عرض مشاركة واحدة
قديم 06-27-2009, 03:53 PM   #8


الصورة الرمزية ولت فرش
ولت فرش غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 100
 تاريخ التسجيل :  Jun 2009
 أخر زيارة : 08-09-2009 (09:09 AM)
 المشاركات : 36 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي تمبكتو, وثلاثية..الملح ,والذهب,والكتاب:5



أما كيف يستخرج ملح تاودني ، فيستخرج من تحت طبقة رملية ( سبخة ) يزيد عمقها أو ينقص حسب استنزاف المعدن من المكان ، ففي البداية قد تجده على عمق بضع سنتمترات ، ثم يزيد العمق إلى أن يصل إلى طول قامة الرجل الفارع الطول وعندما يصل العمال إلى الملح نفسه يجدونه على شكل طبقة ممتدة إلى مساحة كبيرة - أحيانا - ثم يقطعونه إلى كتل وألواح بطول ( 90/95 ) سنتمترات في سبع بوصات ( 90/95س ) أو ( 33 ) ثلاثة وثلاثين سنتمتر في ثلاث بوصات .
وعندما يستخرج الملح في أول أمره يكون رطبا لزجا ويقطع على أشكال تشبه أعمدة الرخام الأبيض وبالإمكان الكتابة عليه في الحين فالبعض يكتب عليه علامته التجارية المميزة والبعض يكتب عليه العلامة أو الوسم الذي تضعه قبيلته على حيواناتها ومواشيها .

وحمولة الجمل العادي من هذه الألواح تكون من أربعة إلى ستة ألواح من الملح 4/6 ولا تزيد .

ويذكر الرحالة ابن بطوطة ( زارالمدينة 1353 م ) : أن حمولة البعير الواحد من الملح في مالي يصل ثمنها إلى عشرة مثاقيل من الذهب ( 10 ) وقد تتجاوز ذلك بكثير في المناطق الداخلية البعيدة حيث تصل إلى أربعين مثقالا من الذهب الخالص ( 40 ) وظلت اسعار الملح تترتفع في مالي إلى أن وصلت في القرن السادس عشر الميلادي ( 16 م ) إبان زيارة حسن الوزان للمنطقة وصل ثمن حمل البعير من الملح إلى ثمانين مثقالا من الذهب ( 80 ) .

وهذا يدلنا على الطلب الكبير على سلعة الملح كلما توغلنا جنوبا .
ويمكن أن نجمل أسباب ارتفاع ثمن هذه السلعة في الجنوب إلى الأسباب التالية :
منها بعد أماكن استخراجه من المناطق الداخلية البعيدة فالمسافة تزيد على ألف وسبعمائة كيلو مترا ( 1700 ك م ) ثم المشقة الكبيرة التي يتجرعها مستخرجي الملح ، إضافة إلى مخاطر الطريق ، ثم حاجة أهل الجنوب الماسة والضرورية للملح وله استخدامات متعددة عندهم ، فهم يحتاجونه لتعويض اجسامهم عما يفقدونه من الملح أثناء التعرق الزائد وهم يستخدمونه كذلك لعلاج بعض الأمراض المستعصية هناك .
كما أن الملح استخدم في مرحلة ما في هذه المناطق كعملة مقبولة في كل الأسواق والمدن في الجنوب ، حيث يقطع إلى وحدات صغيرة ويحمل في أكياس مخصوصة وتستطيع أن تشتري به ما تريد من بضائع وسلع ، بعكس بعض العملات التي قد تقبل في سوق ، وترفض في سوق آخر .
البضائع التي تجلبها القوارب إلى تمبكتو :
وأما السلع التي تأتي بها القوارب عبر النهر من الجنوب ، فإنها تتكون في مجملها من صنفين :
الأول عمدته الذهب ،ثم الألماس والعاج وخشب الصندل والصمغ العربي وريش النعام .. الخ وهذا الصنف يتجه مباشرة إلى الحواضر الشمالية البعيدة وقد يجد بعضه طريقه إلى موانيئ الضفة الشمالية للمتوسط .
أما الصنف الثاني فإنه موجه للمستهلك في تمبكتو وقاوه ومدينة السوق ( تادمكت ) وما حولها وبقية القرى والمداشر القريبة في الصحراء والتي تقطنها قبائل عربية وطارقية : كأروان والمبروك والمأمون وبو المرحان ... وغيرها .
وجل السلع المتجهة إليهم تتمثل في :
الأرز والدخن والعسل والتبغ وبعض البهارات الجنوبية والتمر الهندي وزيت الذرة .. الخ .

