|
عندما بدأ أهل الصحراء يقومون بمحاولات لأداء فريضة الحج مع ظهور وسائل النقل الحديثة بعد الصعوبات التي عاشوها قبل ذلك في طريق الوصول إلى بلاد الحرمين , حينما لم يكن الحج إلا نوعا من أنواع الجهاد التي لا يفكر فيها إلا أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وآمنوا بتلك الصفقة الرابحة التي عقدها الله –سبحانه وتعالى –مع المؤمنين بقوله : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ...) تلك المعاناة التي كان الشيخ الشاعر ممن تجرعوا غصصها , إذ إنه قام قبل حجه في الطائرة بحجتين استخدم فيهما السيارة البرية والبوابير البحرية , وكانت حجته الأخيرة المتزامنة مع القصيدة عن طريق الطائرة , الأمر الذي نفخ روحا جديدة في الخلاف بين المانعين للحج في الطائرة وبين المبيحين من علماء الصحراء الأزوادية .
في هذه الأجواء قام الشيخ سيدي حم الكنتي بإثارة القضية على مستوى علماء المنطقة فوجه سؤالاته إلى عالمي زمنه كافة , وخصص جماعات مشهورة في الصحراء بالتفرغ للعلم والتعليم والذين يطلق عليهم وصف ( أهل السوق ) بقسط وافر من تركيز خطابه , ثم عين الشيخ المحمود نفسه بالسؤال لما يعلمه منه ومن جماعته من التضلع والتقدم في فنون المنقول والمعقول -على حد تعبيره- , الأمر الذي حتم على المحمود إبداء رأيه في المسألة بلسان المقال , رغم إبداء لسان الحال له قبل ذلك , فقد قام بالحج على الطائرة قبل هذه القصيدة كما أسلفنا , وللإجابة على ذلك السؤال نظم شاعرنا الشيخ المحمود قصيدته التي نقوم بإلقاء بعض الأضواء عليها مستعينين بالله –تعالى-:
وصلت قصيدة الشيخ المحمود بن الشيخ حماد التي أجاب بها قصيدة سيدي حم الكنتي 189بيتا من بحر البسيط , حسب النسخة التي اعتمدتها .ولم أتهيأ لتحليل القصيدة , وإنما تبسيطها فقط مساعدة للقارئ , وقد يأتي ذلك اليوم الذي نتمكن فيه من تحليل قصائدنا حينما تتهيأ عندنا الأدوات اللازمة .
وقد قسمت القصيدة حسب قراءتي لها من وجهة نظر شخصية إلى عدد من الموضوعات كالتالي :
1- حفاوة الاستقبال لقصيدة الكنتي .
2- إبداء موقف الشيخ الشاعر في مسألة الحج بالطائرة والاحتجاج لدعم رأيه .
3- عرض آراء المخالفين ومناقشتها .
4- حث الكنتي على التنازل عن رأيه في المنع من الحج بالطائرة .
5- وصف الطائرة والترغيب فيها وتعداد محاسنها والدفاع عنها وتبرئتها من العيوب التي رميت بها من قبل المخالفين .
6- التشويق إلى الحج .
7- عتاب الكنتي على ذمه للطائرة .
8- الحديث عن قصيدة الكنتي بجانب قصائد الشعراء المجيبين وفي مقدمتهم الشاعر .
9- الخاتمة في الاعتذار عن التقصير فيما يمكن أن ينتقد من التعبير .
10- تعريف الشاعر بنفسه, تليه الصلاة والسلام على النبي والدعاء للحجاج .
وقد اتبعت في التعامل مع القصيدة الخطوات التالية :
1- أعرض كل موضوع من الموضوعات السابقة , ثم أتبعه بالمفردات اللغوية ومعانيها , ثم المصطلحات الأصولية والفقهية إن وجدت , ثم نثر للأبيات ؛ لتقريب معناها , ولا أعتبره تحليلا , وإنما هو تبسيط فقط .
