المعلقة الثالثة عشر:المعنونة بعنوان:
فرائد التلقين
من فوائد شوارد المثل:
وعند جهنية الخبر اليقين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله البر الأكرم، علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم.
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه خير من روى الحكم.
ثم لما اطلعت على هذا المثل المثري به منتدانا الغالي، قرأته قراءة استفادة، فأردت إضافة ما يلي على وجه المشاركة في إثرائه، وشكر الأستاذ الجميل الأثر ابن المدينة، ومن داخله بإثرائه الجميل، خاصة إضافة شيخ المنتديات الشيخ محمد أداس السوقي بما أضافه من إضافة إفادية ـ بارك الله في الجميع أينما كانوا.
التمهيد:
قلت إن الأمثال علم قائم بذاته، وحكمة بالغة في الجاهلية، فضلاً في الإسلام المؤدب به كأدب عظيم من آدابه.
وسنوجز القول ـ إن شاء الله ـ فيما نحن بصدده في هذه الفرائد اللطاف، وفوائد شوارد الدقيقة الأوصاف، مستهلاً بما استهل به الإمام السيوطي هذا النوع من العلم الشريف، بعد عون المعين البر اللطيف:
النوع السادس والستون: في أمثال القرآن
أفرده بالتصنيف الإمام أبو الحسن الماوردي من كبار أصحابنا قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فاعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال"
قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام.
وقال غيره: قد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن فقال: ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال الدوال على طاعته المبينة لاجتناب معصيته
وقال الشيخ عز الدين: إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرا ووعظا فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل أو على مدح أو ذم أو نحوه فإنه يدل على الأحكام
وقال غيره: ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر وعلى المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره وعلى تحقيق أمر أو إبطاله قال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} فامتن علينا بذلك لما تضمنته من الفوائد.
وقال الزركشي في البرهان: ومن حكمته تعليم البيان وهو من خصائص هذه الشريعة
لكتاب : الإتقان في علوم القرآن 4/38-39تحقيق محمد أبو الفضل.
قلت: هذا جانب يسير من عظم الأمثال، حين بلغت في الذكر الحكيم، ما بلغ حد الكثرة بها، وبعلمها أن تصنف فيها المصنفات، كما تقدم شيء من ذلك.
وأما من جهة الأمثال بين العرب قديماً وحديثاً، فحدث ولا حرج، بل الأمثال من المعارف الشهيرة بين الأمم المستعملة في لغات الشعوب والقبائل عجماً وعرباً.
فوائدها:
وقال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من الشاهد فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك
وقال الأصبهاني: لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق تريك المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة وقمع لسورة الجامح الأبي فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر في وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال وفشت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء.
كتاب الإتقان..
و قال أبو عبيد في مقدمة كتاب الأمثال: هذا كتاب الأمثال، وهي حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق، بكناية غير تصريح، فيجمع لها ثلاث جلال ، إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه. ص34.
توطئه:
قلت: ومن تاريخ تدوينه، وجمع هذا الفن ما تناوله الدكتور عبد المجيد قطامش، في مقدمة تحقيقه كتاب الأمثال لأبي عبيد الذي يقول في الثناء عليه ـ ابن درستويه ـ رحمهما الله ـ: وقد سبقه إلى ذلك جميع البصريين والكوفيين ـ الأصمعي، وأبو زيد، وأبو عبيدة، والنضر بن شميل، والمفضل الضبي، والأعرابي، إلاّ أنه جمع رواياتهم، وبوبه تبويباً، فأحسن تأليفه..
ويقول القفطي: فرأيت من الإتقان والتحقيق ما لا شهدت لغيره.. ص17
المدخل:
أما مثل هذه المسألة فإنه يحتاج إلى تحرير كغيره من المسائل العلمية التي كثيراً ما تختلف روايتها، باختلاف لفظ متنها.
وصحتها من جهة سندها، وغير ذلك مما هو معروف في معرض التحقيق والتحرير.
متنه:
قلت هذا المثل وقفت له على لفظين من غير استقصاء.
أحدها: بلفظ: جحيفة.
الثاني: بلفظ: جهنية.
واللفظان ذكرهما أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه:
الذي يقول فيه: قال الأصمعي: من أمثال العرب في معرفة الأخبار، قولهم: عند جحيفة الخبر اليقين.
قال الأصمعي: وأصله أن جحيفة هذا كان عنده علم رجل مقتول..
فسألوا جحيفة فأخبرهم خبر القتيل..
وأما هشام بن الكلبي: فأخبرني أنه جهينة.
قال وكان من حديثه أن حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب خرج ومعه رجل من جهينة يقال له الأخنس فنزلا منزلا فقام الجهني إلى الكلابي فقتله وأخذ ما له.
