عرض مشاركة واحدة
#1  
قديم 02-16-2011, 08:50 PM
محمد أغ محمد غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 78
 تاريخ التسجيل : Apr 2009
 فترة الأقامة : 5495 يوم
 أخر زيارة : 09-27-2012 (01:03 AM)
 المشاركات : 299 [ + ]
 التقييم : 10
 معدل التقييم : محمد أغ محمد is on a distinguished road
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي التحريف الأسلوبي في قصيدة اليعقوبي



إضاءة: كما هو معروف ومكرر اليوم من أن الموضوع المدروس هو الذي يحدد المنهج، الذي يناسبه، فإني اخترت هذا الإجراء الأسلوبي، لأقرأ بواسطته هذه القصيدة، لاتضاح مظاهره فيها، وقبل ذلك يستلزم الحال التعريف بمصطلح (التحريف):
- التحريف الأسلوبي:
مصطلح نقدي أسلوبي، جاءت به جماعة مو le groupe mu، وهو مرادف لمصطلح الانزياح، لدى فاليري، وريفاتير، كما يرادف نوعاما مصطلح (المجاز، والعدول، والتوسع) عند القدامى.
إنه مصطلح مائع كما يقول المسدي، بحيث يصعب تحديده إلا بوضعه إزاء مقابله، ويتضح ذلك فيما يلي:
للغة مستويان أواقعان، واقع أصلي، وواقع عرضي، وهو الذي يسميه المسدي ب(الاستعمال النفعي للغة)، واطلق على كلا الواقعين عدة أسماء، منا:
الواقع الأصلي اطلق عليه:
الاستعمال السائر، والاك وفاران. ( l usagr courant) wellek et werran
النمط، ريفاتار، (la norme), Rifettare
الخطاب الساذج، جماعة (مو)، ( le discourse naïf) le groupe (mu)
الواقع العرضي أطلق عليه:
الاختلال، والاك وفاران، la distorsion)
الانزياح، ريفاتار، (l` ecart))
التحريف، جماعة (مو)، (l` alteration)
هكذا رأينا (الاختلال) مقابل (الاستعمال السائر) عند والاك، وفاران، و(النمط) مقابل (الانزياح)، عند ريفاتار، و(التحريف) مقابل (الخطاب الساذج) عند جماعة (مو). ويشير البلاغيون إلى هذا التقسيم عندما يقولون : (الحقيقة/ المجاز). ومن الدراسات الهامة في الموضوع دراسة الدكتور بسام قطوس، في كتابه ـ استرتيجيات القراءة ـ بعنوان: "مظاهر الانحراف في مجموعة الشاعر البردوني {وجوه دخانية في مرايا الليل}"
ويعرف (الانحراف) بأنه: (ظاهرة أسلوبية ونقدية، وجمالية، يعنى بها النقد الحديث، وإن كانت موجودة في نقدنا العربي القديم، من خلال الاستعارة، والمجاز، بمسميات كثيرة، منها التوسع، أو الاتساع، والعدول).
وهناك مصطلح يزاحم (التحريف) في التطبيق، وهو (التغريب) عند الشكلانيين، فإنه (يقصد به نزاع الألفة مع الأشياء التي أصبحت معتادة، أي مضاد لما هو معتاد).
فمن أهم المميزات الشعرية إذن: التحريف، التوتر، المفاجئة، الدهشة، توليد اللامنتظر.
إذا اتضح هذا كما أرجو فإنه تنبغي الإشارة إلى أني اخترت هذا االمصطلح (التحريف)، دون بقية المصطلحات، مثل (العدول/ التوسع...)، مع أنهما أصيلان في تراثنا، لأني أود اللفت منذ البداية إلى أني في حقل منهجي جديد، (الحقل الأسلوبي)، وهو حقل لم يرض رواده أن يكون صورة طبق الأصل (للبلاغة)، فالأسلوبية بديل عنها في عصر البدائل، كما يقول المسدي.
كما أنني لم أختر مرادفه (الانحراف) إشارة إلى أن ظاهرة التحريف لا تأتي عفوية، بل هي مقصودة، كما أوجبه بعض الباحثين، إلا أن التحريف المقصود، تنتج منه انحرافات غير مقصودة.
اهتممت بمتابعة مظاهر التحريف، في هذه القصيدة، مستفيدا من الشكلانية، في نظرتها إلى (الشكل)، وإعطائه أهمية كبرى، دون إغفال (المضمون)، وبالتالي إبراز (أدبية الأدب)، ومن هنا كذلك عنيت بأدوات (التغريب)، " القافية، والإيقاع، الجرس، المفردات، البنيات، اللغة عامة".كما استفدت من البنيوية الاهتمام ب(العلائق) والربط.
تلك هي المنابع التي استقيت منها، وهي المنارات التي وضعتها أمامي، وأنا أقرأ هذه القصيدة، فروافدي إذن: البلاغة، الأسلوبية، الشكلانية، البنيوية، اللسانيات عموما. مع أن المنهج المتبع حقيقة أولا وآخرا هو الأسلوبي.

