/ كم/ كم)، فموضعها المناسب بعد قوله: {ألم تنمق بخط السوق أشكال}، لتحقيق التلاحم ، والوحدة الموضوعية، فهما في السياق نفسه، ـ الإشادة بمكانة السوق العلمية ـ فهي مشهورة بالنحو، والخط، كما كانت مشهورة بالفقه، فوظيفتها هي القضاء، والدعوة، والإفتاء، وبهذا تحققت مركزيتها، فهي شبه مركز للدعوة، والقضاء، والتعليم في المنطقة. هذا لا ينسينا التحريف الجميل في (ماردة)، و(لم يمس)، لقد وصف (النوازل) ب(الماردة)، عن طريق الاستعارة التصريحية التبعية، فالمشبه به هو الإبل الشاردة، والمتمردة، التي لم يستطع أصحابها أن يعقلوها، حتى وردت حياض السوق، فكذلك هذه النوازل، التي استعصت على المراكز الفقهية، ولم يستطع العلماء أن يعقلوها، ولا أن يحلوها، حتى جاءت السوقيين فروضوها، فعادت (زللا). وهذا الاختزال العجيب، لا يقل عنه ما تحمله كلمة (لم يمس)، إذا كان المستعار منه في الأولى (الإبل الماردة)، فإن المستعار منه هنا هو (النساء)، وبالأخص (الأبكار) اللائي لم يطمسهن إنس قبلهم ولا جان، فكذلك هذه (النوازل) التي كانت ترد على السوق، فهي لم يفكر فيها أحد، ولم تطرأ على ذهن. وهذا يحمل معنى لطيفا، هو ترحيب السوقيين بدل تهربهم بمثل هذه المسائل العويصة، الماردة، الأبكار، كما يرحب جميع الرجال بالبكر من النساء. كما يلخص لنا أنواع المسائل التي يحلونها، فهي إما مسألة استعصت على الأفهام، أو مسألة مبتكرة، لم يسبقوا إلى القول فيها. مما يعني من جهة أخرى أنهم لا يرددون ما يقتل بحثا وشرحا. بهذا يصور أسلوب الشاعر المنتقي للكلمات الدالة مكانة السوق العلمية، فلا غرو من تعمقهم في (أصول الفقه)، وذلك ما توحي إليه التورية بمصطلحين أصوليين (تفصيل، وإجمال). وكأني باليعقوبي خاف من انزعاجك على الإطناب فعمد إلى أسلوب الإيجاز، فأقل ما يقال عن السوقيين: أنه تضرب بهم الأمثال في العلم، والأخلاق، واقرأ قوله، مع قراءة ما وراء تقديم (بنا): وحسبنا الفخر آل السوق أن بنا ** في العلم تضرب والأخلاق أمثال
|
02-16-2011, 09:10 PM | #2 |
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
-
بنية الملتقىأو القصيدة الثانية: مآثر ما عفت منهن أطلال ** وملتقى السوق للأمجاد تمثال كأني باليعقوبي هنا تجف منابعه الإبداعية حتى تتجمد تماما عند عجز هذا المطلع، الذي ارتكب فيه جل المرديات بالشعرية، فتراه يكرر هذه الخاصية الأسلوبية التي استهلكها في مستهل القصيدة، {تمثال)، وكان كما قال الدكتور المسدي نقلا عن تودورف: بأن الخاصية الأسلوبية كلما تكررت ضعفت، وفقدت شحنتها التأثيرية، ولذا أقول أنا: إن كل خاصية أسلوبية كشرارة متوقدة في مكانها الأول، وكلما حاول المبدع أن يأخذ منها نسخة إلى مكان آخر انطفأت بين يديه. وهو لم يكرر (التمثال) فحسب، بل نقل معه كلمة (الأمجاد) أيضا. وكل ذلك ذهب البيت الأول بنضرته ، ولسعة معجم شاعرنا لا أعذره هنا، بل أشدد عليه، والبيت غير مصاب بهذا فحسب، بل يعاني من أزمة (الخلخلة) ، وعدم الوحدة الموضوعية، فيما بين الصدر والعجز، فأي مناسبة بين المصراعين؟ وليس هذا فحسب إذا قلنا بأن هذا تخلص إلى الموضوع الرئيسي (الملتقى)، فهل أجاد الشاعر تقنية التخلص هنا كما يرام؟؟. فهو إذن مبتور عما قبله، ومبتور فيما بينه. صحيح أن الصدر محاولة من الشاعر للربط بين الموضوعين، ولذلك بقي الصدر (موضع التنازع) بين القصيدتين، وأعطيته أنا للقصيدة الثانية تقليدا لأئمتنا البصريين، فالقصيدة الأولى لا تحتاج إليه، بل قد يضرها، بخلاف الثانية، التي يكمل هيكلها العروضي على الأقل، كلما أمعنت النظر في هذا البيت تأكدت أكثر أنني أمام قصيدتين بينهما عدة فوارق، على مستوى الإبداع، والأسلوب، والموضوع، وربما لهذا أيضا لم يفلح الشاعر في الربط بينهما كما يرام. ولكيلا تقول: إنني أتعسف في الموازنة بينهما أريدك أن توازن أنت لا على المستوى (الصور)، لأنه قد يعتمد على (الذوق)، بل على مستوى (الإيقاع) المحسوس، الذي يبدو أكثر في غنى مطلع القصيدة (أ) بأصوات المد، التي تتيح لك أن تغني بها أكثر، ففي مطلع (أ) عشرة أصوات مد، وهي حاضرة كلها ( ا، و، ي)، بينما لا تحد في (ب) إلا ستة، مع غياب صوت هام هو (ي)، وليس هذا فحسب إذا علمت بأن الشاعر أعدل في القسمة بين مصراعي المطلع (أ)، (5/5)، بل حتى بين الكلمات، فالكلمات في (أ) أيضا عشرة، أي في كل كلمة حرف مد، مما يعني أنها وحدة موسيقية متكاملة على حدة، بينما تجد هذا المطلع (ب) يحتوي على (12) كلمة، مع (6) حروف مد، مما يعني بعد القسمة ..... إلخ. هذا إذا تسامحنا في ضعف معنى الشطر الأول، الذي يكاد يجمع بين النقيضين، بدون تحريف جميل، أن تكون تلك المآثر في أطلال، ولكن لم تعف منها، والطلل في الأصل: هو الشاخص من آثار الديار، وشخص كل شيء، لكن الشعراء توسعوا، وأطلقوه على رسوم الديار نفسها، التي جلا عنها أهلها، إذن فالشاعر لم يقل معنى غريبا، من أجل هذه الفوارق العديدة فصلت بين القصيدتين، وأتوقف هنا عن التشريح كيلا ترى معي كل شيء. فإلى موضوع القصيدة، لنرى هل مطلعها يوافقها أم لا؟ دعت له نخب لبتهم نجب ** لهم على النجب للعلياء إرقال لإضفاء الأهمية حقا على (الملتقى) رصف الشاعر هذه الكلمات المتقاربة إيقاعا، (نجب/ نجب/ نجب)، فالقائمون عليه من خيرة القوم، والمدعون أيضا من صفوتهم، و(نجبهم): نوقهم اعتادت (الإرقال) : الإسراع نحو المعالي، فبما أن (الملتقى) عبارة عن (العلياء)، فلا غرو من حضورهم...إلخ. أي تحريف أسلوبي ؟؟ وأي تصوير هنا؟ إذن فهو إخبار بالنظم والرصف، ويبدو حقيقة أن الشاعر إنما أراد أن يبرز مكانته في رصف الكلمات هذه المرة، لا أن يكون محرفا لها، فهو في هذا البيت عبد الكلمات، بخلاف القصيدة الأولى التي كان هو سيدها المنتهك لحقوقها، والمحرف لنظامها. هذا إن لم تستثقل تكرار (الجيم) وضمها في (نجب)، وإسكانها في (النجب)، وهذه الكلمة الغريبة (الإرقال)، علما بأنها هي اللكمة الغريبة الوحيدة في القصيدة. إن لم نضم إليها كلمة (عثكال)، لأنها رنانة خفيفة، والشاعر يحسب له ذلك. توافدوا ليشيدوا برج مكرمة ** وهم بنو وبناة المجد لن يالوا لم يزل الشاعر في وظيفة (الصحفي)، وبلغته مقررا، لولا أن كلمة (برج مكرمة) تحتل مكانتها المرموقة في البيت، وهي جميلة، في إيقاعها، وإيحائها، فإن أصحاب الملتقى قد لبوا الدعوة إلى العليا، فإنما توافدوا لبناء المجد، والعز، وتشييد أبراج المكارم، والأخلاق، فنعم المجمع، ولا يستغرب منهم ذلك، لأنهم بنو المجد، وبناته في نفس الوقت، فالمعنى حقا جميل، وراق، ومناسب، وقد حرف اللغة في كلمة واحدة، تكاد تشفع للبيت، وترفعه إلى مستوى الشعرية، لولا أسلوب لغة (الصحافة) الذي ختم به البيت: (هم بنو وبناة المجد)، إضافة كلمتين إلى كلمة واحدة، والتحريف النحوي، مذموم بقدر ما كان التحريف الأسلوبي محمودا، وهذا الأسلوب شاع في (الصحف الإخبارية) اليومية، ولن نرضاه لشاعرنا اليعقوبي، الماسك بذمام اللغة. قوم كفيل بجمع الشمـل جمعهم ** وان تكون جنى الأقوال أفعال ينقل الشاعر لنا منولوجيته، "حديث النفس" متمثلة في أمنياته، وتطلعاته، لآفاق الملتقى، وبتفاؤل جميل، في البيت الأول، فيؤكد أن اجتماعهم ذاك كفيل بلم شملهم، ويتمنى أن لو كانت الأفعال جنى الأقوال، ويسوق التمني في سياق الخبر، وكأن ذلك وقع، أو سيقع لا محالة.وغب غيث اللقا وادي التواصل في ** بادي وحاضرنا خصب وسيال وفي البيت الثاني يحاول الشاعر إخصاب لغته، وتكثيف الصور، حتى ازدحم البيت بالعديد من الألوان، منها الجذاب الرائق، والمبتذل، فنجد مثلا : الاستعارة مرتين، والتقسيم، واللف والنشر غير المرتب، والمبتذل هو الأسلوب الصحفي مثل السابق في : (بادي وحاضرنا). وتوضيح (اللف والنشر) بالترتيب هو: غيــث اللقا = سيال وادي التواصل = .خصب ولا يخفى ما في إسناد (الغيث) و(الوادي) إلى (اللقاء) و(التواصل) من روعة ورونق، وتناسب. إن المعنى الذي يريد خيال الشاعر تقريبه هو بالنثر: {غيث اللقا سيال على وادي التواصل في بادينا، وحاضرنا، كما أن وادي التوصل خصب كذلك}. وهذا يستدعي عدة معان، فينفتح البيت إذن على جميع التأويلات كشأن الأبيات العظيمة، ولشرح هذه الخصوبة يأتي البيتان البديعان: فاعشوشبت صلة الأرحام وازدرهت ** ففاح من عبق الإصلاح إقبال وأسدلـــت ذات الأقربين ضــــــــــفا ** ئرا يعانق منها النجم عثكالمن شدة إعجابي بالبيتين أود أن لا أشرحهما، كيلا أذهب بنورهما الوقاد. فعن طريق الاستعارة المكنية يصور لنا الشاعر نتائج هذا الغيث (الملتقى)، بلغة الشعر، لا الصحافة، وبتحريف متعمد للعلائق، والأساليب، شبه (صلة الأرحام) ب(العشب)، أو ب(الأزهار)، وجاء بلازم من لوازم العشب : (اعشوشبت)، و (ازدهرت)، وهو ابتداع في الإبداع، فأن تصلح صلة الأرحام مقبول عقلا ولغة، ولكن أن تجرد منها صورة طبيعية تعشوشب، وتخضر هكذا لم نعهده إلا في مثل هذه اللغة الشعرية