قصص قصيرة من الأدب العالمي ..
[color=red]قصة طريقين (قصة عن الشقاق والوفاق) قصة مترجمة *[/color] للأديب البرازيلي باولو كويليو الحائز على جائزة نوبل للآداب قبل قرون من امتلاء وسائل الإعلام بأخبار عما يسمى (تأثيرات العولمة), حكى الشيخ (قالندار شاه) القصة التالية في كتابه (أسرار الوحدة). في شرق (أرمينيا) كانت هناك قرية صغيرة تقع بين طريقين متوازيين, تُعرفان بالطريق الجنوبية والطريق الشمالية. وذات يوم وفد إلى القرية مسافر قادم من مكان بعيد, جاء سائراً عبر الطريق الجنوبية, وقرر زيارة الطريق الثانية أيضاً. ولاحظ التجار المحليون امتلاء عينيه بالدموع. وقال الجزار لتاجر الملابس (لابد أن شخصاً ما قد لقي حتفه على الطريق الجنوبية. انظر كيف يبكي هذا المسافر المسكين بعد أن مر بها). والتقطت أذنا أحد الأطفال تلك الملحوظة, ولأنه يعرف أن الموت شيء سيئ للغاية, بدأ البكاء الهستيري. وفي الحال بكى جميع الأطفال بالشارع. وانزعج المسافر, وقرر الرحيل على الفور. وألقى من يديه ثمار البصل التي كان يقشرها ليأكلها وهي سبب امتلاء عينيه بالدموع, ثم اختفى. وبعد برهة, شعرت الأمهات بالقلق لبكاء أطفالهن, فأسرعن لمعرفة ما يحدث, وسرعان ما اكتشفن أن الجزار وتاجر الملابس ثم غيرهما من التجار قد انشغلوا بأمر المأساة التي وقعت على الطريق الجنوبية. وسرعان ما انتشرت الشائعات. ولأن عدد سكان القرية محدود للغاية, عرف جميع القاطنين بالقرب من الطريقين أن شيئاً خطيراً قد حدث. وبدأ الكبار يشعرون بالخوف من حدوث الأسوأ, متوقعين الانكشاف التدريجي لأبعاد المأساة, وفضلوا عدم طرح أية أسئلة حتى لا يزيدوا الوضع سوءاً. وكان هناك رجل أعمى يعيش عند الطريق الجنوبية ويجهل ما يحدث, ولذلك سأل: ما سبب كل هذا الحزن في مكان كان سعيداً دائماً. فأجابه أحد السكان: هناك شيء فظيع حدث بالطريق الشمالية, فالأطفال يبكون, والرجال متجهمون, والأمهات ينادين أطفالهن ليعودوا إلى البيوت, والزائر الوحيد لهذه المدينة منذ سنوات عديدة, غادر وعيناه ممتلئتان بالدموع. ربما ضرب الطاعون الطريق الأخرى. ولم يمر وقت طويل حتى انتشرت شائعة وجود مرض قاتل - لم يكن معروفاً من قبل - في القرية كلها. ولأن البكاء بدأ مع مجيء مسافر إلى الطريق الجنوبية, أصبح واضحاً بالنسبة لسكان الطريق الشمالي أن الطاعون لابد ظهر هناك. وقبل مجيء الليل, ترك السكان منازلهم إلى الجبال في الشرق. واليوم - بعد قرون - مازالت القرية التي مر بها المسافر وهو يقشر البصل, مهجورة. وغير بعيد عنها, ظهرت قريتان أخريان تدعوان (الطريق الشرقية) و(الطريق الغربية). وما زال السكان, من ذرية سكان القرية الأولى, لم يتحدثون إلى بعضهم البعض لأن الزمن والخرافة وضعا حاجزاً من الخوف بينهم.. فلقد استقر بداخلهم أنه إذا ما حاولوا إعادة الصلات, فسيواجه مجتمعهم خطراً هائلاً. ويعلق الشيخ (قالندار شاه): لا يعتمد كل شيء في العالم على الأشياء ذاتها, بل على علاقتنا بها. وعندما ننظر إلى عالم اليوم, نستطيع إدراك كم ما زالت كاشفة. ففي نهاية تسعينيات القرن الماضي, لابد أن مسافرنا قد انفجر بالضحك بينما كان يمر بإحدى الطرقات الكبرى للقرية الكونية. فبينما اختفى الاقتصاد القديم, برزت الأسواق المالية, سقطت الجدران, انخفضت معدلات الفائدة, وتراجعت القيم الإنسانية إلى ما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر, ووصلت الحكومات المحافظة إلى السلطة. وبدا كل شيء في حالة من التناغم المثالي. وكل ما كان مفتقداً, شيء تحتاجه كل حضارة لكي تستمر.. عدو. وكان من الصعب جداً التورط في حروب جديدة, وهكذا لم يكن ممكناً اعتبار الإبادة في (رواندا) أو الحرب الأهلية في يوغوسلافيا.. ذلك العدو. وهكذا, وبنهاية القرن الماضي, كان الشرير الأعظم هو السيجارة. نعم, صدق أو لا تصدق, منذ وقت قريب كان التهديد الأعظم للعالم الحديث, تلك اللفافة الورقية الصغيرة المحشوة بالأوراق الجافة, بطرف مشتعل, وآخر غير مشتعل. وقبيل الهجمات الإرهابية كان هناك مسافر آخر يطوف بالقرية الكونية وهو يأكل البصل. وعادت الحرب العادلة إلى أوربا ومعها ما ألحقته من دمار هائل, وكان ذلك في (بلجراد). وبدأت أسواق المال تنهار, واتجه المحللون, الذين سبق ونصحونا بشراء الأسهم, إلى توقع انهيار لا يمكن تجنبه. وبدأ الناس يشعرون بالقلق على استثماراتهم وتقاعدهم وما القرارات التي يجب عليهم اتخاذها. أما الخطر الحقيقي فظهر في صباح الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001, وبدت الإنسانية على شفا انهيار عصبي, ففي تلك اللحظة حدث شقاق كبير بين سكان (الطريق الشمالية) - ويعرفون كذلك بالمسيحية اليهودية - وبين سكان (الطريق الجنوبية) - ويعرفون كذلك بالإسلام. ورفضت ذلك الصحف كلها, وكذلك خرجت البرامج التليفزيونية لتقول: (لا شيء تغير), وتقابل رجال الدين من كلا الطرفين في مؤتمرات دولية وعاملوا بعضهم البعض بتسامح واحترام, أما في الحياة الواقعية, فإذا كان جارنا مسيحياً أو يهودياً (في الطريق الجنوبية) أو كان الجار يذهب إلى المسجد ويطلب من زوجته ارتداء الحجاب (في الطريق الشمالية), فمن الأفضل أن نتابعه بحرص لأن شيئاً فظيعاً قد يحدث في أي لحظة. فهل من الممكن إعادة توحيد هاتين القريتين قبل اندلاع الهستيريا وتوابعها الأشد خطورة, وهذا ما أظنه? يجب أن ننحي جانباً التحليل السياسي, الخطط الاقتصادية والدراسات الاجتماعية, لنبحث عن إجابة لسؤال رئيسي: من أكون? ولماذا أتصرف هكذا? وليس من طريقة للقيام بذلك أفضل من النظر إلى حياتنا كما لو كانت سباق دراجات. وعندما كنا صغاراً, وعند بداية السباق كنا ننطلق معًا متقاسمين الصداقة والحماس. ولكن مع تقدم السباق, تتراجع السعادة المبدئية أمام التحديات الواقعية - الإرهاق - الضجر - والتشكك في قدراتنا الشخصية. ونلاحظ أن قليلاً من أصدقائنا قد استسلموا داخلياً, لكنهم ما زالوا يقودون دراجاتهم فقط لأنهم لا يستطيعون التوقف في منتصف الطريق. وكثيرون يبدلون إلى جوار السيارات الداعمة, مشغولين بمنولوجهم الداخلي للوفاء بالتزاماتهم, لكنهم غافلون عن مظاهر