وسوف يتم تنزيل هذه القصيدة وأخواتها في الموقع بنفس الترتيب السابق – إن شاء الله-
نص القصيدة :
1- ما لذة الراح هزتني فما طربي=لولا مزامير من آل ابنة العرب
2- غنت فقلت لها هيه بحقك لا= يغب طرفك عن طرفي ولا يغب
3- فلتبعد الورق للأوراق ساجعة=عن نطقها العذب يروي ساجع العذب
4- وا بي مليحة حسن كم سلوت بها=وما بها شنب عن ربة الشنب
5- نضرية في أساليب البيان لها=مذاهب أذهلت عن نضرة الذهب
6- غراء رائقة مهمى شدوت بها=شاهدت بالحس ماء الحسن فيصبب
7- لها من استبرق الترصيع مؤتلق=وفوقه رائق من سندس الأدب
8- ناجيتها فلقطت الدر من كلم=وصنتها فطويت الشمس في أهب
9- ساءلتها إذ تداعى الحي يسمع من=فهرية لم تدع فخرا لمنتسب
10- من أي شعب فخار أنت أي بني=فهر نموك أقوم السيد القطب
11- قالت أبي نجل بادي المجد كنت سنا=نجمي وكنت بهم أسمو إلى الحسب
12- نمى أبي لبيوت المجد بعد أبي=ه البر كل نجيب من قدى نجب
13- بنت الأكارم ما عرف عرفت به=مأتاك ذاك أذاك النفح نفح عب ير
14- واها لعرفك يا بشرى بعطفك لو=لا نشر عرفك ما راعيت لي نسبي
15- جددت عهدا مضى ما بين أهلك بل=أجداد آبائهم وبين جد أبي
16- وما نسيت ولا أنسى الذي عقدوا=ولا حللتم ولم أحلل عرى سبب
17- هيهات ما عهدنا واه ولا قدمي=زلت عليه ولا الأقدام من صحب
18- إذا جزى الله قوما صالحا أبدا=أوشاد مجدهم بالرفع في الرتب
19- إذن فأبقى مزايا آل كنت ومن=والوا وقربهم في غرفة القرب
20- لا يبعدون ولا زالت تساعدهم=هذي الليالي علىالإسعاف بالطلب
21- عليهم من تحياتي مرونقة=تنوب عن نجبي في حملها كتبي
22- عمت وخصتك يا ابن الطيبين كما=خصصتنا من عموم العجم والعرب
القاموس اللغوي :
1- اللَّذَّةُ : الشَّهْوَة ، أَو قَرِيبة منها . الراح : الخمر. هزتني : حركتني .هززت الشئ هزا فاهتز: أي حركته فتحرك. طربي : الطرب : مجاوزة الحد في المرح وخفة النشاط. مزامير : آلات الغناء جمع مزمار, و المزمورُ بفتح الميم وضمها والمِزْمارُ سواء وهو الآلة التي يُزْمَرُ بها.
2- هِيه , : بالتنوين كَلِمَةُ اسْتِزَادَةٍ في حديث معين . بحقك : قسم عليها .يغب , بتشديد الباء : يتأخر , وأغب القوم وغب عنهم جاء يومًا وترك يومًا . طَّرْفي : الطرف : العَيْنُ , أو اسم جامع للبصر .يغب : بتخفيف الباء : من الغياب .
3- الورق : الحمام الخضر .ساجعة : السجع : هديل الحمام . العذب –بسكون الذال - : الطيب .العذب-بفتح الذال-: الأغصان.
4- وا : كلمة استغاثة .بي :كأن أحدا سأله : مابك ؟ فأجاب : بي مليحة حسن . مليحة حسن : الملاحة أن يكون الموصوف حلوا مقبول الجملة وإن لم يكن حسنا في التفصيل. سلوت : السلو : طيب النفس عن الإلف , أو نسيان المعشوق . شنب : حدة في الاسنان، ويقال برد وعذوبة.ربة الشنب :المرأة المتصفة بالوصف السابق .
5- نضرية : نسبة إلى النضر بن كنانة . المذاهب : جمع مذهب بضم الميم وهو المشرب بلون الذهب .الذهول : سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ وقيل : متابعة النفس على ما تشتهيه.النضرة والنضارة : الرونق والسرور .
6- وامرأة غرّاء فرّاء : حسنة الثغر .
والرَّوْقُ : الإِعْجَابُ بالشَيْءِ .الشَّدْوُ : مَدُّ الصوتِ بِالغنَاء الصبب : الحدور.