الراقية، وتزيد الصورة بهاء، وجلالا، واستغراقا في الطبيعة، في العجز الثاني، حيث يخلق ل(لإصلاح) (عبقا) يفوح منه (إقبال)، ويا سبحان الله!!! لا حشو، ولا حوشي، لا غريب، فالمعجم كله شعري أصيل، ومختار بعناية، والصورة أجمل من هذا الوادي الذي يصف الشاعر أفعال الغيث فيه، وهذه الروضة التي كانت صلة الأرحام عشبها المعشوشب، وأزهارها الزاهية، وفوق ذلك ينبعث فواح الإقبال الصادر من هذا العبق، وأي عبق، إنه عبق الإصلاح. (والإقبال: يعني به الشاعر ريح الصبا، نقيض الدبور، ويجدر التنبيه إلى أنني بحثت عن هذا الوزن بهذا المعنى في الصحاح للجوهري، ولم أجد سوى (القبول)، واستدل لها بقول الأخطل: فإن الريح طيبة قبول. وما زاد الإشكال أنني بحثت عنه أيضا في القاموس المحيط، ولم أجده. انظر الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور، ط4، 1990م، دار العلم للمايين، ج6، ص 1795، باب اللام فصل القاف،) فأين أتى به الشاعر إذن يا ترى؟ (هذا ولا أنكر بتاتا وجودها ولكن أشك ...). هذه صورة طبيعية مجردة رغم حياتها، قد لا تروقك إن لم تكن شاعرا حقا، ولذا أعاد الشاعر بريشته البديعة لك الصورة من وجه آخر هو: وأسدلت ذات الأقربين ضفا ** ئرا يعانق منها النجم عثكال فالمستعار منه هنا هو (الكعوب) أيها الرجل، قد تدلت ضفائرها على المنكبين، وكأن شعرها عنقود النخل، يعانق هذا الوجه الصبوح (النجم)، هذه هي صورة (ذات البين) التي خلفها الملتقى بغيثه، هذه أيضا قد لا تروق المحتشم، فإلى أخرى:فبالإمكان أن يكون المستعار منه (النخلة)، وطالما شبهها الشعراء بالمرأة، والعكس أيضا، ومن شبهها بالمرأة أبو نؤاس إذ يقول في قصيدة استعار للنخلة فيها كل ميزات المرأة: فافتض أولها منـــها وآخرها ** فأصبحت وبها من فحلها حبل لم تمتنع عفة منـــه ولا ورعا ** بلا صداق ولم يوجد له عـقل حتى إذا لقحت أرخت عقائصها** فمال منتشرا عرجــونها الرجل وما يهمني هنا هو (عقائصها)، فهي بمثابة (ضفائرها) عند اليعقوبي، معنى وإبداعا، فالترشيح هو ما زاد هذه الصورة قوة، وتوترا، فذات الأقربين، وهي قد أخذت شكل النخلة التي أخذت هي أيضا شكل المرأة، فلا غرو أن يكون لها عثكال، يعانق النجوم، والعثكال في النخلة بمنزلة العنقود من الكرم، إ في العثكال إيحاء بثمارها، ونتاجها، فإذا كان للنخلة التي أرخت عقائصها، وأسدلت عناقيدها ثمار، من أحلى الثمر (التمر) فإن ذات الأقربين التي سقاها غيث الملتقى، سيكون لها من النتائج ما لا يصوره سوى هذا الشعر البديع، كالإصلاح، والقوة، والتضامن. وتحمل كلمة (يعانق) برغم حمولتها المعروفة في صورة (ب) معنى التضامن، والتكاتف، والتعاون، والتعاضد...إلخ. ولا يفوتنا التنبيه على الدف اللغوي الساحر ، الذي حققه الشاعر في هذه المقطوعة، فالحروف تصدح بنفسها كالناي. فاح/ الإصلاح/ الإقبال. عثكال/ أسدلت..