الجمال والتنافس على الطريق. وتدريجياً نخلفهم وراءنا, وبعد ذلك نجد أنفسنا في مواجهة الوحدة وذلك عند المنعطفات غير المألوفة في الطريق والمشكلات الميكانيكية في دراجاتنا. ونمر بغابات مظلمة حيث من الممكن أن يحدث أي شيء, لأنها مسكونة بأشباح مخيلتنا. وعند مرحلة محددة, وبعد مرات معدودة من السقوط دون شخص قريب يمد يد المعاونة, نبدأ التساؤل عما إذا كان يستحق فعلاً كل ذلك الجهد. بلى, يستحق. فذلك سؤال يهدف إلى إثارة الحماس وعدم الاستسلام. ويقول الأب (آلان جونز): للتغلب على المعوقات, وللمشاركة في تحسين الوضع العالمي, نحتاج إلى قوانا الخفية: الحب - الموت - السلطة - والزمن. يجب أن نحب, لأننا محبوبون, رغم أن شعورنا بالوحدة يجعلنا نعتقد في نقيض ذلك. ويجب أن ننتبه للموت حتى ندرك قيمة الحياة. يجب أن نناضل لننمو, ولكن دون أن نترك أنفسنا لخداع السلطة التي نكتسبها خلال النضال, وذلك لأن تلك السلطة لا قيمة لها. وفي النهاية, يجب أن نقبل بأن حياتنا - اعتقدنا أو لم نعتقد - في الفردوس القادم, في اللحظة الحالية واقعة في أسر الزمن بكل خياراته وحدوده. ولذلك, ففي سباق الدراجات الفردي, يجب أن نتصرف كما لو كان الزمن موجوداً, ونبذل ما بوسعنا لإضفاء القيمة على كل ثانية, ويكون لنا حق الراحة عندما يكون ذلك ضرورياً ولكن مع الاستمرار في الاتجاه الذي اخترناه. وليس من الممكن التعامل مع هذه القوى الأربع كما لو كانت مشكلات يجب حلها, لأنها تتجاوز قدرتنا. يجب أن نقبلها وندعها تعلمها ما نحتاج تعلمه. فبينما نقوم بالتبديل تجاه هدفنا, يجب أن نسأل أنفسنا: (ما المختلف اليوم?) ربما تكون الشمس مشرقة, لكن إذا حدث وأمطرت, تذكر دائماً أن ذلك كله يعني أن السحب القاتمة ستتلاشى عما قريب. تتلاشى السحب, وتظل الشمس على حالها.. لا تختفي أبداً. وفي لحظات الوحدة, من المهم تذكر ذلك. وخلال تلك اللحظات, لنتذكر وجود تلك القرية, وعندما يصبح المسير صعباً للغاية, يجب أن نحرص على عدم نسيان أن - بعيداً عن السباق, اللون, الوضع الاجتماعي, المعتقدات أو الثقافة - الناس الموجودين هناك مروا بالتجربة ذاتها. ولقد كتب (ذو النون المصري) (796 - 861 م) صلاة رائعة تلخص ببراعة التوجه الذي يحتاج إليه المرء في مثل تلك الأوقات: (يا إلهي, عندما أُنصِت لأصوات الحيوانات, ولحفيف الأشجار, وخرير الماء وغناء الطيور, وهدير الريح وهزيم الرعد, أرى فيها دليلاً على وحدانيتك, أشعر أنك قهار, عليم, حكيم وعادل. يا إلهي, أُدرك وجودك في الصعاب التي أمر بها الآن. إلهي ليكن رضائي من رضائك, واجعلني مصدر بهجتك, تلك البهجة التي يستشعرها الأب في وجود طفله. ولتجعلني أذكرك في سكينة وعزم, حتى لو كان من العسير علي أن أصرح أنني أحبك). ومثلما نعود إلى الحقائق البسيطة الموجودة داخلنا, فإننا ننأى بأنفسنا عن الهستريا الجمعية لنستطيع المشاركة بواقعية في العالم المحيط بنا. وفي مرحلة محددة, تعترض المأساة سبيل كل إنسان: قد تكون تدمير مدينة, موت طفل, اتهامًا بغير دليل, مرضًا ينتشر دون تحذير جالباً معه عجز دائم. وأحياناً نرث المآسي الخاصة بأجيال سابقة, كما هو الحال مع الطريق الجنوبية والطريق الشمالية. وبعد فترة نحصل على الحب, الموت, السلطة, والزمن, وجميعها ستعاوننا للحفاظ على سكينتنا عندما يمر ثانية بالطريق التي تمر بقريتنا, سواء كان يبكي أو يضحك. وإذا ما واجهتنا مشكلة حقيقية, فلن تستطيع الصحف أن تقنعنا بالعكس. ولو تعلق الأمر بمجرد حالة أخرى لشخص ما يقشر البصل, فلن يكون بوسع مخلصي أرض الأسلاف والحضارة أن يتملصوا ويرتكبوا جرائم باسمنا. ومن المفيد دائماً أن نتذكر كيف تعلمنا قيادة دراجة. لم يتم ذلك بواسطة ميكانيكا القوى والكتلة الحرجة والسرعة المثالية. ليس بالجلوس أمام مدرس يشرح لنا كيف يمكن لهذه المركبة ذات العجلتين أن تستمر في التحرك. ولم يحدث ذلك لأن شخصاً ما أخبرنا أن دراجتنا أفضل وأكثر أمناً من دراجة شخص آخر, وهكذا نستطيع القيادة بثقة. لم يحدث ذلك لأننا أنصتنا لرأي هذا أو ذاك, أو لأننا رأينا تغطية تليفزيونية ممتدة لمسابقة (تور - دي - فرانس) أو للألعاب الأولمبية. حدث ذلك لأننا جرؤنا على القيام بأول تبديلة. حاولنا وسقطنا وحاولنا, حتى جاء يوم, يكاد يكون إعجازياً, تمكنا فيه من حفظ اتزاننا. لن ننسى, حتى بعد مرور عشر سنوات أو عشرين سنة دون أن نركب دراجة. هل ذلك قابل للتفسير? لا.. ليس قابلاً للتفسير. لكننا نعرف كيف نقود دراجة, وهذا شيء مهم, لأننا حينئذ نستطيع زيارة قرية أخرى.. ابتداع طريق.. التخلص من خوفنا واكتشاف كم من الأشياء نشترك فيها (بما في ذلك الدراجات). باولو كويليو كاتب من البرازيل وحائز على جائزة نوبل في الآداب *** مترجم من مصر |
رد: قصص قصيرة من الأدب العالمي ..
بارك الله فيك أخي عبادي . قصة جميلة ، تحكي الواقع بكامل تناقضاته، وأتمنى أن يسبقني المثقفون من أهل موقعنا بالتعليق كي أقتبس مما علقوا على مثل هذه المواضيع . حقيقة أعجبتني الرواية القصيرة.
تحياتي لك . |
رد: قصص قصيرة من الأدب العالمي ..
بارك الله فيك أخي عبادي وجزاك خيرا على هذا النقل الموفق لهذه القصة المكثفة الرمزية لقد فرحت وأنتشيت بالمعاني السامية التي تدعو لها فكم من حواجز أوهمنا تقف حائلا بيننا وبين رؤية الحق والدعوة إلى العدل فكم من طريق جنوبي سلكناه وشمالي نسلكه الآن ونحن لاندري - وأزداد فرحي بتعليق الشيخ{ قالندار شاه } الذي أبدع في ترجمة رمزية النص, وإسقاطه على واقعنا وتاريخينا الدامي فهل نقف لحظة صدق مع أنفسنا ونقول : أما لهذا الليل البهيم أن ينجلي ألسنا جميعا بشر- ألم تتكون هذه البحيرة التي نرتوي من قطرات الحراك الحضاري للإنسانية جمعاء _ فل ندعو إلى الإسلام على بصيرة- ونحتسب الأجر من كل ذي كبد رطب فل ننشر الحب والإخاء - فل ننقي ثقافتنا من الخرافة وعباداتنا من الرياء والعدل مع على أنفسنا وأهلينا والنعمل ما يسعدنا أن نلقى به ربنا لا ما نسمعه من زغاريد الثناء من الأحباب وغيبة المخالفين لنا فالسعادة كل السعادة في العطاء وتيقن الجزاء في يوم الحساب . |
رد: قصص قصيرة من الأدب العالمي ..