7- الاستبرق : ما غَلُظ من الحرير والإبْرَيْسَم . وهي لفظة أعجمية مُعَرَّبة أصلها اسْتَبْرَه .الترصيع : نوع من السجع .المؤتلق : اللامع المضيء .
اللائق : المثير للعجب.السُّنْدُسُ: رقيق الدِّيباج .
8- ناجيتها : ساررتها والنجو: السر بين اثنين. يقال نجوته نجوا، إذا ساررته , وكذلك ناجيته. والاسم النجوى. الدر : كبار اللؤلؤ.صنتها : حفظتها , والصوْنُ : أنْ تَقِيَ شَيْئاً .طويت : كتمت , من الطي ضد النشر .الأهب –بضم الهمزة-: كل جلد عند العرب إهاب وجمعه أهب وأهب .
9- فهرية : نسبة إلى فهر بن مالك بن النضر .الفخر : التطاول على الناس بتعديد المناقب.المنتسب : المدلي بنسبه للافتخار.
10- الفخار : مثل الفخر , التمدح بالخصال .الشعب : القبيلة المتشعبة من حي واحد .بنو فهر : عشيرة النبي الأقربين . نموك : نسبوك , وانتمَى فلانٌ إلى حَسبِهِ: انتسَب .السيد : هو الذي يملك تدبير السواد الأعظم .القُطْبُ مُثَلَّثَةً وكَعُنُقٍ : حَديدَةٌ تَدورُ عليها الرَّحى كالقَطْبَةِ , وسَيّدُ القَوْمِ .
11- النَّجْل: الولد.نَجَل به أبوه يَنْجل نَجْلا .المجد: الكرم , والماجد الرجل الشريف يكون له آباء متقدمون في الشرف. البدو : الظهور . ( بادي المجد ) تورية عن الشيخ بادي الكنتي , ( كنت ) قبيلة عربية فهرية من أشهر القبائل في الصحراء ,السنى : الضوء .والسنى أيضا : النبت .والنجم: الكوكبوالنجم من النبات : ما لم يكن على ساق , والواحدة بهاء والثريا : صار علما له . السمو : العلو .الحسب : مايحسبه الإنسان ويعده من مفاخر آبائه .
12- رجل بار وبر : إذا كان ذا نفع وخير ومعروف .النجابة : الكرم في الطبيعة , والنجيب : الكريم الطباع .القدى : جمع قدوة , والقدوة: الاسوة. يقال: فلان قدوة يقتدى به .والنجب : جمع نجيب .
13- الأكارم : جمع الأكرم , والكرم : ضد اللؤم .العرف: الرائحة الطيبة . المأتى : مصدر ميمي بمعنى الإتيان : المجيئ .ذاك : ذكا المسك ذكاء ومسك ذكيٌّ : أذفر أي نافذ الرائحة . ذاك : اسم إشارة .نَفح الطِّيب يَنْفَحُ نَفْحا ونُفوحا، أرج .العَبِير : نوعٌ من الطِّيب ذُو لَون يُجْمَع من أخْلاَط .
14- واها : كلمة تعجب .العطف : الحنو والشفقة والميل إلى الشيء .العرف : المعروف .
15 العهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال هذا أصله , ثم استعمل في الموثق الذي تلزم مراعاته وهو المراد .
16- العقد : الربط بين الشيئين , نقيض الحل,عرى : جمع عروة : الشيء المستدير الذي يعلق فيه غيره ,وتستعار العروة لما يوثق به ويعول عليه , السبب : الحبل , وما يوصل الرجل بالرجل تشبيهاً بالحبل المعروف .
17 هيهات : كلمة تبعيد .الواهي : الضعيف المسترخي .زلت القدم : زلقت بسبب الوحل .
18- شادَ الحائِطَ يَشِيدُهُ : طَلاهُ بالشِّيدِ وهو : ما طُلِيَ به حائِطٌ من جِصٍّ ونَحْوِهِ .
19- المزايا : جمع مزية , والمزية : التمام والفضيلة ولفلان مزية أي فضيلة يمتاز بها على غيره .آل كنت : أهل القبيلة السابقة .والوا : من الموالاة والولاء وهو : الملك والقرب والقرابة والنصرة والمحبة .الغرفة بضم الغين : العلية , ويقال للسماء السابعة : غرفة .والمقصود بها هنا الجنة{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} , {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} , {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}القرب : جمع قربة , والقربة : القيام بالطاعة .
