السلام عليكم, جذبني موضوع العادات ؛ لأهميته وتميز تناول الإخوة له, فشكرا لأخي أبي فارس ولجميع منادميه على هذه الكأس الطيبة.
من المقولات الحائزة على القبول عند الكثير من الناس قولهم: (الشيء إذا تكرر تقرر) ومن أبسط التعاريف لمصطلح (العادة)أنها:
"ما يتكرر وقوعه دائما"
من هنا نشأت الصعوبة في تغييرها فلا يخفى التباعد بين مفهوم "التقرر" ومفهوم "التغير".
إن شوائب الضلال في العقائد والبدعة في العبادات, والخرافة في العادات, إذا استحكمت في النفوس صعب اقتلاعها واحتاج إلى جهد ووقت كبيرين, وهذه المقدمة يسهل استيعابها جيدا لمن له إلمام بتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده, فرغم أن العرب أوتوا كثيرا من مكارم الأخلاق إلا أنهم مع ذلك قد ابتلوا بكثير من العادات السيئة الفظيعة مثل الوأد وأنواع النكاح الغريبة المعروفة في حديث عائشة عند البخاري في صحيحه.
ولكن لما كانت عند العرب بقايا من دين إبراهيم لم يصلوا يوما من الأيام إلى درجة بعض الشعوب في الانحطاط, فلما جاء الله بهذا الدين ترك النبي صلى الله عليه وسلم كل ما هو من محاسن تلك الأخلاق والعادات وصرح بأنه لم يبعث إلا من أجل إتمامه, وعدل في مفاهيم بعضها وترك أصولها, كما هو معروف في نصر الأخ ظالما أو مظلوما, هذه لم يغير شكلها ولكن غير من مفهومها, وهكذا.
ولعل ذلك؛ لأن النبوات في الأمم السابقة تمارس دور التجديد في أمتنا, فكل نبي لا يأتي إلا بعد فترة من الرسل, فيجدد ملة إبراهيم, ولا يتعرضون للجانب الممتلئ من الكأس إلا ببعض التصفية والتحلية التي تزيل منه الشوائب, وتصفيه من الكدورات, وتزيل عنه العوالق.
فلما كانت أمتنا هي آخر الأمم ورسالتنا هي آخر الرسالات اقتضى ذلك أن يكون هناك تجديد في أمر ديننا كل مائة سنة, وهذا يفهم منه تلقائيا أن تقادما مّا, سيتوالى على أمور ديننا, فلا غرابة أصلا في وجود تلك البقع السوداء التي تلاحظ في بعض المجتمعات, بل إنها من أعلام النبوة, فلا بد من تقادم, ومن ثم لا بد من مجدد.
وهذا التقادم يأتي على جميع المستويات: مستوى العقائد, مستوى العبادات, مستوى العادات والأخلاق.
لكن مع كل هذا, ومع تفهمنا لهذه الحقيقة يبقى جانب آخر, ألا وهو أن كثيرا من العادات قد يكون لها أصول شرعية, وهذا؛ لأن أمتنا في بعض أجزائها ـ وإن لم يصح إطلاق وصف الجاهلية عليها ـ إلا أن الشريعة المحمدية تصاب بشيء من الشيخوخة أحيانا في بعض المناطق؛ بفعل عوامل, بعضها يمكن تسميته وتحديده, وبعضها قد يخفى على غير الباحث المدقق.
من خلال هذه المقدمة أريد أن أصل إلى أن موضوع العادات يحتاج الحكم فيه إلى تريث من عدة نواح:
الناحية الأولى: الشرعية, فلا يمكن الحكم على أي عادة بمخالفة الشريعة إلا إذا كانت متصادمة مع أمر من أوامر الشريعة أو متحدية لنهي, من نواهيها, وهنالك تأخذ حكمها إما الحرمة أو الكراهة أو خلاف الأولى.
وقبل الحكم على العادة المعينة بهذه الأحكام, لا بد من التأكد من وجودها أولا, ثم تصورها تصورا صحيحا ثانيا, ضرورة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول العلماء.
وعلى زعم أنها مخالفة لأمر مّا من أوامر الشرع, أو متحدية لنهي من نواهيه, فقد تكون مبنية على فتوى مخطئة, مما قد يخفف من المسؤولية على العامة, وترجع المسألة إلى توضيح مأخذ تلك الفتوى والكر عليها بالنقض, ولذلك أمثلة, لكني لا أريد التطويل.
الناحية الثانية: الناحية السياسية(الشرعية أيضا)فلا بد من التأكد من الظروف التي فرضت العادة المعينة, ثم قياس تلك الظروف؛ للاطلاع على مدى كفايتها لتبرير انتهاج ذلك السلوك المعين تجاهها, فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها.
ثم التأكد من استمرار تلك الظروف وعدم استمرارها, وعلى استمرارها: هل هناك بديل يمكن اتخاذه تجاهها؟ وهكذا.
وعلى فرض عدم استمرارها, فأحسن علاج لها توضيح أسبابها الأصلية, ولفت النظر إلى أنها لم تعد موجودة, وكما قال النحويون: (ويذهب الإعلال إن زال السبب).ولذلك أمثلة لكني لا أريد التطويل.
الناحية الثالثة: الناحية التكتيكية, فقد تكون بعض العادات من مفرزات أوضاع حربية, عاشها الشعب الفلاني في الفترة الفلانية, ثم تستمر, وهذا أيضا يعتبر فتوى حربية, تحتاج إزالة حكمها إلى توضيح جذورها, ولفت النظر إلى كونها لم تعد موجودة, وقد تكون هذه النقطة راجعة إلى التي قبلها.
الناحية الرابعة: ناحية أخلاقية, فكثير من العادات تعتبر سياجات تعزل بعض الطبقات العالية عن التورط في بعض المواقف المحرجة, و التي قد لا تساعدهم ظروفهم على التعامل معها كما ينبغي, فوضعوا بينهم وبين الوقوف فيها حواجزـ وسمها تكتيكا اجتماعياـ وهذه أمثلتها كثيرة, ويمكن إرجاع كثير من الأمثلة التي تم نقاشها إلى هذه النقطة.
الناحية الخامسة: ناحية اجتماعية(علائقية) فقد تتخذ بعض القبائل من بعضها مواقف, أقلها أن تكون تحفظية, فيستدعي ذلك إيجاد حواجز وهمية من باب "ارتكاب أخف الضررين" وهذا تدعمه قاعدة: (الوقاية خير من العلاج) فقد تكون القبيلة الفلانية جربت في فترة من تاريخها مع القبيلة الأخرى أن كمية السفهاء من كلتا القبيلتين مرتفعة, فيفرق العقلاء بين أطفالهم في المضاجع كخطة وقائية إلى إشعار آخر, وقد يتأخر الرشد أحيانا.
أردت من خلال هذه الفلسفة أن أوجد الشعور عندنا بعدم الاستعجال في إدانة كثير من العادات, وأهمية التريث في نقد المجتمعات, فكما يقال: (أفعال العقلاء مصونة عن العبث)ولا شك أن المجتمع الطارقي بعيد عن الخرافية بمراحل, فليس إلا هجرا توافدت على الصحراء من بقايا حضارات سقطت, أوعبادا لجؤوا إلى الكهوف تحت ظروف معينة, فإرجاع عاداتهم كلها إلى فتاوى مصلحية, ومواقف أمنية, وخطط تكتيكية, أولى من أخذها مأخذ العبث .
أرجو أن فكرتي وصلت, وإلى لقاء آخر.
وأشكر الأخ أبا فارس واليعقوبي وكل من ساهم في إثراء الموضوع ملئ قلبي.