إلخ. بينما نحن نهيم في ذلك الوادي العجيب الحقيقي، فإذا باليعقوبي يقف فوقنا كعادة مثله من الشعراء المتلاعبين بنا ليقول لنا: هذا الذي طفتم بين رياضه إنما هو مجرد (أمل)، وحلم، صاغه خيالي: وهكذا شام غيث الملتقى أملي ** والبرق يبسم لي من ثغره الفال وأمعن النظر ـ يا رعاك الله ـ في ابتسامة (الفال) من ثغر (برق الملتقى)،!! فما رأيناه إذن تفاؤل، وآمال جميلة، وأحلام وردية تليق بهذه الكلمات الزاهية.وبهذا ينهي الشاعر قصيدته الثانية، ويكمل بالحديث العادي معتذرا عن عدم حضوره ذلك الحدث التاريخي، ويقدم شعره نيابة عنه، ثم يثني على شعره: وما منى النفس إلا ملء باصرتي ** مرأى إذا حان من ذا الجمع إهلال فهو كما تراه، يتمنى أن لو أشبع باصرته برؤية ذلك الجمع البهيج، ولكننه للأسف لا يمكن له ذلك فهو في (الشرق) أي السعودية بالتحديد، وإنما انتجع نحوها طلبا للمجد ليس إلا، ولذا فإنه لا أقل من أن يرسل هذه القصيدة إليهم، وهي مثقلة بحمل التحايا الودية، والبيت المتوسط يشوبه شيء من التعقيد وهنا تبدأ بنية مدح القصيدة في الخاتمة فهي:أما ولي زحل عزم نأى بي في انت ** ـجاع مجد به في الشرق ترحال فهذه الشمس تأتيكم على مهل ** تؤودها من تحـــايا الود أحمال أبهى وأفخر من شمس ومن قمر ** شعر له منتهى الإبـداع إكمال كل ذلك جميل جدا، أما الطامة الكبرى فالبيت التالي: {في كل نقطة ...إ}لخفي كل نقطة حرف منه ناطحة **بالحسن ناطقة للمجـــــــــــــــد تمثال جادت له من سليل الأزد عارضة ** بالسوق في ساحة الأمجاد تختال ولا نبالي في التناقض السريع الذي أوقع فيه الشاعر نفسه : فهذه الشمس أبهى من الشمس والقمر. لكن ألا يكون هذا التناقض سر الجمال هنا، بلى فهو بمثابة (بدل البداء) إن لم نقل (بدل الغلط)، (شمس، إلا أنها أبهى من الشمس). وبقية البيت نثر منظوم. فمتى كانت ضخامة نقط الحرف ميزة للشعر،؟؟ حتى نبالغ ونشبهها بناطحات السحاب، طالما نحن نبحث عن حروف خفيفة كالخيال، لها حفيف الورق، وهديل الحمام، وتتكرر مصيبة (التكرار) {للمجد تمثال)، لقد قلنا فيه ما يكفي، ونزيد هنا أن هذه الصورة بهذا السلوك اللغوي من الشاعر أفقد (السوق) خصوصيتها بها، فلم تعد تنفرد بها كما ينبغي فيشاركها (الملتقى)، و (النقط)، ولو طبقنا تفكيكية دريدا المعتنية ب(علائق الحضور والغياب)، لأصبح الهول أشد فظاعة هكذا: 1. السوق تمثال المجد. "حضور" 2. السوقيون تمثال المجد. "غياب" 3. الملتقى تمثال المجد. "حضور" 4. النقط تمثال المجد. "حضور" 5. القصيدة تمثال المجد. "غياب" 6. الشاعر نفسه تمثال المجد. "غياب" فأي واحد من هذه نعطي صورة (التمثال)، ألم يناوشوها بشكل يدل على الفاقة اللغوية ؟ ويغلق الشاعر روضته الغناء بإخبارنا أنه من (سليل الأزد)، وهذا الشعر جادت به (عارضة أزدية سوقية): جادت به من سليل الأزد عارضة ** بالسوق في ساحة الأمجاد تمثال وهي تختال في ساحة المجد والأمجاد، ونقول فيها ما قلناه في السابقة من التكرار، فقد مضى (الاختيال) مع (التاريخ) واستحسناه هناك، أما هنا فلا.