تحياتي وتقديري للشيخين شيخ المنتديات أداس السوقي وأبو عبدالله المديرالعام , لا أخفيكم سرا إذا قلت لكم بأنني كنت أقدم رجل وأأخر آخر قبل أن أبدأ هذه السلسلة من القصص القصيرة ,التي أرجو أن يجد فيها زوار الموقع المتعة والفائدة, من خلال العبر والحكم التي تتناولها ,وما كان ترددي إلا بسبب نهج الموقع الملتزم , وخصوصية مواضيعه التي يتعلق جلها بأدب أهل السوق, الذي يفتقر إلى هذا الفن الذي أسهم في نقد واقع الأمم وكشف وفضح نوازع النفس البشرية الأمارة بالسوء, وأسهم إسهامات جليلة في النهضة الغربية . أكرر شكري وتقديري وتشجيعم لي ودمتم بخير |
سر السعادة-باولو كويلهو..
سر السعادة باولو كويلهو أرسل أحد التجار ابنه ليتعلم سر السعادة عند الرجل الأعمق حكمة من بين كل الرجال . مشى الصبي أربعين يوماً في الصحراء قبل أن يصل إلى مدخل قصر رائع على قمة جبل . هناك يقيم الرجل الحكيم الذي كان يسعى للوصول إليه . بدلاً من أن يلتقي رجلاً قديساً دخل رجلنا إلى قاعة تنشط فيها حركة كثيفة ، باعة يدخلون ويخرجون ، وأناس يتحادثون في أحد الزوايا ، وفرقة موسيقية تعزف أنغاماً خلابةً . وفيها طاولة مليئة بأشهى مآكل تلك المنطقة من العالم … والرجل الحكيم يتحدث مع هؤلاء و أولئك ، فاضطر الشاب إلى الانتظار ساعتين قبل أن يحين دوره بالكلام … أصغى الرجل الحكيم بانتباه إلى الشاب وهو يشرح له سبب زيارته ، ولكنه قال له أن لا وقت لديه الآن ليطلعه على سر السعادة . واقترح عليه القيام بجولة في القصر ثم العودة ليقابله بعد ساعتين … "ومع ذلك أريد أن أطلب منك معروفاً " أضاف الرجل الحكيم وهو يعطي الشاب ملعقة صغيرة سكب فيها نقطتين من الزيت . " خلال جولتك أمسك جيداً بهذه الملعقة ولا تدع الزيت يسقط منها " . بدأ الشاب يصعد وينزل كل سلالم القصر وعيناه مركزتان على الملعقة . وعاد بعد ساعتين إلى حضرة الحكيم . "إذاً " سأل هذا الأخير " هل رأيت النجود الفارسية الموجودة في غرفة الطعام خاصتي ؟ هل رأيت الحديقة التي عمل مسؤول البساتين عشر سنوات لإنجازها ؟ هل شاهدت الرق الجميل في مكتبتي ؟ " ارتبك الشاب ، واضطر بأن يعترف بأنه لم ير شيئاً أبداً . لأن همه كان ألا تقع نقطتا الزيت من الملعقة التي أعطاه إياها الحكيم . "إذن عد وتعرف على روائع عالمي " . قال له الرجل الحكيم . " لا يمكن الوثوق بإنسان إن لم نكن نعرف المنزل الذي يقيم فيه " . حمل الشاب الملعقة وهو أكثر اطمئناناً الآن ، وعاد يتجول في القصر مركزاً انتباهه هذه المرة على كل الأعمال الفنية المعلقة على الجدران والمرسومة على السقف . رأى الجنائن والجبال المجاورة ورقة لأزهار وتلك الدقة التي وضعت فيها الأعمال الفنية كل واحد في موقعه المناسب . ولدى عودته إلى الحكيم روى له بشمل مفصل كل ما رآه في جولته . " لكن أين هما نقطتا الزيت اللتان أوكلتك بهما ؟" سأل الحكيم … نظر الشاب إلى الملعقة فوجد أن نقطتي الزيت قد سقطتا منها . قال الحكيم عندئذ : " هنا النصيحة الوحيدة التي يجب أن أعطيك إياها : إن سر السعادة هو أن تنظر إلى كل روائع الدنيا دون أن تنس أبداً نقطتي الزيت في الملعقة " … |
ـسعادة للبيع تأليف : البرتو مورافيا
ــعادة للبيع تأليف : البرتو مورافيا- ترجمة : وفاء شوكت نحو منتصف بعد ظهر كل يوم، كان الموظف العجوز، المتقاعد، المدعو ميلون، يخرج من منزله، بصحبة زوجته أرمينيا، وابنته جيوفانا. كانت زوجته بدينة ومتقدِّمة في السن، وابنته هزيلة البنية وقد أصبحت الآن مسنَّة ومثل المخبولة. كان آل ميلون الثلاثة، الذين يسكنون ساحة "ديللا ليبيرتا"، يصعدون ببطء، على خطا أرمينيا السمينة، يمسحون شارع "كولادي ريانزو"، متأمِّلين واجهات المخازن الواحدة تلو الأخرى. وكانوا يغيِّرون الرصيف في ساحة ريزور جيمنتو" ويعودون، وهم يتابعون تأمَّل المحلات بالعناية ذاتها، نحو ساحة "ديللا ليبيرتا". كان هذا الذهاب والإياب يستغرق قرابة ساعتين، الوقت الكافي للتجلُّد حتى تحين ساعة العشاء. ولم يعد أفراد عائلة ميلون الثلاثة، الفقراء جداً، يدخلون إلى قاعة سينما أو مقهىً منذ زمنٍ طويل. كان التنزُّه هو تسلية حياتهم الوحيدة. وفي يومٍ من الأيام، وبعد أن خرجوا في الساعة المعتادة وصعدوا شارع "كولادي ريانزو" تقريباً حتى ساحة "ريزور جيمنتو"، لفت انتباه أفراد عائلة ميلون الثلاثة مخزن جديد، وكأنه فُتِح بطريقةٍ سحرية، في المكان الذي لم يكن حتى مساء أمس سوى حِباك(1) مغبرّ. وكان صقيل الزجاج يمنعهم عن تمييز البضاعة. فاقتربوا، ثلاثتهم، من المخزن، ودون أن ينبسوا ببنت شفة، شكلوا نصف دائرةٍ على الرصيف وهم يصطفون أمام واجهاته. كانوا يرون الآن البضاعة بوضوح: السعادة. كان أفراد عائلة ميلون الثلاثة، مثل جميع الناس هنا، قد سمعوا دائماً، الحديث عن هذه السلعة، ولم يروها قط. كانوا يتناقشون حولها هنا وهناك، كأنها شيء نادر جداً، فيصفها البعض بالخيالية، مشككين بوجودها الحقيقي تقريباً. وصحيح أن المجلات كانت تنشر من حينٍ لآخر مقالاتٍ طويلة مصوَّرة، يقولون فيها إن السعادة في الولايات المتحدة إن لم تكن عامة، فهي على الأقل سهلة المنال؛ لكن، كما نعلم، أمريكا بلاد بعيدة، والصحفيون يتخيَّلون أشياء كثيرة. وعلى ما يبدو، كانت توجد