فكانت أخته صخرة تبكيه في المواسم فقال الأخنس الجهني..:
تسائل عن حصين كل ركب***وعند جهينة الخبر اليقين
قال أبو عبيد: كان ابن الكلبي في هذا النوع من العلم أكثر من الأصمعي..
ص201-202كتاب الأمثال لأبي عبيد
تحقيق الدكتور عبد المجيد قطامش.
الترجيح:
قلت: لعل لفظ ((جهينة)) في هذا المثل أرجح من ((جحيفة)) لعدة أوجه.
منها: ما اشتهر به هذا المثل، بلفظ: وعند جهينة الخبر اليقين.
دون غيره.
ومنها: ما يتضمنه قول القاسم بن سلام، في قوله: كان ابن الكلبي في هذا النوع من العلم أكثر من الأصمعي..
لأن ابن الكلبي هو راوي: قصة لفظ: جهينة.
والأصمعي، هو راوي قصة لفظ: جحيفة.
هذا شيء يسير مما يتعلق به كمثل، وأما كونه حديثاً فهو كما يلي:
** ذكره الطبري في تفسيره عند قوله تعالى:(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) الآية، ولا ينفلت منهم إلا رجلان؛ أحدهما بشير والآخر نذير، وهما من جهينة، فلذلك جاء القول: وَعِنْدَ جُهَينَةَ الْخَبَرُ اليَقِينُ.
الكتاب : جامع البيان في تأويل القرآن
قال الألباني ـ رحمه الله:
وَعِنْدَ جُهَينَةَ الْخَبَرُ اليَقِينُ ).
موضوع كاللذين قبله.
وإسناده إسنادهما، من رواية الطبري ثلاثتهم، وآفتها رواد بن الجراح، وقد انتقد الحافظ ابن كثير الإمام ابن جرير في سكوته عن الثاني منها - كما تقدم -، وكذلك فعل في هذا، فإنه قال تحت الآية المذكورة: الكتاب : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة
المؤلف : محمد ناصر الدين بن الحاج نوح الألباني
** وذكره القرطبي أيضاً في موضوعين، أحدهما في تفسيره: عند الآية التي ذكره عندها الطبري.
الموضوع الثاني: في التذكرة: قال القرطبي قال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له جهينة، تقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين.
ثم ذكر من رواه كالمياشي، وأبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، والدار قطني، ومالك، ذكره السهيلي. وقد قيل اسمه هناد..
قاله القرطبي في كتاب التذكرة بأحوال الموتى والآخرة. 2/195- 196.
قلت:قال محققه أبو سفيان محمود بن منصور البسطويسي، عن هذا الحديث: ضعيف ـ ذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة...
هذا شيء مما يتعلق بهذا المثل كحديث ضعيف..
فوائد البحث:
قلت: ويستفاد من هذا من بحث هذا المثل عدة فوائد:
منها: ضعفه كحديث..
ومنها: ما رويت قصته بلفظ: جحيفة، وجهينة..
ومنها: أنه اسم قبيلة للرجل الذي قتل الكلبي، عند ابن سلام.
ومنها: اسم القبيلة نفسها لرجلين كما في تفسير الطبري والقرطبي ـ رحمهما الله.
ومنها: اسم رجل كما في حديث التذكرة القرطبية.
ومنها: اسم رجل آخر، كما في هذا النقل:
قال الحمداني: ويقال أن جهينة كان يخدم ملكاً يمانياً وكان له وزير اسمه نجدة إذا غاب الملك خلفه على حظاياه فبعث جهينة يوماً من غير أن يشعر به واختبى حتى جلس الوزير في مجلس الملك وغلبه السكر وغنى بهذا البيت:
إذا غاب المليك خلوت ليلي ... أضاجع عنده ليلي الطويل
فقام جهينة فقتل الوزير ودفن رأسه تحت وسادة الملك، فلما حضر الملك، فقد الوزير فسأل عنه فلم يقف له على أثر خبر فسكر جهينة ليلة عنده فقال:
نسائل عن نجيدة كل ركبٍ ... وعند جهينة الخبر اليقين
فسأله الملك فأوقفه على الخبر فقربه واحسن في عطاياه.
الكتاب : نهاية الأرب في معرفة الأنساب العرب
المؤلف : القلقشندي
الخاتمة:
إن هذا المثل يذكر في معرض معرفة الشيء على حقيقته، كما تضمنه معنى ما صدر به ابن سلام الكلام عن هذا المثل، بقوله:
ذكر الأمثال في العلم والمعرفة ـ باب في معرفة الأخبار وصحتها.
قال الأصمعي: من أمثال العرب في معرفة الأخبار، قولهم: عند جحيفة الخبر اليقين. ص201كتاب الأمثال..
هذا والله أعلم.
قاله وكتبه الراجي عفو ربه ورضاه
أخوكم أبو العباس
يحيى بن إبراهيم السوقي
بتاريخ 2/12/1431هـ