وبعد: فإن اليعقوبي استطاع فعلا أن يبدع، وأن يبتدع لغة شعرية أصيلة، ويحرف اللغة كما يشاء لصالحه، ويتجرأ على قانونها ويخلب لبنا ببيانه السحري الأخاذ، ويهدهد حاستك السمعية بهذا الإيقاع الآسر، بينما يفاجئك دائما بكل ما لا تتوقعه في ألوان استخدام اللغة العربية، بمفردات يتسم جلها بالسلاسة، والعذوبة، فكأنما هي راح نسقيه بكاسات القصيدة الرقراقة، فرأينا قدرة لغوية خارقة تتمثل في (تحريف أسلوبي) عجيب. وتبلغ مواطن التحريف (30) صورة بلاغية، موزعة بين البنيتين، أو القصيدتين، والحصة الكبيرة للأولى. فالقصيدة رغم هناتها القليلة شعر في أسمى معانيه. إن مما يوضع في ميزان حسنات اليعقوبي أنه بمثل هذا الشعر يقوم بنقلة نوعية للشعر السوقي عموما، الذي لم يبرح مكانه التقليدي بعد، في أغلب منجزاته القديمة والحديثة، فإن هذه القصيدة تنضح بماء (الحداثة) كفترة زمنية تاريخية على الأقل، إن لم تكن كرؤية واتجاه، فذلك يظهر على مستوى (المفردات) مثل: التمثال/ الشاشة/ الناطحات..إلخ، وعلى مستوى الأساليب أيضا كأغلب الصور التي وقفنا عندها، مثل :فاعشوشبت صلة ..إلخ)، وفي اختياره للكمات القريبة عموما/ بخلاف أغلب شعر السوقيين، الذي يعنى بالكلمات التي يستخدمها امرئ القيس، وبهذا يحاول الشاعر التجديد على ساحة السوقيين، وإن كان عصر التجديد ولى وانقضى في العالم الآخر، فنحن الآن في عصر (ما بعد الحداثة)، ويبقى أن يمارس اليعقوبي أيضا تجربة (الحادثة وما بعدها) كفكر، واتجاه فلسفي، وأدبي. أما نقدنا للشاعر نفسه بصفته فيلسوفا فهو انه كان (محتفيا، ومحتفلا) بمدينته السوق، ومفتخرا بقومه، وحق له ذلك. ولكن يطلب منه الواجب الشعري في نفس الوقت أن يكون (رافضا) لأوضاع مجتمعه، ناقدا، لا راضيا، فهذا أقل ما يقوم به الشعراء والمفكرون. أجل، بالرفض يعزل الشاعر مجتمعه كأنه نبي، فهو يرى ما لا يرون، ويتصل مباشرة بالله، أو بعقله الصافي إن لم يكن مسلما، فينطق قلبه بحكمة بالغة في سبيكة العاطفة. ومن قلب الرفض وحده تنفجر المنابع الشعرية، وداخله تتوقد نيرانه، ويسيل نزيف الإبداع كما الذهب المسبوك. ويجد كل ظامئ مبتغاه، نارا أراد أو ماء، إعصارا أو نسيما...! لنقرأ القصيدة مرة أخرى: "السوق تمثال المجد" فها هي كاملة: السوق في ساحة الأمجـاد تمــثال**مرآه في شاشة الصـحراء أطلال ثم القصور تخالها الصخـــور ولا مغناه معتبر للعـــين منتــزه وللأصالة من أحضانه انبجســت** عيون عز بها التاريــخ يختـال برد المحاسن غض الوشي فيـه وإن** ما للثقافة إذ تجلى مراكــــزها ألم يعرب بنحو السوق معجــمها إن لم يكن مدرج للطائــرات به فكم أواخ كشامات تنيـــط بها**أعنة الصافنـــات فيه أبطال وكم صدرن يصدرن العــلوم بلا وكم وردن حياض السوق مـاردة ثم انثنت زللا يروي لمـــوردها وحسبنا الفخر آل السـوق أن بنا مآثر ما عفت منهن أطلال ** وملتقى السوق للأمجاد تمثال دعت له نخب لبتهم نجب ** لهم على