الإجراء التطبيقي:
يبدأ شاعرنا بالتحريف من العنوان : (صور من تمثال المجد)، فإن اللغة العارية لا تسند للمجد تمثالا، فضلا عن أن تنحت لذلك التمثال صورا، ولكن الشاعر يبدأ باللعبة اللغوية، والتشويه الأسلوبي بهذه الصياغة المحددة لموضوع القصيدة، ولو قال: صور من مجد السوقيين. لما خيبت اللغة أفق الانتظار لدينا، ولما حركت منا حاسة الذوق الجمالي.
وهكذا يبدأ الانحراف الأسلوبي من العنوان لينسحب على القصيدة كلها.
تتحدد بينة النص من بنيتين كبيرتين، أو قصيدتين كما سيتضح، تندرج تحتهما بنيات فرعية، والأولى هي بنية (السوق) من البيت 1، إلى 14، والثانية بنية (الملتقى السوقي)، من البيت 15، إلى آخر القصيدة 27، علما بان آخر القصيدة اشتمل على الاعتذار عن عدم الحضور، وتقديم القصيدة كبديل عن الحضور.
بنية السوق:

السوق في ساحة الأمجاد تمثال ** مرآه في شاشة الصحراء أطلال
حشد الشاعر جميع المكونات الشعرية في هذا المطلع، ليخلب ألبابنا، علنا نستمع لتنهداته كلها، وهل تمكن منا؟ وكيف؟
كل متلق لهذا البيت يشده إليه، ليس لأنه اشتمل على الوزن الصحيح، ـ البسيط ـ والروي، والتصريع، وتركيب كلمات متعانقة، ليس لهذا فحسب، وليس لأن الموسيقى الداخلية، وما تمنحه حروف المد كلها (واي) في البيت ـ عشر مرات ـ من انسياب غنائي رتيب، ومن عجائب الإبداع العفوي أنها مقسمة بين الصدر والعجز بالعدل والسوية، (5/5)، لم يخلب كل ذلك عقولنا بقدر ما صدمتنا العلائق الغريبة التي وطدها الشاعر بين كلمات لغوية متنافرة عادة، من وصف (السوق) ب(التمثال)، من شدة شهرتها في نظر الشاعر المحتفي، على أن تخييب الأفق سيشتد عندما ينفي ضمنيا ما أثبت هنا، ناحتا للصحراء (شاشة) تتراءى من خلالها مدينة السوق، وهي مجرد أطلال بالية، ليخترع الشاعر صورتين للسوق في آن، والأولى تلخصها سيميائية (التمثال)، والأخرى تقربها كلمة (الأطلال)، لكن في أية شاشة تبدو السوق تمثالا وأطلالا معا؟؟ لا شاشة تبرز ذلك سوى شاشة الإبداع، ولهذا قبلنا هذا الانحراف عن المعتاد عقلا ولغة.
يريد الشاعر فقط أن يقول: إن مدينة السوق أشهر من التمثال عند الأمجاد، مع أنها عفت كالأطلال في الصحراء الكبرى، وبالتحديد صحراء دولة مالي. وما كان ليتسنى له أن يدغدغ مشاعرنا، لو لم يحرف اللغة، ولو لم يفعل لما استحق القيمة البلاغية القديمة {حسن المطلع}.
(يعيد الشاعر ضمير المذكر على (السوق) على اعتبارها بلدا، أو من أجل الإيهام بالسوق التجاري الذي يذكر ويؤنث، ولكني في التحليل أعيد الضمائر مؤنثة باعتبارها مدينة، فأنا لا يقيدني الوزن الذي يقيده).
وبهذا التحديد لموقع المدينة (الصحراء)، وما بعده نرى الشاعر يقدم نبذة جغرافية عن المدينة، ولكن هل يتكلم بلغة علمية، تليق بالمؤلف الجغرافي؟
إن الشاعر يتحدث في الأبيات الأولى في الجغرافيا، ولكن بلغة شاعر تائه، كأنه لا يعي ما يقول، إذ يقرر:
ثم القصور تخاله الصــخور ولا ** رمل هنالك إلا المــسك ينهال
مغناه معتـبر للعيـن مـــنتزه ** معناه فيض من الإلـهام هطـــــــال
وللأصالة من أحضانه انبجـست ** عيون عز به التاريخ يخـــــتال
برد المحاسن غض الوشي فيه وإن ** شيب الزمــان به الفضي أسمال