20- لا يبعدون : بالبناء للفاعل وفتح العين من بَعِد بَعَداً وبَعُدَ: هلك أو اغترب. قال تعالى: (كما بَعِدَتْ ثَمُودُ)، وقال مالك بن الريب المازني:
يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنوني ... وأينَ مكانُ البُعْدِ إلا مكانيا .ويمكن أن يكون من البُعْدُ والبِعاد : اللعن، ويمكن أن تكون بالبناء للمفعول فتكون من أبْعَده الله: نَحَّاه عن الخير وأبعده.الإسعاف : الإعانة والإجابة إلى المطلوب.
21- مرونقة : الرونق : الحسن من رنق الطائر إذا دار في الهواء .نجبي : النجب من الإبل : العتاق السراع .
تبسيط الأبيات :
من 1-22حفاوة الاستقبال .
1- يعبر الشاعر عن حفاوته بقصيدة أخيه الكنتي والتي أطلق عليها ( ابنة العرب ) فنراه يتحدث عن فرحه بتلك الأنغام العذبة التي تلقتها مسامعه من المزامير الكنتية التي صاحبت وصول هذه الفتاة العربية إلى المطمح النهائي لرحلتها , وهو ساحة الاستقبال في المهرجان الأدبي السوقي , حيث تحدث عن أثرها في نفسه , واصفا فرحته بقدومها , وبالأنغام المصاحبة له , بأنها قد وصلت إلى درجة الطرب , وهي غاية الفرح والسرور ,
وكأنه تساءل بينه وبين نفسه في نشوة من الفرح عن السبب الحقيقي وراء تلك الحميا السكرية التي دبت في عروقه , عند هذا الحدث , مستبعدا ومبعدا عن السامعين أن يكون السكر الناتج عن الراح ( الخمر )هو السبب في تلك الهزة الروحية التي دوت في أعماقه , وحركت عميق مشاعره ,
إذن فليس هناك ما يمكن أن يثير عاطفته إلى درجة الطرب , التي تعتبر غاية الفرح والنشاط وخفة الروح , إن لم يكن هذه المزامير العربية الكنتية التي تجاوبت أرجاء الخيمة السوقية بصداها , عند قدوم هذه الزائرة العظيمة .
2- هذه الزائرة التي لم يملك الشاعر عند سماع مزاميرها إلا أن يلح في الاستزادة منها وطلب استمرارها , مطالبا بعدم انقطاع هذا الصوت المنعش , ومؤكدا طلبه بالقسم على زائرته المغنية ألا تتأخر عن إسعافه بطلبه ,
كما صرح بعدم سماحه لهذه البنت العربية بالتواري عن نظره , ولا بغياب طرفها الساجي عن طرفه المشدوه , والمغرم في وقت واحد بالتحديق في محاسنها وملامحها المغرية الجذابة .
3- معلنا في الوقت نفسه لأنيسته ( فرقة الحمام الخضر ) والتي لم يعرف الشاعرقبل من فرق الغناء غيرها حصوله على الاستقلال التام عنها , وعن هديلها وهزجها , مودعا لها وسامحا بابتعادها عنه غير مأسوف عليها ؛ لترجع إلى أوراق الأشجار وأغصانها , وتمارس سجعها هناك ,حيث إنه قد اكتشف أن سجعها تقليد ومحاكاة , سرقه مقدمها ساق حر( ساجع العذب ) حامل رايتها من أهازيج هذه الفتاة العربية , وهاهي قد حضرت عندنا بنفسها وإذا حضر الماء بطل التيمم .
4- ثم تعجب الشاعر مشدوها من هذه الفتاة وملاحة جمالها , الذي جعلها سلوانة يتسلى بها كل عاشق عن معشوقته , وإن لم تكن متصفة ببعض الصفات التي تتمدح بها الغواني , من مثل عذوبة الريق مع رقة الأسنان ونداوتها , إشارة منه إلى أنها من بنات الأفكار , لا من بنات الأكلة والأستار .