النجب للعلياء إرقال توافدوا ليشيدوا برج مكرمة ** وهم بنو وبناة المجد لن يالوا قوم كفيل بجمع الشمــل جمعهم ** وان تكون جنى الأقوال أفعال وغب غيث اللقا وادي التواصل في ** بادي وحاضرنا خصب وسيال فاعشوشبت صلة الأرحام وازدرهت ** ففاح من عبق الإصلاح إقبال وأسدلـــت ذات الأقربين ضفا ** ئرا يعانق منها النجم عثكال وهكذا شام غيث الملتقى أملي ** والبرق يبسم لي من ثغره الفال وما منى النفس إلا ملء باصرتي ** مرأى إذا حان من ذا الجمع إهلال أما ولي زحل عزم نأى بي في انت ** ـجاع مجد به في الشرق ترحال فهذه الشمس تأتيكم على مهل ** تؤودها من تحـــايا الود أحمال أبهى وأفخر من شمس ومن قمر ** شعر له منتهى الإبـداع إكمال في كل نقطة حرف منه ناطحة ** بالحسن ناطقة للمجــد تمثا جادت له من سليل الأزد عارضة ** بالسوق في ساحة الأمجاد تختال تنبيه هام: النسخة الكالمة المرفقة بالمصادر والمراجع، والتوثيق، والتعليق معي، ولخصت منها هذا الذي امامكم، لأمرين:1 مخافة السرقة الإلكترونية، 2/ كيلا أثقل كاهل القارئ هنا، ومن أرادها فليخبرني كي أرسل له نسخة من تلك. |
|
02-16-2011, 10:38 PM | #3 | |||||||||
مشرف منتدى الحوار الهادف
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
إبداع في إبدع.. قرأة عميقة لسمفونية اليعقوبي , التي رقص الفؤاد لها طربا .. ويزهو خيالي في خمائلها فرحا, بغناها ومغنى الكلمات في رياضها ,ورجع صدى المفاخر في بنيانها .. شكرا شكرا أخي الحسني فقد نقدت وأجدت ونفضت الغبار عن سبائك قصائد الملتقى ..وإلى لقاء قريب
كن بخير |
|||||||||
|
02-17-2011, 10:13 AM | #4 | |||||||||
مراقب القسم الإسلامي
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
جزاك الله خيرا يا ناقدنا الكبير اﻷستاذ محمد الحسني ، وأمد لنا في عمرك ، وزادك من فضله.
حقا لقد استفدت من دراستكم لقصيدتي الإدريسي واليعقوبي ، وبدأت أتذوق حلاوة النقد من خلال تشريحكم . وأملي أن تكمل الجميل فتقطع من وقتك الثمين- بين فينة وأخرى- بعض دقائقه لدراسة بواقي قصائد الملتقى لفائدتنا كمتابعين لهذه الدروس القيمة للاستفادة منها في مستقبل شعرنا ، ولفائدة الموقع بأهليه وضيوفه. وبأمثالكم نرتقي. لك خالص تقديري وتحاياي. |
|||||||||
l |
02-17-2011, 05:33 PM | #5 | ||||||
عضو مؤسس
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
أعجبني تناولك لقصيدة اليعقوبي، ومما استفدته ماسميته بالتحريف الأسلوبي ، مع العلم بأني أعرف المجاز والتوسع و... من المصطلحات القديمة، ولولا أن لي قصائد في الملتقى لأشرت إليكم بأن تدرسوا كل قصائده المستحقة للدراسة في نظركم هكذا؛ لتكون لكم أثرا خالدا تختطفونه من ميعة الشباب ، فيكون لكم أثرا وللسوقيين وأدباء المنطقة بعدكم أثارة، فإني أرى ـ والله أعلم ـ أن الشعر السوقي لم يتناول فيما اطلعت عليه بمثل هذه الآلية، ولاشك أنه يحتاجها أوليس كذلك .