ألم يقلب الحقائق الجغرافية، ألم يحرف اللغة، يخبر كل جغرافي حول (السوق) بأن فيها صخورا، ورمالا، غير أن اللغة الشعرية تنفي هذه المعلومة، إن ما تراه هناك على أنه صخور، قصور، وما تظنه رملا هو مسك نثير، أية مدينة هذه؟ إنها السوق في خيال اليعقوبي، بل هي السوق في اللغة الشعرية الجميلة. هذا التصوير تصوغه مخيلة اليعقوبي في هذا القالب الرنان، بسجع الحمام بين (القصور/ والصخور) فبله الإيقاع السحري، الذي حققته موسيقى التكرار، للصاد مرتين، في الصدر، وللكاف في العجز كذلك.
يلعب اليعقوبي بعقولنا دوما، وكأنه نسي أنه أقنعنا قبل قليل بأن (السوق) مجرد أطلال في الصحراء، وها هو هنا يصدمنا بضد ذلك، فهي (منتزه)، و(مغنى) تسرح فيه العين إلى عالم العبر، وكأنها تذكر بقدرة الخالق وإبداعه، إلا أن هذا تلاعب مرضي لا ننشد سواه، فهو تلاعب فسيفساء اللغة، هذه الضديات بذاتها هي ما يستفزنا، ومن ثم تخلبنا قسرا.
إن العين إذ تقرأ بدائع الله من خلال السوق، وتعتبر، فإن المعاني تفيض إلهاما روحيا، شعريا، تاريخيا، ... أي شيء تريد، فهي فيض هطال، لا يتوقف. ولا أراك إلا مسلوبا بهذه الضديات البديعة التي ارتكبها هنا:
برد المحاسن موشى/ ثوب الزمان أسمال
برد ... غض الوشي/ الزمان مشيب
جديد لا يبلى / قديم يبلى
يمثل الجدول الأول من الثنائيات مدينة السوق، بينما يتمثل (الدهر أو الزمن) في الجدول الثاني، فانظر المفارقة، والتحدي، والصمود.
كل هذا ليصور لك الشاعر كيف كانت محاسن السوق جديدة كالوشي، وكالشباب، رغم تقادم الزمان، وهرمه. فقد قاومت بشبابها تقادم الصروف، ونوائب الدهر, فاستحقت أن يعتز بها (التاريخ)، ويتبختر بعيون العز التي انبجست من أحضان (السوق)، فاقرأ كيف حرف الشاعر المعاني، بالأساليب هنا، فبدل أن تعتز مدينة السوق بتاريخها المشرق، كان تاريخها نفسه هو المفتخر بها، فكأن الشاعر بهذا يجاري المتنبي في (تحريف المعاني) المعهودة، الذي يقول:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ** وبنفسي فخرت لا بجدودي
أثناء تحقيق المتعة البيانية، يحاول الشاعر دائما مصاحبة المزامير معه، فيناظر بين كلمتين تقعان في الأذن موقعا واحدا، لولا حرفان متحدان مخرجا، (مغناه/ معناه) ما يعرف ب{الجناس} الناقص، لكن هذه الوحدة الموسيقية لا تقل عنها تلك الخفة الإيقاعية الناتجة عن استيلاء مجموعة (الحلق) في هذا البيت أكثر من أي صوت آخر ( العين/ الغين/ الهاء)، فيكاد البيت يسيطر عليه الحلق دون بقية المخارج، وهو أمر يميز الوحدة الموسيقية للبيت عن بقية الأبيات، ويعطيه وقعا خاصا، وهنا نخالف ابن سنان الخفاجي الذي يقول بأن تقارب الحروف في المخرج يسبب الكراهة في السمع، بخلاف التباعد، الذي يحدث
الإيقاع، وقد اتبعنا ابن الأثير الذي يخالفه، ويستدل بكلمات متباعدة المخرج، مع أنها قبيحة الإيقاع/ مثل (ملع)، وكلمات مستحسنة، مع أنها متقاربة المخرج مثل (جيش).
بعدما رسم الشاعر الصورة المادية للسوق، وما يمكن تسميته بالبنية التحتية، والتقديم الجغرافي، يختم الصورة بالجانب الفوقي، الثقافي، والمعرفي، كأنه ينتقل من الجغرافيا إلى التاريخ، إلا أنه كما سبق لم يكن ليتحدث بلغة المؤرخ الحقيقية الناقلة، إنما يتحدث بهذه اللغة:

ما للثـقافة إذ تجلى مراكزها ** جمالها من لجين السوق معطال
ألم يعرب بنحو السوق معجمها ** ألم تنمق بخط السوق أشكال
غير الشاعر أسلوب (الخبر) الذي استهل به القصيدة، إلى أسلوب (الإنشاء)، عن طريق الاستفهام التقريري، وقد شغلت الجمل الخبرية الجانب الأكبر من مساحة النص، حيث تصل (40)، جملة، بينما لا تتعدى الإنشائية (3)، مع أنها في معنى الخبر، فإن دلالتها التقرير، لا السؤال، وهذا التفاوت بين الخبربة، والإنشائية يلاحظ مثله أيضا بين (الاسمية، والفعلية)، فالجمل الاسمية تبلغ (24)، بينما لا تتجاوز الفعلية (15). وهي مفارقة وفق فيها الشاعر في نظري توفيقا، فقد كان المقام مقام مدح، واحتفاء، فكان المجال مجال إثبات، وتقرير، وتأكيد، على الدوام، والثبوت، وتلك معان تمثلها الأساليب الخبرية أكثر، والجمل الاسمية كذلك. ومن الطريف أن القصيدة خالية من (النفي) تقربيا، إلا في أربع جمل: (إن لم يكن مدرج ../ وما به لقناة البث ../ لم يمس فقهها البال/ ما عفت منهن أطلال). فتكاد القصيدة تكون كلها خبرية موجبة، لتنسجم أساليب الجمل في القصيدة مع مقام إثبات الفضائل.
وفي سياق الاستفهام التقريري يقول:
ما للثــقافة إذ تجلى مراكزها ** جمالها من لجين السوق معطال
ألم يعرب بنحو السوق معجمها ** ألم تنمق بخط السوق أشكال