وفرة من السعادة في الأزمنة الغابرة، لكن ميلون، مثل كل الذين كانوا طاعنين في السن الآن، لا يتذكَّر أبداً أنه رآها. وها هو متجر الآن، وكأن الأمر لم يحصل، وأن الموضوع يتعلَّق بالأحذية أو أدوات المائدة، يقدِّم صراحةً هذه البضاعة، لأي شخص يريد شراءها. وهذا ما يفسِّر دهشة أفراد عائلة ميلون الثلاثة المسمَّرين إلى الأرض، الجامدين أمام هذا المتجر الغريب. ويجب القول إن هذا المتجر كان يُحسِن عرض بضاعته جيداً في واجهاته الكبيرة المؤطَّرة بحجر الترافرتين(2) اللامع، وكانت لافتته من طراز عام 1900، وجميع إكمالاته وزيناته مصنوعة من المعدن المطلي بالنيكل(3) . وفي الداخل أيضاً، كانت طاولاته على الطراز الحديث، وكان بائعان أو ثلاثة من الشبان الحيويين، أنيقي الملبس، يجذبون، بظهورهم فقط، الزبون الأكثر تردداً. وتظهر في الواجهات "السعادات" مثل بيض "عيد الفصح"، وهي معروضة حسب كبرها، وتوافق جميع الميزانيات. فيوجد منها الصغير والوسط والضخم، قد تكون مزيَّفة، وضعت للدعاية. وكان لكل سعادةٍ بطاقتها الصغيرة، مع السعر المدوَّن عليها بالأحرف الطباعية المائلة. وانتهى الأمر بالعجوز ميلون إلى القول بسطوةٍ، معبِّراً عن أفكارهم: -هذا إذاً، لم أكن لأتوقع ذلك أبداً... فسألته الفتاة ببراءة: -ولماذا يا أبي؟ رد عليها العجوز بانزعاج قائلاً: -لأنه، ومنذ سنواتٍ عديدة، يُقال لنا بأنه لا توجد سعادة في إيطاليا، وأنها تنقصنا، وأن استيرادها يكلِّف كثيراً... وها هم فجأةً، يفتحون مخزناً لا يبيعون فيه سواها. قالت الفتاة: -قد يكونون اكتشفوا منجماً. فانبرى ميلون يقول مغتاظاً: -ولكن أين، ولكن كيف؟ ألم يقولوا لنا دائماً إن باطن الأرض في إيطاليا لا يحتوي عليها؟... لا نفط، ولا حديد، ولا فحم، ولا سعادة... ثم، هناك أشياء ينتهي بنا الأمر إلى أن نكتشفها... هل تتخيَّلين... عندي شعور بأنني سأرى عناوين كبيرة تقول: بالأمس، كان "فلان" يتنزَّه في جبال "كادور"، واكتشف منجم سعادة من نوعيةٍ ممتازة... هيه، كلا، كلا... إنها بضاعة أجنبية. وتدخَّلت الأم بهدوءٍ قائلة: -حسناً، أين المشكلة؟ هناك، لديهم الكثير من السعادة وهنا، ليس لدينا شيء منها: إنهم يستوردونها... أين الغرابة؟" رفع العجوز كتفيه حانقاً، وقال: "حججٌ غير معقولة... هل تفهمين فقط ما هو معنى استيراد؟ هذا معناه صرف نقودٍ ثمينة... نقود بإمكاننا استخدامها لشراء القمح... إن البلد يتضوَّر جوعاً... نحن بحاجة إلى القمح... ومهما قلتِ، فإن الدولارات اليسيرة التي نجمعها بالحرَام، نقوم بإنفاقها على شراء هذه البضاعة، هذه السعادة! ولفتت ابنته انتباهه قائلة: -ولكننا بحاجةٍ أيضاً إلى السعادة. أجابها العجوز: -هذا شيء غير ضروري. قبل كل شيء، يجب التفكير في الغذاء.. أولاً الخبز، وبعد ذلك السعادة... ولكن على أي حال هذا بلد اللا منطق: أولاً السعادة، وبعد ذلك الخبز. فلاحظت زوجته الحليمة: -كم تغضب سريعاً! حسناً، أنت لا تحتاج إلى السعادة.. لكن الجميع ليسوا مثلك. وخاطرت ابنته بالقول: -أنا، مثلاً... فردَّد الأب بنبرة مهدِّدة: -أنتِ، مثلاً... وتابعت الفتاة بيأس: -أنا، مثلاً، سأشتري حقاً، واحدة، واحدة صغيرةً منها، لأعرف فقط كيف هي مصنوعة هذه السعادة. فقال الأب مقاطعاً ومغتمَّاً: -هيا بنا. وتركت المرأتان نفسيهما تُقْتادان بطاعة. لكن العجوز كان الآن منزعجاً. فقال: -لم أكن أتوقَّع ذلك منكِ حقاً، يا جيوفانا. -ولماذا، يا أبي؟ -لأنها بضاعة من السوق السوداء، من محدثي النعمة، من أصحاب الملايين... إن موظفاً في "الدولة" لا يستطيع أن يطمح إلى السعادة ويجب ألا يفعل... وعندما تقولين بأنك تودين شراءها، تثبتين على الأقل عدم إدراكك... كيف... نحن نؤجِّر غرفاً في منزلنا، ويصلني راتبي التقاعدي تقريباً في أول الشهر، وأنتِ... آهٍ، إنك تخيِّبين أملي، إنك تخيِّبين أملي. غشت الدموع عينيّ ابنته. فقالت الأم: -هل ترى كيف أنتَ، إنك تمضي وقتك في تأنيبها. ثم إنها لا تملك شيئاً في الحياة، وهي شابة، فأين الغرابة في أن ترغب في تذوُّق السعادة؟ -لا شيء... لقد استغنى والدها عنها، فهي أيضاً باستطاعتها الاستغناء عنها. كانوا الآن قد وصلوا إلى ساحة "ريزور جيمنتو". لكن، خلافاً لعادتهم، أراد العجوز، هذه المرَّة، العودة على الرصيف ذاته. وعندما وصلوا أمام المخزن، توقَّف، ونظر طويلاً إلى الواجهة، وقال: -هل تعرفان ماذا أعتقد؟ إنها مزيَّفة. -ماذا تريد أن تقول.؟ -حسناً؛ أمس فقط، كنت أقرأ في الجريدة أن سعادة صغيرةً مثل هذه، في أمريكا، أقول جيداً في أمريكا، تكلِّف عدة مئاتٍ من الدولارات... فكيف من الممكن أن يقدِّموها لنا بهذا الثمن؟ إن سعرها مع تكلفة النقل يكلِّف أكثر بكثير... إنها مزيَّفة، إنها منتجات محليَّة... لا يوجد في ذلك أدنى شك. وجازفت الأم بالقول: -لكن الناس يشترونها. -وما الذي لن يشتريه الناس... سوف يكتشفون ذلك بعد أن يعودوا إلى منازلهم، خلال عدة أيام... غشاشون! وتابعوا نزهتهم. لكن جيوفانا كانت تبتلع دموعها، وتفكِّر بأن السعادة، حتى المزيَّفة، ستعجبها. (1) حِباك: حظيرة من قصب شدَّ بعضه إلى بعض). (2) ترافرتين حجر جيري من مدينة تيبور بإيطاليا). (3) نيكل معدن أبيض). |
الـــوردة ..البرتو مورافيا ..