وهنا يلاحظ هذا التناغم الجميل لعملية التبادل ؛ حين تنتقل حمولة الجمل إلى القارب وتنتقل حمولة القارب إلى الجمل ويتجه كل واحد منهما عائدا ادراجه من حيث أتى محملا بما استطاع حمله ، بحثا عن سوق جديد وربح جديد ... وهكذا دواليك وفي كل مرة تتجدد دورة من دورات الحياة التجارية في هذه المدينة العجيبة التي تستقبل كل الأجناس والأعراق ، بدون تفريق أو تمييز .
وربما لهذه الأسباب أثنى عليها الكثير من الرحالة الذين زاروها ولمسوا طيبة أهلها عن قرب وحبهم العميق للمرح وتذوقهم للفن ، وترحيبهم بالغرباء ، بل والمبالغة في الإحتفاء بهم ربما لكي يبعدوا عنهم الإحساس بالغربة .
وقد وصف زوار هذه المدينة أهلها بالذكاء واللباقة والفطنة ... وربما تكون هذه الصفات والسجايا هي التي مكنت تمبكتو دائما من استعاب الآخر القادم من بعيد ، بل واكتسابه وجعله من صميم أهلها ، وربما تكون هذه الصفات - كذلك - هي التي مكنتها دائما من امتصاص الصدمات والنكبات التي تعرضت لها بسرعة فائقة والمبادرة إلى استعادة دورها المحوري في تحريك عجلة التبادل التجاري والثقافي بين ضفتيْ الصحراء واستمرار إشعاعها الحضاري في عموم المنطقة بدون منازع ، حدث ذلك مع غزوة جودر باشا ، وتكرر مع امتداد نفوذ شيخو آمدو وحدث بعد أزمات عديدة تسببت فيه بعض الأثنيات القاطنة في المنطقة .

وكانت هذه المدينة العجيبة دائما تنتفض وتنهض من بين ركام معارك الآخرين على أديمها وكأنها تبعث من جديد وتنطلق في مسيرة جديدة وكأنها في شموخ عزها الأول .
ولكن هل نهضت تمبكتو بعد الإحتلال الفرنسي الغاشم ، الذي استمر جاثما على صدرها ، ويكتم أنفاسها لأكثر من ستة عقود عجاف ( 66 ) ؟!!!

وماذا عن الحياة الثقافية في تمبكتو ؟ :

تمبكتو هذه المدينة المثقفة العالمة .. تكمن عظمتها وسموها في أنها تمثل الذاكرة الحية للثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا جنوبي الصحراء ، بما كانت تعنيه في الماضي القريب ، كمنارة باسقة في سماء المنطقة تبعث أنوارها الوضاءة في كل اتجاه وكأهم تقاطع للإلتقاء والتواصل بين الشمال والجنوب ، وبما مثلته مدارسها وجامعاتها وزواياها الروحية كمعين لا ينضب ، ينهل منه طلاب العلم والمعرفة في سائر منطقة الساحل الإفريقي ، إلى أعماق الغابات ، والأدغال الإستوائية .