ولاشك أن اليعقوبي أجاد إلا أني إخاله لايحسن أن يقول مثل قولي ( مزحة عابرة) أوليس كذلك يا أبا ياسر؟
|
||||||
[marq="3;right;3;scroll"]
شعارنا اعتزاز بالجميع وحب في الجميع اورسالتنا الإحسان إلى الماضي بخدمة صوره المشرقة وإلى الحاضربتتويجه بكرم الأخلاق وإلى المستقبل بالإسهام في إشراقته وفي احترام قناعات الآخرين ما يشغلنا عن الاختلاف وفي حلاوة الائتلاف سلوة عن مرارة الاختلاف ،فإن أصبنا فمن الرحمن وإن أخطأنا فمن الشيطان، ومن الله التأييد ومنه التسديد [/marq]
التعديل الأخير تم بواسطة الشريف الأدرعي ; 02-17-2011 الساعة 06:12 PM
|
02-17-2011, 08:06 PM | #6 |
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
أبو عبد الله
اداس الشريف الأدرعي أحييكم، وأشكر تفاعلكم مع الموضوع، وأغلى أمنياتي أن اجعل احدا يتذوق نصا بالطريقة التي اتذوق بها، وإن حصل لي ذلك فهو المرتجى. أما المواصلة في العمل فتعجبني كما تعجبكم، غير أن الظروف قاهرة، والوقت ضيق، وهذا العمل كما ترون لا يقل معاناة ومشقة من الإبداع نفسه، ولكني ساحاول إن شاء الله أن أضحي بكثير من وقتي، وراحتي، استجابة لطلبكم، ورغبتي الشخصية أيضا... وسأقوم بالمستطاع بعون الله، ولكن لا تستعجلوا. فربما أتاخر كثيرا. |
التعديل الأخير تم بواسطة محمد أغ محمد ; 02-19-2011 الساعة 12:31 AM
|
02-19-2011, 11:37 AM | #7 |
مراقب عام القسم الأدبي
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
شكرا لك أيها الناقد القدير, أعترف بأنني انتشيت بها التذوق البديع للنص, واقر بأنني منبهر وعاجز عن محاكات هذه الذائقة الأدبية المحلقة.
|
غــدا أحلـــــــى .. لاياس ... لاحزن.. لا قنوط من رحمة الله.
|
02-19-2011, 04:34 PM | #8 |
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
حياكم الله وبياك
الأديب/ الخرجي أقدر مرورك الطيب، كما أحيي منك هذا التواضع الكبير. |
|
02-23-2011, 02:44 PM | #9 |
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
أيها الإخوة القراء، مالكم تقرأون وتعجبون فحسب، ولا تعارضون، فأنا قد أقول شيئا ليس ثابتا، فمثلا: ما رأيكم في كلمة (إقبال) التي اظن أنها من نحت اليعقوبي، إن كان المعتى هو : ريح الصبا كما هو الظاهر، والأجمل؟؟
يا اداس .... أبا عبد الله .... الشريف الأدرعي .... الخرجي. |
|
02-23-2011, 02:44 PM | #10 |
|
رد: التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي
أيها الإخوة القراء، مالكم تقرأون وتعجبون فحسب، ولا تعارضون، فأنا قد أقول شيئا ليس ثابتا، فمثلا: ما رأيكم في كلمة (إقبال) التي اظن أنها من نحت اليعقوبي، إن كان المعتى هو : ريح الصبا كما هو الظاهر، والأجمل؟؟
يا اداس .... أبا عبد الله .... الشريف الأدرعي .... الخرجي. |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|