الـــوردة ـــ بقلم : البرتو مورافيا ترجمة: وفاء شوكت في شهر أيار، كانت توجد في حديقة هذا البيت الصغير في الضاحية، بالقرب من أشجار الورد، صفوف من الملفوف. كان المالك، وهو عجوز متقاعد، يعيش وحيداً مع طاهيته، يخلع سترته عند الغسق، ويلبس مئزراً من القماش المخطّط وينكش الأرض بالمعول، ويشذِّبها، ويسقيها ساعة، في انتظار وجبة العشاء. وكانت نساء الحيّ تستطيع رؤيته، وهن عائدات مساءً من الحدائق العامَّة مع أطفالهن، من خلال قضبان الشبكة المعدنية، فيما هو يوجِّه الفوارة على المساكب حاملاً خرطوم الماء بيده. وكان الرجل المتقاعد يقطف، من حينٍ لآخر، ملفوفةً، ويعطيها لطاهيته؛ أو يقص بالمقراض بعضاً من تلك الورود، ويضعها في زهرية في منتصف الطاولة، في قاعة الطعام. وعندما يجد وردة جميلة جمالاً خاصاً، كان الرجل المتقاعد يحملها إلى غرفته، ويضعها في كأس بعد ملئها بالماء، ويضعها على منضدةٍ قرب سريره. وكانت الوردة تبقى في الماء تنظر إلى رأس سرير العجوز، حتى تسقط أوراقها، وتتفتَّح كل بتلاتها مثل الأصابع، وتكشف عن قلبها الأشقر والوَبِر. لكن المتقاعد لم يكن يرمي الوردة إلا عندما يجد بتلاتها منثورةً على رخام المنضدة، ولا يوجد في الماء الذي فتر والمليء بالفقاعات سوى الساق المليئة بالأشواك. وفي صباح أحد أيام شهر أيار، انقضَّت سيتونية(1) مذهَّبة كبيرة، تتبعها ابنتها التي لا تزال شابة، بعد أن حلَّقتا سدىً في حدائق المنطقة، ولم تجدا أية زهرة وقد شاهدتا، من بعيد، مساكب المتقاعد، انقضتا على ورقة شجرة زعرور جرماني، عريضة وقاسية؛ وهنا قالت الأم لابنتها بعد أن استردَّت أنفاسها: "ها قد وصلنا إلى نهاية تجوالنا. فإذا ما انحنيتِ ونظرت إلى الأسفل، سترين زهرات عدة لا تنتظر سوى مجيئك. فنظراً لصغر سنِّك، أردت حتى الآن مرافقتك ونصحك في اختيار الورود وعلاقاتك معها... كنت أخشى أن تتعرض صحتُكِ الجسدية والنفسية للخطر بفعل حداثة الأحاسيس وعنفها إضافة إلى النهم الخاص بشبابك، لكنني وجدت أنكِ سيتونية عاقلة، مثل باقي سيتونيات عائلتنا، وقرَّرت أن الوقت قد حان، من الآن فصاعداً، لكي تعتمدي على نفسك وتحلِّقي بأجنحتك نحو الورود التي تفضلين؛ فمن الأوفق إذاً أن نفترق نهاراً كاملاً؛ وسنعود ونلتقي على ورقة شجرة الزعرور هذه. لكنني سأعطيكِ قبل أن نفترق، بعض التوصيات. تذكّري أن السيتونية خلقت لتلتهم الورود. أو، على العكس، خلق الله الورود كي تتغذّى السيتونيات عليها. وبخلاف ذلك، فلسنا نجد لماذا تصلح هذه الورود. وإذا لم تجدي ورداً، أمسكي وامتنعي عن الطعام، فمن الأفضل تحمّل الجوع على مسّ غذاءٍ غير جدير بعِرقنا. ولا تصدِّقي مغالطات دود الأرض والرعاع الآخرين، الذين يدَّعون أن جميع الورود جيدة. هذا ما يبدو، في أول الأمر لكن بعد ذلك تنكشف بعض الأمور. وبعد أن ينقضي زمن الشباب، تكشف السيتونية التي انحطت، النقاب عن جميع نقائص انحطاطها المخجلة؛ وعليها، بعد أن يتم إبعادها عن قومها أن تقاوم صحبة الخنافس والزنابير والطفيليات، وقائمة طويلة أخرى من الهَنات(2). لأن الوردة، يا صغيرتي، هي غذاء إلهي، قبل أن تكون غذاءً مادياً. ومن جمالها، تنهل السيتونية جمالها هي. إنها أشياء غامضة، ولن أعرف أن أقول لكِ أكثر من ذلك. وأعرف ببساطة، أن بعض القوانين، التي تدعى، بدقةٍ، إلهية، لم تُنْتَهك أبداً دون عقاب. لكنكِ لست بحاجة لمثل هذه التحذيرات، فأنتِ سيتونية سويَّة ونزيهة، وتحكمين بالفطرة على بعض الأشياء. فإلى اللقاء، يا صغيرتي، إلى اللقاء هذا المساء." وبعد أن عبَّرت عن أفكارها على هذا النحو، طارت الأم الشجاعة، لأن وردة قرمزية ضخمة، تفتَّحت أوراقها قبل هنيهة، كانت الآن تستهويها، وتخشى أن تسبقها إليها سيتونية أخرى، أو أن تستميل صراحة، ابنتها. وبقيت السيتونية الفتيَّة بضع دقائق أخرى على ورقة شجرة الزعرور تتملَّى حديث أمها. ثم طارت بدورها. إن أحداً آخر غير السيتونية، لا يمكنه أن يتصوَّر ما هي الوردة لسيتونية. فتخيَّلوا الزرقة في شهر أيار، تجتازها موجات شمسية بطيئة، في حديقة مزهرة. وها هو سطح منتفخ وأبيض يظهر أمام عيني السيتونية المحلِّقة والتي يداعب ظلّها بتضاريسه المُهيبة، ويتوِّج الضوء حوافه المتألِّقة؛ سطح واسع وناعم، مماثلٍ لسطح ثدي مثقل بالحليب. إنها الورقة الخارجية لوردة بيضاء، لا تزال منغلقة، لكنها عريضة عند الأطراف، وتكشف عن أوراق أخرى متراصَّة وملتوية بعضها على بعض. وقد أثار هذا البياض الشاسع والبكر، الذي اكتسح فجأةً سماء عينيّ السيتونية، هيجاناً شرهاً، فاتناً ولاهثاً. وكان أول اندفاع شعرت به، هي أن تنقضَّ برأسها أولاً، على هذا اللحم الرائع غير المحمي، وتنهشه، وتمزِّقه لتدمغه بندبة استحواذها المسبق عليه. لكن حدسها أوحى لها بطريقة أكثر نعومة لولوج الوردة؛ وها هي تتشبَّث بحوافي ورقةٍ مفرطة وتتسلل إلى داخل الوردة. كان في الإمكان رؤية جسم السيتونية الأخضر- الذهبي برهة، مماثلاً ليد تندس بين أغطية سرائر من الكتَّان الأبيض، يتخبَّط بيأس، محاولاً شق طريقٍ لنفسه؛ ثم اختفى تقريباً، واستعادت الوردة، المنتصبة على ساقها، مظهرها المألوف، شبيهةً بفتاة شابة، تحتفظ تحت مظهر البراءة العذرية، بالسر الحارق لأول عناقٍ غراميّ لها. لكن، فلنتبع السيتونية في قرارة الوردة. كل شيء حولها ظلام؛ لكنه ظلام نديّ، ذكيّ الرائحة وناعم؛ ظلام يحيا ويخفق في ثناياها الخفيَّة، مثل ثنايا فمٍ مُشْتَهى؛ والسيتونية ذاهلة بعطر الوردة، مبهورة ببياضها الذي تسبره بين البتلات التي تنطبق ثانيةً، وقد اهتاجت بليونة هذا اللحم. وهي ليست سوى رغبة، كما أن الوردة ليست سوى غرام؛ وبحبٍّ جنوني فطري، بدأت تلتهم الأوراق. ليس الجوع، كما قد يُظن خطأ، ما يدفعها إلى تمزيق البتلات وخرقها، لكنها الرغبة المجنونة في الوصول إلى قلب الوردة بأسرع وقتٍ ممكن. إنها تعصر بين براثنها، وتمزِّق، وتقطِّع، وتخزق، وتجزِّئ. وفي الخارج، لا يشك أحد بأمر هذا الولوج المجنون؛ وتحتفظ الوردة المنتصبة والبِكْر تحت ضوء الشمس، بدون خجلٍ، بسرِّها. لقد كسرت السيتونية، في أثناء ذلك الوقت، بهيجانٍ متزايد، غلاف الوردة الأول، والثاني والثالث. وبمقدار ما كانت تلج، كانت الأوراق تصبح أكثر نعومة، وأزكى رائحة، وأكثر بياضاً. وشعرت السيتونية بأنه سيغشى عليها من المباهج، وأن قواها ستخور تقريباً، وتضرب ضربةً أخيرة ببراثنها، وتفتح في متراس البتلات القاتم، فتحة نهائية، وتُدْخِل رأسها أخيراً في الفرو الأبيض والمُسْكِر لغبار الطلع. وستبقى هنا، دائخة، ضائعة، منهكة وكأنها ميتة، في هذه الظلمات الندية والمعطّرة؛ لن تتحرَّك، وستبقى جامدة، ساعات، وأياماً كاملة. أما، في الخارج، فلم يُفْشِ أدنى ارتعاش للأوراق، تحت براءة أشعة شهر أيار، سرَّ الوردة المثير. هذا هو قدَر السيتونية. لقد كانت هذه الشابَّة التي أعطتها أمها نصائحها التي تظنُّها غير ضرورية، تشعر في الواقع بأنها مختلفة، اختلافاً لا يُحدّ نهائياً، عن رفيقاتها من جنسها. شيء لا يصدَّق، لكنه صحيح: كانت الورود لا تعني لها شيئاً. وكانت سيتونيتنا تشعر، شعوراً عارماً، بأنها مدفوعة لتغيير هذه المشاعر الوراثية والحارَّة، التي تشعر بها السيتونيات نحو أجمل الورود المعطَّرة، منذ الأزمنة السحيقة، إلى اختيارات باردة وخشنة. كانت السيتونية قد اكتشفت باكراً جداً ميولها، ورأت، في مبادرةٍ أولية، أن تكاشف أمها بالأمر. لكنها فيما بعد، ومثلما يحدث دائماً في هذه الحالة، شعرت بالذعر من صعوبة اعترافٍ كهذا، وفي الوقت ذاته ومع شكِّها بالعلاج الأمومي، عدلت عن ذلك. وحاولت جاهدة ولثقتها بقدراتها الشخصية، إصلاح نفسها بنفسها. وهكذا حاولت متنقِّلة من وردةٍ إلى وردة، تحت عيني أمها العطوف، الحصول مع الرضى على هذه الرغبات التي كانت فطرتها ترفض إعطاءها لها. جهد ضائع. فما أن كانت تدخل بين الأوراق حتى تتوقَّف سريعاً، وكأنها مشلولة، وليس فقط غير مبالية، بل صراحةً، عرضة لنفورٍ لا يقاوم. وكان هذا اللَّحم الناعم يبدو لها مغموساً بشهوةٍ لزجة وعسليَّة، والروائح كعفونات مختلطة، والبياض كظلٍّ نجسٍ وفاحش. وكانت تحلم، وهي لا تزال جامدة ومشمئزَّة، بالملفوف الأخضر الطازج والشهي. فالملفوف لا يتزيَّن بألوان البطاقات البريدية المزيَّفة، ولا يتعطَّر بعطر البتشولي(3) المقزِّز والمريب، ولا يعرض بمحاباة هذه العذوبة المغثية. وقلب الملفوف مثير للشهية، يلتوي وهو يتعرَّج بين التِلَع(4)، ورائحته رائحة العشب والندى الصحيِّ، ولونه أخضر زاهٍ. كانت السيتونية تلعن في قلبها، الطبيعة التي جعلتها مختلفة عن ممثِّلات جنسها الأخريات؛ أو بالأحرى ما جعل جميع السيتونيات الأخريات مختلفات عنها. أخيراً، وعندما وجدت أن إرادتها لا تساعدها على النجاح في شيء، وأنها حاولت جاهدة إرغام نفسها كثيراً ولم تستطع حب الورود، قررت ألا تقاوم ميولها أبداً، بل أن تستسلم لها صراحةً. كانت تفكر أحياناً، محاولة تبرئة نفسها بطريقة مغالطة، وإنامة ضميرها تقول: "وفضلاً عن ذلك، ما هو الملفوف؟ إنه وردة خضراء... إذاً، لماذا لا أحبُّ الملفوف...؟" بعد كل ما قيل، من السَّهل تصوُّر ملاحظات السيتونية الشابة، حول ورقة شجرة الزعرور، حيث تركتها الأم لتطير نحو وردة شهواتها. ولكي نسلّط الضوء على مأساة هذه النّفْس، سنروي بعضاً منها: "شيء حزين أن نُخْلق مختلفين عن الجمهور. لا نعرف لماذا، ولا نعرف كيف يصبح الفرق، فجأة، دونيةً، خطيئةً، وجريمة. ومع ذلك، لا يوجد بين الجمهور وبيني سوى علاقة عدد. مصادفة كون السيتونيات، في غالبيتهن العظمى يحببن الورود؛ من الجيد إذاً، أن نحب الورود. نهج جميل في التفكير. أنا، مثلاً، أحب الملفوف ولا شيء آخر سوى الملفوف. إنني مكونَّة على هذا النحو، ولا أستطيع أن أتغيّر." ومن غير المجدي، من جهةٍ أخرى، نقل أفكار السيتونية التعيسة كاملةً. يكفي القول، كي نبتّ في أمر تفكيرها الطويل إنها طارت نحو شجرة الزعرور، وبعد عدة جولات استكشافية، ذهبت لتحط على ورقة أكبر ملفوفة موجودة، لونها أخضر-مزرق، منتفخة، ومليئة بالضلوع والتجاعيد. وكي لا تلفت الأنظار إليها، تظاهرت بأنها حطّت على الخضرة لترتاح. وبالتالي، اتخذت وضعاً متراخياً؛ فجلست على جنبها وأسندت رأسها على قائمتها. وكان نعم الرأي، لأن سيتونيتين طائشتين مفعمتين بالحيوية، ظهرتا بعد برهة، وأخذتا ترفرفان حولها. ثم صاحتا ثملتين: "ألن تأتي؟ إننا ذاهبتان إلى الورود." ولحسن الحظ أنهما لم تهتَّما في عجلتهما بمراقبة رد السيتونية على دعوتهما. ................وبعد أن ألقت السيتونية نظرة خاطفة حولها، ولحظت عدم ظهور أي سيتونية في الأفق، تظاهرت بأنها تعثَّرت بضلعٍ من أضلع ورقة الملفوف، وتركت نفسها تتدحرج باتجاه قلب الخضرة. وخلال ثانية واحدة، وبعد أن أحدثت فتحةً بضرباتٍ تشنُّجية في الورقة السمينة والغشائية، اختفت داخل قلبها المجعَّد. وماذا نقول أكثر من ذلك؟ هل علينا أن نتوقَّف عند وصف الهيجان الذي فتحت به السيتونية طريقاً لها داخل الملفوفة، وقد أصبحت حرة أخيراً في إطلاق غرائزها المكبوتة، وقد انتشت بالنتانة النباتية التي كانت تفوح من قلب النبتة الشحيم، وكيف وصلت إلى قلب الأوراق البارد واللَّزج؟ وكيف بقيت طوال النهار في الداخل، خائرة القوى، وأمضت فيه نهار سكرٍ وعربدةٍ حقيقيين؟ ....... وعند المساء، انسحبت السيتونية، على مضض، بالممر الذي حفرته في قلب الملفوفة، كما هو مقرَّر، وطارت نحو شجرة الزعرور، إلى المكان الذي حدَّدته أمها لموعدهما. فوجدتها منحنية، تنظر حولها، قلقة لأنها لم ترها تظهر. سألت الأم الشجاعة ابنتها سريعاً كيف سارت الأمور خلال النهار؛ فردت السيتونية صراحة، بأن كل شيء تمَّ على أحسن ما يرام: فالورود متوفِّرة بكثرة. وتفحَّصت الأم وجه ابنتها؛ لكنها اطمأنّت تماماً لملاحظتها بأنه صافٍ وبريء مثلما هو دائماً. قالت لها عندئذٍ: "تصوَّري بأن فضيحة قد تفجّرت... لقد شوهدت سيتونية تدخل تحت أوراق، أكاد لا أجرؤ على أن أكرِّر الكلمة، ملفوفة." وزايدت الابنة قائلة: "يا للهول"؛ لكن سرعة دقات قلبها بدأت تشتد، وأضافت: "ومن كانت؟" أجابت الأم: "لم يستطيعوا تبيُّنها. شاهدوها تدخل تحت الأوراق، وهي تخبِّئ رأسها فيها... لكن، تبعاً لأغمدتها يُظَنُّ أنها فتيّة. شقيّة هي الأم التي جعلها حظها العاثر تلد بنتاً كتلك. وأعترف لكِ بأنني لو كنت أعلم أن لابنتي ميولاً مماثلة، لمتُّ من الألم." وردّت البنت قائلة: "إنكِ على حق. إنها أشياء يرفض العقل حتى تصوّرها." فقالت الأم: "هيا بنا." وطارت السيتونيتان في فتور الغسق، نحو حدائق أخرى، وهما تثرثران. " عن الفرنسية" (1)- سيتونيه (حشرة تشبه الزيز، من مغمدات الأجنحة). (2)- هَنَة (ما يرميه الصيادون من صغار السمك). (3)- بتشولي (عشب عَطِر). (4)- تلعة ج تِلَع (ما علا من الأرض). |