وفي سياق الحديث عن عظمة الدور الثقافي والحضاري الذي نهضت به هذه الحاضرة الإسلامية العتقية وأخواتها في منطقة ثنية النهر يقول كاتب فرنسي معاصر :
... " تحولت مدن المنطقة الثلاث الكبرى : تمبكتو .. وقاوه .. وجنيْ ، إلى مراكز لغليان ثقافي إسلامي ، سوداني ، لا تزال ذكراه حية " أ .. هـ ..
نعم هذا صحيح فمنذ تأسيس الجامع الكبير ( جينقريْ بيري ) في القرن الرابع عشر الميلادي ( 1325 م ) ولحقه صنوه جامع سان كوريْ ) ، الذي بني على نفقة امرأة ميسورة من قبيلة ( كَلْغَلاَ ) من سكان المدينة ، في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وجامع الشيخ / سيدي يحي التادلي ، وما ذكر عن العدد الكبير لمدارس المدينة ، والذي تجاوز مائة مدرسة ( 180 ) ،نعم منذ ذلك الوقت أصبحت المدينة كأنها خلية نحل تعج بالطلاب الأفارقة ، يأتونها من كل المناطق المجاورة واستقطبت العلماء .. والدعاة من كل البلاد العربية بل ونافست مدارسها وجامعاتها مثيلاتها في فاس .. والأزهر .. والقيروان .. ومنارات طرابلس الغرب .. والقيروان .. وتلمسان .. وكانت على اتصال بهم وتوافق وتكامل في المناهج العلمية وطرق التدريس .

ولم يقتصر دور المدينة فقط على اجترار واستهلاك ما يأتيها من منتوج فكري وثقافي من حواضر الشمال ، بل تجاوزت ذلك ، إلى استيعاب ذلك المنتوج الحضاري والمساهمة في تنميته وبذل الجهد في نشره في سائر الإقليم جنوبي الصحراء .
وكان لعلماء المدينة إضافات جيدة في إثراء الثقافة والفكر الإسلاميين في المنطقة ، فقد كتبوا وألفوا ، تآليف قيمة في كل العلوم والمعارف بما في ذلك الطب وعلم الفلك والحساب ، إضافة إلى تآليفهم القيمة في الفقه وعلوم القرآن من تفسير وغيره .. وكتبوا في علوم الحديث واللغة العربية وآدابها ؛ من شعر ونثر ونحو وصرف .. وكتبوا كذلك في التصوف والتاريخ والجغرافيا .. وأغلب هذه المؤلفات مازالت مخطوطة لم تمتد إليه يد لتطبعها وتنشرها للناس .

وقد ظل هذا الحراك وهذا النشاط العلمي والثقافي حيا وفي نمو وازدياد مطرد ؛ يتحرك ويمد سائر منطقة غرب إفريقيا بالعلماء .. والدعاة .. والمصلحين إلى أن أحتل الغزاة المنطقة وكبلوها بأغلالهم البغيضة ، ثم طفقوا يحاولون قتل .. ومسح .. ومسخ ثقافة .. وهوية المدينة ، بل المنطقة برمتها .

البيوتات ، والأسر العلمية في تمبكتو :