5- وانتقل إلى وصف فتاته , فذكر أنها تنتسب إلى (النضر) إشارة إلى نسب ( سيد حم ) والدها , فهو من بني فهر بن مالك بن النضر ,وتحدث عن مقامها الرفيع في فنون الخطاب الذي سلكت فيه كل مسلك , ونهجت كل المذاهب الإبداعية , متمايسة في أثوابها المشربة بلون الذهب , والتي تنسي برونقها ونضارتها المعنوية الفائقة كل ما تصورته من الجمال الحسي , ولو كان الذهبَ , متألقا .
6- ويقترب من الواقع بعد ما طال تحليقه في سماوات الخيال ؛ ليفاجئنا بأن هذه الفتاة يمكن الغناء بها , وليس فقط سماع الأغاني منها , وأنك إذا غنيت بها , فإنك حتما ستشاهد جداول من الحسن ببصرك , -وليس ببصيرتك- تتدفق وتتضارب أمواجها أمام عينيك , بل إنك ستعاين رقراقا من الحسن يتقاطر بل يتصبب بين يديك .
7- ثم رجع إلى خياله ؛ ليصور هذه الفتاة في أبهتها ترفل في أثوابها الحريرية اللامعة المضيئة والمرصعة باليواقيت واللؤلؤ , متوشحة بوشاحها المثير للعجب , والذي لم يصنع إلا من خيوط سندس الأدب الرفيع ,
8- ثم تخيلها متربعة أمامه ؛ ليستمتع بمناجاتها التي تتمثل فيها الفقر دررا أكثر من كونها كلمات , ما جعله يحاول في غياب خيالي عن الحس والوجود أن يحتويها في كمه ؛ ليحتفظ بها ويستأثر بمسامرتها , فإذا به قد أودع الشمس بكامل ضوئها وعلوها في مطاوي بردته , بل بين لحمه وجلدته .
9- ثم أطلعنا الشاعر على طرف من مضمون النجوى التي سبق إجمالها , حيث إنها ركزت على التعرف على الزائرة التي تداعى المحيط كلها ؛ للاستماع بسماع ترانيمها , هذه الفتاة النضرية الفهرية التي لا قول لمفتخر في حضرتها , فالفخر كله حشو لؤلؤة من تاجها ,وماخصال التمدح والكمال إلا سلاسل تنتظم خزرا من المناقب لتصبح عقدا في جيدها , بيد أنها من قريش , فأنى يفلح المتطاول عليها .
10- فها هو يسألها عن فصيلتها الخاصة , وأين تشعبت أغصان أسرتها من دوحة (بني فهر) السامقة ؟ ثم يعاجلها بالسؤال المضمن بالجواب ؛ ليرفع عنها كلفة الإفصاح عن نفسها فيقررها بأنها من قوم السيد الماجد , والشريف المشهور , الذي تدور عليه أمور منطقته , ويتحرك السواد الأعظم بإشارته قبل كلمته , إنه جد أبيها الذي نجله ونعم ما نجل .
11- ومن جانبها اعترفت بصحة فراسته , مضيفة التصريح بالاسم الحقيقي لجدها , مكنية عن أبيها المجيد بأنه من سلالة الماجد المشهور ( بادي الكنتي ) وأن قبيلة (كنت) هي النور الذي اكتسب منه نجمها المتلألئ هذا الضياء الذي بهر الألباب , كما أن كل الشموخ والسمو الذي تتسم به شماريخها نابع أساسا من انتسابها إلى ذلك العذق الكريم من تلك الشجرة العريقة , والدوحة العميقة الجذور .
12- متممة فخرها بأن مجد أبيها ليس بدعا ولا فلتة من الدهر, وإنما هو حلقة من مسلسل طويل طالما شغلت به شاشات التأريخ , مسلسل أبطاله أجدادها الميامين .