قصة مدينتين.تشارلس ديكنز
قصة مدينتين تشارلس ديكنز انكسر برميل مملؤ بالنبيذ الأحمر في احد شوارع حي (سانت انطوان ) الذي يعتبر من أفقر أحياء مدينة باريس و أكثرها بؤسا.. وعلى الفور ترك جميع الناس أعمالهم وأسرعوا إلى حيث تحطم البرميل.. واخذوا يحاولون شرب قطرات النبيذ قبل أن تبتلعها الأرض, وخلع بعضهم ثيابه واخذ يغمسها في النبيذ المسكوب ثم يعصرها في فمه.. وعلى ناصية الشارع كان هناك حانة فقيرة يقف أمام بابها صاحبها.. ( المسيو ديفارج ) بينما كانت زوجته ( مدام ديفارج ) منهمكة بشغل الإبرة بداخل الحانة.. وبعد لحظات وصل رجل عجوز هو ( مستطفولتها.لورى ) ومعه شابه صغيرة اسمها الآنسة لوسى مانيت.. ولهذه البائسة قصة غريبة بدأت في طفولتها .. حين ماتت أمها.. وبعد أن اختفى أبوها الدكتور مانيت.. ولم يعد احد يعرف مصيره.. وقد أرسلت الطفلة لوسى إلى انجلترا.. حيث كان أبوها يحتفظ بأمواله في بنك انجليزى هو ( بنك تلسون ) وتم تعيين المستر جارفيس لورى الذي كان يعمل بنفس البنك والذي كان صديقا للدكتور مانيت.. وصيا على هذه الطفلة وتولى العناية بمنشئتها وتعليمها.. وقد استعان المستر لورى بسيدة إنجليزية تدعى..مسز بروس.. لتقوم بتربية الطفلة ورعايتها.. فقامت هذه السيدة بواجبها خير قيام..حتى أصبحت بمثابة ألام للطفلة اليتيمة.. ومرت السنوات الطوال وأصبحت الطفلة لوسى شابة رقيقة جميلة كان الجميع يظنون أن الدكتور مانيت قد توفى بعد أن انقطعت أخباره.. ولكن أخبارا جديدة وصلت تؤكد أن الدكتور مانيت مازال حيا.. وانه كان مسجونا بسجن الباستيل بباريس.. وقد أطلق سراحه أخيرا وانه الآن في رعاية المسيو ديفارج.. صاحب الحانة والذي كان يعمل من قبل في خدمة الدكتور لذلك فقد جاءت الآنسة لوسى مانيت ومعها المستر لورى.. للقاء بوالدها وبحث أحواله.. التي سمعت إنها سيئة إلى حد كبير, وأخذهما مسير ديفارج إلى حجرة صغيرة بأعلى الحانة.. وما أن فتح باب تلك الحجرة حتى أصيبت لوسى بالخوف والهلع.. حين رأت أباها الدكتور وقد ابيض شعره وانحنى ظهره.. وكان منهمك في صناعة الأحذية مستخدما منضده صغيرة عليها عدده وأدواته كان منظر الدكتور في غاية البؤس, وهو منكب على صناعة حذاء حريمي لدرجة انه لم يلحظ أحدا ممن دخلوا إلى حجرته يريدون الحديث معه تقدم صديقه العجوز مستر لورى.. إليه.. وسأله في صوت هادىء ألا تذكرني.. فلم يرد وسأله.. ما أسمك.. فقال بصوت ضعيف.. اسمي مائة وخمسة البرج الشمالي وكان يشير بهذا إلى رقم الزنزانة التي سجن فيها بسجن الباستيل الرهيب وسأله هل كانت صناعة الأحذية هي حرفتك بالسجن.. وأخيرا قال مستر لورى.. يا صديقي الدكتور مانيت ألا تذكرني ؟ أنا جارفيس لورى.. صديقك الموظف ببنك تلسون بانجلترا نظر إليه الدكتور المسكين بضعف وانكسار.. ثم انهمك من جديد في صناعة الحذاء.. وعندئذ اقتربت منه ابنته لوسى وملء عينيها العطف والشفقة..ووضعت يدها بحنان فوق ذراعه.. فالتفت إليها وسألها هل أنت ابنة سجاني في الباستيل ؟.. ثم بدأ ينظر إليها في اهتمام.. ويتحسس شعرها الذهبي ويبدو كما لو انه أفاق على حقيقة غريبة.. ومد يده إلى صدره.. واخرج قطعة ملفوفة من القماش.. يحتفظ بداخلها ببضع شعيرات ذهبية.. واخذ يتفحصها ويقارنها بشعر لوسى وبدت على وجهه كل مظاهر الحيرة.. وهنا قالت لوسى بعدبعد.مت راس أبيها إلى صدرها.. ستعرف من أنا فيما بعد .. ولكني أرجوك الآن أن تمنحني بركاتك.. وان تشكر الرب على نجاتك من تلك المحنة الرهيبة.. سآخذك معي إلى انجلترا لتعيش في سلام.. وذهب مستر لورى ومسيو ديفارج للإعداد لرحلة السفر الطويلة.. وبقيت الآنسة لوسى مع والدها الدكتور مانيت.. الذي نام على ذراعها كطفل صغير بريء.. وعندما عاد الرجلان أيقظاه وألبساه ملابس جديدة.. ووضعت لوسى يدها في يده و ساعدته على نزول درجات السلم.. وفى محكمة اولد بيلى بلندن.. انعقدت جلسة خاصة لمحاكمة شخص يسمى ( تشارلس دارنى ) كان متهما بجريمة .. مساعدة أعداء ملك انجلترا بناء على شهادة الشهود الذين كانوا حاضرين بالجلسة.. وكان الدكتور مانيت وابنته لوسى ضمن هؤلاء الشهود.. الذين ذكروا أنهم شاهدوا المتهم على ظهر السفينة التي كانت مبحرة من فرنسا إلى انجلترا.. وحاول النائب العام أن يثبت بكل الطرق أن المتهم قد ارتكب تلك الجريمة.. ولكن مستر سترايفر محامى المتهم قد فند أقوال جميع الشهود وافسد شهادتهم وأوضح عدم كفايتها..وبذلك انتهى المحلفون إلى قرارهم بأن المتهم غير مذنب.. ولكن الآنسة لوسى تأثرت جدا وأغمى عليها.. لأنها شعرت بأن شهادتها التي ذكرتها أمام المحكمة.. رغم أنها لم تكن تدين المتهم إلا أنها قد تتسبب في إيذائه.. وذلك بالرغم من أن تشارلس دارنى هذا.. كان نبيلا في تصرفه معها.. بل وساعدها كثيرا في رعاية والدها أثناء الرحلة على ظهر السفينة.. وكان من الواضح أن شيئا ما من العواطف الرقيقة قد ربط بين الاثنين.. تشارلس دارنى ولوسى مانيت .. سيدنى كارتون هو مساعد المستر سترايفر المحامى .. وقد بذل جهدا كبيرا في المساعدة أثناء نظر القضية .. حتى حكم في النهاية ببراءة مستر دارنى من التهمة التي كانت موجهه إليه..