واشتهر في المدينة بيوتات علمية منذ وقت مبكر من تأسيسها ، وقد توارث بعضهم الإمام في المساجد الكبرى ، والفتيا ، وتعليم الناس مبادئ الدين الحنيف ، فكانت أسرة آل أقيت الصنهاجية هي السباقة في هذا المجال ، وظلت فيهم إمامة المسجد الجامع ، والقضاء إلى مجئ المغاربة ، ومن أعلام هذه الأسرة البارزين ، الفقيه الكبير / أحمد بابا التمبكتي ، الذي عارض الحملة المغربية ، فقبض عليه قائد الحملة ، جودر باشا ، هو ،وبعض آل بيته ، وأرسل إلى المغرب مكبلا في الأغلال ، وظل محبوسا هناك إلى أن توفي السلطان مولاي أحمد الذهبي ، فأطلق سراح الشيخ ، وعاد لاحقا إلى وطنه تمبكتو ، التي ظل يحن إليها طوال فترة وجوده بالمغرب ، ويقول فيها ما تجود به قريحته من الشعر الجميل .
ومن الأسر العملية في المدينة ذات الشهرة ، والصيت ، أسرة الونكريين أو الونقاريين ، وقد انجبت للمدينة العديد من فقهائها ، ولعل أشهرهم الفقيه العلامة / محمد محمود بغايغو ، وهو أستاذ أحمد بابا التمبكتي .
ومن الأسر العلمية التي كانت لها إضافة مشهودة في الحياة العلمية ، والثقافية للمدينة : ( كل إنصر ) أو الأنصار ، وهم قبيلة كبيرة ، كانت من أوائل القبائل العربية التي أستوطنت تمبكتو ،وضواحيها ، منهم الفقهاء ، والعلماء ، والشعراء ، والساسة ، وعلماؤهم لهم مؤلفات علمية رصينة في كل مجالات المعرفة .
ومن الأسر ، والقبائل التي اشتهرت في المنطقة بالعلم ، والتعليم ، قبيلة : ( كل أسوك ) أو أهل السوق ، وهم تاريخيا مجموعة من العلماء كانوا عصب التعليم ، والقضاء الشرعي ، في مدينة : السوق ( تادمكت ) ، ولما دمرت المدينة ، إثر غزو ملك الصنغاي : سوني ألي بيري لها ، تفرقوا بين القبائل ، والمدن ، ولذلك عرفوا بين الناس باسم : ( أهل السوق ) ، وهم في الواقع من أصول مختلفة - كما تقول بعض المصادر - فمنهم : الأشراف ، ومنهم الأنصار ، ومنهم غير ذلك ، وقد اشتهروا في المنطقة بأنهم القبيلة الوحيدة التي ليست لها مهنة إلا العلم ، وتعليم الناس ، والقضاء بينهم بالحق ، وقد اشتهروا كذلك بنسخ الكتب بخطهم الجميل الذي تميزوا به في كل الصحراء ، وبلاد السودان .
ومن الأسر العلمية في المدينة ، أسرة آل الشيخ / سيدي أحمد أق آده ، وآل الشيخ / زيني ، ولم نتطرق للأسرتين هنا لأن وجودهم الحقيقي ؛ بالنسبة للأول ؛ هم بناة ، ومؤسسي زاويتهم الشهير في قرية أَرَوَانْ ، ونشاطهم العلمي ، والتربوي يتركز فيها منذ قرون ، وهذا لاينفي أن لهم وجودا ملحوظا في تمبكتو ، فقاضيها الشهير / محمد محمود الأرواني منهم ، وكذلك من أعلامهم في المدينة ، مولاي أحمد بابير ، وكذلك الأمر بالنسبة لآل الشيخ / زيني فهم بناة ، ومؤسسي زاويتهم المباركة المعروفة في قرية : بوجبيهة ، وما زالوا يعمرونها ، ونشاطهم العلمي ، والدعوي يتركز فيها .
ومن الأسر العلمية التي دخلت المدينة متأخرة ، الأسرة الكنتية ، ولكنها ساهمت بنصيب طيب ، في كل الحركة الحية فيها ، في كل الميادين ، الإقتصادي منها ، والسياسي ، والثقافي ، ولعلمائها تآليف مهمة ، ومتميزة ، في كل الموروث المكتوب في مكتبات ، ومراكز المدينة العلمية ، بل المنطقة بعمومها ، وسكن في تمبكتو العديد من أعلام الأسرة الكنتية ، منهم على سبيل المثال الشيخ / سيد المختار الصغير ( بادي ) ، والشيخ / سيدي علواته ( عروة ) وله تفسير للقرآن ، والشيخ / أحمد البكاي ، وله مؤلفات مختلفة في السياسة ، والتاريخ ، والتصوف ، وله شعر جميل في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، والشيخ /سيد بابا أحمد بن الشخ سيد المختار الصغير- 1834/1887 م - ( وكان خليفة عمه في مشيخة الطريقة القادرية في المنطقة ) ، والشيخ / سيدي أحمد بن عمر الرقادي الكنتي - 1633/1718 م - ، وله كتاب في الطب العربي ، والأعشاب ، يعتبر أهم كتاب في مجاله في كل الصحراء ( شفاء الأسقام العارضة في الظاهر ، والباطن ) ، والجد ؛ سيد محمد الفردي - 1840/1909 م - ( كان من أعيان المدينة ،وقاد المقاومة الكنتية في وجه الغزو الفرنسي ) ...وغيرهم كثير ربما لا يتسع المجال لذكرهم .

يتبع


 

رد مع اقتباس