13-أثناءها فتح الشاعر مع زائرته حوارا وديا هادئا , وجه إليها فيه نداء القريب , ناسبا إياها إلى أولئك الذين لم يكن كرم الكرام إلا فضلة من موائدهم , فهم الذين لا يعرف اللؤم مدخلا إلى أبوابهم , سائلا إياها عن ذلك العبق الذي ملأ الأرجاء عند وصولها إلى مشارف الحي , وعن تلك الرائحة الطيبة التي أنمت بوصول موكبها والتي يتمنى المسك الأذفر أن تكون من صفاته , ذلك الشذى العطر الذي لم يرتب قط عند اشتمامه له في أن هناك وفدا رفيع المستوى , قد تعين التهيؤ لاستقباله , وهل هو رائحة العبير الذي كانت مضمخة بأخلاطه ؟ متعجبا من طيب نفحاته , ومهنئا إياها على نجاح اختيارها للطيب المناسب . 14- ومستبشرا بسماحتها وعاطفتها الودية , ومقدرا لكل معاني الحنو والشفقة التي تحملها هذه الزيارة . ملمحا إلى أن شذى أخلاقها أوسع انتشارا من شذى عطرها , ومن أكبر الدلائل على ذلك هذه الزيارة التي لم يكن الدافع وراءها أصلا , إلا رعاية القرابة وصلة الرحم .
15- وتقدم إليها بالشكر والعرفان على هذه الالتفاتة الحنونة التي تمثل تجديدا لعهود سابقة , تلزم مراعاتها والحفاظ عليها , عهود كانت موصولة بين أجداد الشاعر وأجدادها الكرام .
16- محترسا عما يمكن أن يفهم من كلمة التجديد من معنى سلبي , بأن التجاور إذا كان بالقلوب فلا يؤثر عليه تباعد الأبدان , فلا هو قد نسي تلك العهود , ولا أهل الزائرة , بل لم تزل العقود التي وثقها الأجداد في كامل متانتها , فلا أحد من الطرفين يسامح بأن تحل عراها الوثيقة .
17- وصرح باستبعاده لكل احتمال قد يكون سببا لاسترخاء ذلك العهد المتين , بل إن الثبات والاستمرار هو طبيعته التي لا يمكن أن تزل عليه قدمه , هو ولا واحد من صحابته وقومه السوقيين , رغم كثرة الأوحال والمزالق في القرن الواحد والعشرين .
18-20- بعدها تسامى الشاعر بخياله المحلق ؛ ليتجاوز هذه الزائرة المتربعة أمامه رغم جاذبيتها , مسترجعا لتلك الذكريات الجميلة التي احتفظت بها ذاكرته لقومها الكنتيين , مبتهلا إلى الله –تعالى-أن يكافئهم بالنصيب الأفر مما يدخره لعباده الصالحين , وأن يبقيهم على رأس قائمة عباده الذين يرفع لهم الدرجات , ويسني لهم المقامات هنا وهناك , وأن يديم عليهم نعمته التي حلاهم بها , وجعلها شامة على جبينهم , يمتازون بها عمن سواهم , شاملا بدعائه الصادق كل من حصلت بينه وبينهم موالاة , أو محبة ونصرة , وراغبا إلى مولاه أن يجعل هؤلاء المحسنين ممن يقربهم عنده زلفى في جنة الفردوس .
ثم أردف بدعوة أخرى لهؤلاء القوم بالسلامة من المهلكات في الدين والدنيا , وأن يبقي الله المودة بينهم وبين قوم الشاعر , في خفض من العيش بحيث تبقى الأيام ولياليها ساعية في خدمتهم وإسعافهم بطلباتهم , وإعانتهم على تحقيق مطالبهم . 21- وبعد هذا الدعاء الحار , حمل موجات الأثير زفراته المفعمة بالحب والتقدير , في شكل تحايا ترفرف في الهواء بجمالها , تحايا لن يكتفي برسول الأثير في إيصالها , إذ لا بد من صياغتها وزخرفتها ؛ لتتمكن الصحف من حمل مهمة أدائها , بدلا من القلاص النواجي , التي لم تسمح مشاغل الحياة اليومية للشاعر بإنضائها في هذا السبيل .
22- ثم وصف تحاياه تلك بأنها كافة , وفي الوقت نفسه خاطب ابن الطيبين الماثل في ذهنه , والد جليسته بالتخصيص بعد العموم , مكافأة له على تخصيصه لقومه السوقيين بين عموم العجم والعرب في مستهل بائيته سيدة المجلس .
وللحديث بقايا وأستودعكم الله
|
|