لقد أغرق الشاعر في التحريف الدلالي، والأسلوبي معا، فمراكز الثقافة محسوسة، فقد يفهم العقلاء مجازا أن تشبه بالمرأة، فتستعار لها القلائد الذهبية، تصويرا لحسنها، وجمالها، وأن القلادة التي تزدان بها مراكز الثقافة مسبوكة من ( لجين السوق): الذهب, وإلا فهي معطال، والمرأة المعطال: هي التي خلا جيدها من القلادة والزينة، لكن شاعرنا لا تشفي ظمأه الإبداعي هذه الصورة، المستمدة من المحسوسات، فيحضر معنويا هو (الجمال)، وينكر أن يكون معطالا، لأنه يكونه ولا محالة إذا لم يتزين بقلادة، أو زينة مصنوعة من ذهب السوق. فجمال المراكز بذاته إنما يزدان بلجين السوق. إن المعنى الذي يلمح إليه الشاعر هو: أن (السوق مركز ثقافي عريق، كان بالنسبة للمراكز الثقافية الأخرى بمثابة الزينة في جيد العروس). إلا أن هذا المعنى مطروق، أو على الأقل قريب جدا، ففضل الشاعر تحريفه، والانحراف عنه. وهو ما أعنيه ب(التحريف الدلالي)، ولكن عن طريق (التحريف الأسلوبي) أيضا. ويأتي البيت التالي تقريرا وبرهانا، باختصار بديع لمحتوى المراكز الثقافية، فهي إما (مكتبة / كتب/) وإما أدوات التدوين (الخط)، وتبرز مكانة السوق في كلا الحقلين. ويختصر مضمون المراكز بعلامة سيميائية هي (المعجم)، فهي مفتوحة الدلالة هنا، فقد تعني كل مواضيع المركز (الفقهية، واللغوية، والبلاغية...)، وكل ذلك المعجم يتساءل الشاعر تساءل من لا يريد الإجابة، بل يقرر : ألم يوضح بنحو السوق.ويأتي الجانب الثاني (الخط)، فيقرر كذلك مستفهما: بأن كل الأشكال الجميلة إنما نمقت بخط السوق.
هذا ومن الدلالة الخفية اللطيفة ما تشي به الدلالة النحوية وراء إضافة (النحو)، و(الخط) إلى (السوق)، إشارة إلى أن السوقيين اشتهروا في المنطقة بهذين الفنين، وكم افتخر أوائلهم بذلك، ومن أروع اعتزازهم بخطهم قول شاعرهم محمد يوسف السوقي:
تخال إذا ما رقشوا الرق رقهم ** بتائك ريش من خوافي الطواوس
تخر بأيدهم رواعف سجـدا ** سجود أبيل ناكـس في الكنائس
صوادر من فيحاء مل يك ماؤها ** بغور ولا طـرق ولا متشاوس
لا يلبث اليعقوبي تائها في غيه اللغوي، واحتفائه بمدينته حتى يتذكر وضعها الاقتصادي المذري، فليس فيها مطارات، ولا قنوات للإعلام، والإعلان عنها، ويحاول تزيين ذلك كعادة الشعراء:
إن لم يكن مدرج للطائرات به ** وما به لقنــاة البث إرسـالِِِ
فكم أواخ كشامات تنيط بها ** أعــنة الصـافنات فيه أبطـال
وكم صدرن يصدرن العلوم بلا ** ضرائب من جياد السوق أرسال
وربما انتبه اليعقوبي الآن بأنه ينحت من صخر، ويكاد يخرج من البلاغة المقبولة، إلى المبالغة المرفوضة، فلم يستطع أن يواصل في تحريف اللغة، فلخص الموقف بالكلام العادي، وكلمة (يصدرن) رغم كونها علمية مستهلكة كثيرا تحمل دلالتها الجميلة، فالسوق إن لم تصدر البضائع، والصادرات المادية، فهي تصدر العلم. كما لا ننسى مجانسة (إرسال) ل(أرسال)، لو لم يفصل بينهما البيت المتوسط، الذي لم يكن راقيا إلى درجة الأول، ولم يطق أن يصبح جواب شرط له. وكأن اليعقوبي نزل من سماء الإبداع، وطائراته، إلى الأرض، وصافناته بهذا البيت، وربما لهذا أحس بشيء في البيت المتوسط.
وكم وردن حياض السوق ماردة ** نوازل لم يمــس فقهها البال
ثم انثنت زللا يروي لمــوردها** عنا المسائل تفصيل وإجمــال
فصلت هذين البيتين عن السابقة رغم (كم/ كم/ كم)، فموضعها المناسب بعد قوله: {ألم تنمق بخط السوق أشكال}، لتحقيق التلاحم ، والوحدة الموضوعية، فهما في السياق نفسه، ـ الإشادة بمكانة السوق العلمية ـ فهي مشهورة بالنحو، والخط، كما كانت مشهورة بالفقه، فوظيفتها هي القضاء، والدعوة، والإفتاء، وبهذا تحققت مركزيتها، فهي شبه مركز للدعوة، والقضاء، والتعليم في المنطقة. هذا لا ينسينا التحريف الجميل في (ماردة)، و(لم يمس)، لقد وصف (النوازل) ب(الماردة)، عن طريق الاستعارة التصريحية التبعية، فالمشبه به هو الإبل الشاردة، والمتمردة، التي لم يستطع أصحابها أن يعقلوها، حتى وردت حياض السوق، فكذلك هذه النوازل، التي استعصت على المراكز الفقهية، ولم يستطع العلماء أن يعقلوها، ولا أن يحلوها، حتى جاءت السوقيين فروضوها، فعادت (زللا). وهذا الاختزال العجيب، لا يقل عنه ما تحمله كلمة (لم يمس)، إذا كان المستعار منه في الأولى (الإبل الماردة)، فإن المستعار منه هنا هو (النساء)، وبالأخص (الأبكار) اللائي لم يطمسهن إنس قبلهم ولا جان، فكذلك هذه (النوازل) التي كانت ترد على السوق، فهي لم يفكر فيها أحد، ولم تطرأ على ذهن. وهذا يحمل معنى لطيفا، هو ترحيب السوقيين بدل تهربهم بمثل هذه المسائل العويصة، الماردة، الأبكار، كما يرحب جميع الرجال بالبكر من النساء. كما يلخص لنا أنواع المسائل التي يحلونها، فهي إما مسألة استعصت على الأفهام، أو مسألة مبتكرة، لم يسبقوا إلى القول فيها. مما يعني من جهة أخرى أنهم لا يرددون ما يقتل بحثا وشرحا.
بهذا يصور أسلوب الشاعر المنتقي للكلمات الدالة مكانة السوق العلمية، فلا غرو من تعمقهم في (أصول الفقه)، وذلك ما توحي إليه التورية بمصطلحين أصوليين (تفصيل، وإجمال).
وكأني باليعقوبي خاف من انزعاجك على الإطناب فعمد إلى أسلوب الإيجاز، فأقل ما يقال عن السوقيين: أنه تضرب بهم الأمثال في العلم، والأخلاق، واقرأ قوله، مع قراءة ما وراء تقديم (بنا):

وحسبنا الفخر آل السوق أن بنا ** في العلم تضرب والأخلاق أمثال




 توقيع : محمد أغ محمد

اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا
وعملا متقبلا

رد مع اقتباس