ومن الغريب إن مستر كارتون يحس بشيء من عدم الارتياحتماما.ة بين مستر دارنى ولوسى مانيت.. وكان الدكتور مانيت قد عاد الآن إلى حالته الطبيعية تماما .. واخذ يمارس مهنة الطب في لندن.. ويقابل مرضاه في البيت الذي استأجره هناك .. ومع ذلك فقد كان الجميع يعاملونه بلطف شديد .. خوفا من أن تعود إليه حالة فقدان الذاكرة التي انتابته حينما كان مسجونا بالباستيل بباريس.. وكان أكثر الضيوف ترددا على منزل الدكتور مانيت وابنته هم المستر كارتون والمستر لورى.. والمستر تشارلس دارنى.. بعد عدة شهور من رحيل الدكتور مانيت إلى انجلترا.. وقعت إحدى الحوادث البشالفخمة.ينة باريس.. حيث داست عجلات العربة الفخمة..التي كانت يستقلها الماركيز ايفرموند.. على طفل صغير فقتلته.. لقد كانت العربة منطلقة بأقصى سرعة في شوارع باريس..وحواريها الضيقة المملوءة بالرجال والنساء والأطفال.. من أبناء الشعب الفرنسي الفقير البائس.. الذين يبدون جميعا كالعبيد أمام النبلاء في فرنسا.. توقفت عربة الماركيز ايفرموند قليلا.. بعد أن مات الطفل المسكين.. الذي حمله أبوه بين يديه وهو يبكى بكاء مرا.. لم يهتم له الماركيز الذي اخرج كيس نقوده.. وألقى بقطعة ذهبية على الأرض كتعويض عن مقتل الطفل المسكين.. وانطلقت العربة بعد ذلك خارجة من باريس.. ايفرموند. الريف حيث وصلت إلى المنطقة التي يقع فيها قصر الماركيز.. ايفرموند .. مارة بقرية صغيرة.. يعيش فيها عدد قليل من البؤساء الذين يعانون من دفع الضرائب الفادحة.. التي تفرضها عليهم الدولة والكنيسة.. وكان احد هؤلاء البؤساء هو عامل إصلاح الطرق.. الذي شاهد رجلا غريبا كان متعلقا بسلسلة أسفل عربة الماركيز.. واخبر الماركيز بذلك.. وطلب الماركيز ايفرموند من وكيله مسيو جابيل.. أن يحاول القبض على هذا الرجل.. وأخيرا دخل الماركيز إلى قصره.. وقال للخدم انه يتوقع وصول ابن أخيه من لندن إلى القصر.. وعرف من الخدم انه لم يصل بعد وبينما كان الماركيز يتناول طعام عشائه .. وصل ابن أخيه.. لقد كان هو نفس الشخص الذي يعيش في لندن باسم تشارلس دارنى.. بينما اسمه الحقيقي هو تشارلس سانت ايفرموند.. وهو نبيل ينتمي إلى تلك العائلة الفرنسية .. التي يرأسها الماركيز .. وكان من الواضح أن الماركيز .. وابن أخيه الذي ترك كل أمواله .. وأملاكه في فرنسا كانا على غير وفاق.. وكان الشاب دارنى رافضا تماما تلك الغطرسة التي يتمتع بها نبلاء فرنسا .. فترك فرنسا وعمل في انجلترا كمدرس للغة الفرنسية .. وفى الصباح الباكر وجد الماركيز مقتولا بسكين .. مغروس في قلبه وعلقت به ورقة تقول : هكذا انتقم جاكوس .. أرسلوه سريعا إلى قبره .. وعاد تشارلس دارنى إلى انجلترا مرة أخرى .. حيث انتقل للعمل في جامعة كمبردج كمدرس للغة والآداب الفرنسية .. وبمرور الشهور تمكن الحب من قلبه وأصبح يتمنى الزواج من الآنسة لوسى .. ابنة الدكتور مانيت .. وصرح لوالدها بأن هذا الحب والزواج إن تم فلن يكون سببا للفراق بين الدكتور وابنته ولكي يكون دارنى صادقا مع الدكتور فقد اعترف له بأن اسم دارنى ليس اسمه الحقيقي .. بل أن له اسما فرنسيا مختلفا .. فطلب منه الدكتور ألا يبوح الآن باسم عائلته واسمه الحقيقي .. واكتفى الاثنان بالاقتناع بأنهما فرنسيان خرجا من فرنسا .. لعدم استطاعتهما العيش داخل الأحوال السيئة السائدة الآن في بلدهما و التي تسوء يوما بعد يوم وتوشك على الانفجار من شدة الظلم الواقع على الشعب .. وقبل أن يفترق الاثنان .. وافق الدكتور لمستر دارنى على أن يفاتح لوسى في حبه لها وطلب الزواج منها .... ومن الغريب أن المستر كارتون الذي يعمل مساعدا لمستر سترايفر المحامى كان يحب لوسى مانيت هو الأخر.. بل واعترف له بحبه وتجرأ على طلب الزواج منها .. ولكنها أخبرته في لطف وأدب شديد أنها تحترمه ولكنها لا تحبه.. ولا تستطيع أن تقبل الزواج منه .. فبكى مستر كارتون من شدة التأثر.. وطلب منها أن تحتفظ بذكرى هذا الاعتراف كسر لا يعرفه احد سواهما .. فوعدته بذلك .. واقسم لها بأنه سيظل مستعدا طول عمره لفدائها وفداء جميع من تحبهم الآن ومن سوف تحبهم في المستقبل .. وفى فرنسا علم أهالي حي سانت انطوان ..بأن والد الطفل الذي قتل تحت عجلات عربة الماركيز .. قد قبض عليه بتهمة قتل الماركيز .. وشنقوه بنفس القرية التي يقع بها قصر الماركيز ايفرموند .. وأصبح من الواضح الآن أن مسيو ديفارج .. صاحب الحانة في حي سانت انطوان يترأس جماعة من أفراد الشعب الذين امتلأت قلوبهم بالحقد على طبقة النبلاء .. والذين قرروا فيما بينهم قتل وإبادة جميع أفراد عائلة ايفرموند ..وان يحرقوا القصر الذي تعيش فيه هذه العائلة النبيلة الظالمة .. وفى انجلترا تزوج النبيل الفرنسي السابق .. تشارلس سانت ايفرموند ..الذي يعيش في انجلترا باسم آخر وهو تشارلس دارنى .. من الآنسة لوسى مانيت .. وأنجبا طفلة جميلة .. وكان يزورهما بين حين وآخر .. مستر كارتون ومستر لورى العجوز .. الذي ما زال يعمل في بنك تلسون لندن .. وفى يوم ما قال المستر لورى ..أن الأحوال قد ساءت جدا في فرنسا .. وان معظم الملاك والنبلاء الفرنسيين . اخذوا يحولون أموالهم إلى انجلترا .. هربا من حالة الغليان التي أصبحت موشكة على الانفجار .. بل لقد حدث الانفجار بالفعل في حي سانت انطوان .. وخرج الشعب مسلحا بكل ما وصلت إليه أيادي الناس.. من كل أنواع السلاح .. واندفعوا تحت قيادة المسيو ديفارج صوب سجن الباستيل.. وهاجموه وأشعلوا فيه النيران وأطلقوا سراح المسجونين .. وقبضوا على جميع ضباط السجن وقتلوا مديره .. وطلب المسيو ديفارج من احد الضباط الأسرى .. أن يريه الزنزانة مائة وخمسة البرج الشمالي .. وهى الزنزانة التي كان الدكتور مانيت مسجونا فيها .. وقام هو ورفاقه بتفتيش الزنزانة .. واحرقوا محتوياتها ثم خرجوا إلى حيث انطلق الشعب بادئا الثورة الفرنسية .. واخذوا يحطمون كل شيء بلا رحمة ولا شفقة .. وانتقلت أخبار الثورة من باريس إلى المدن الفرنسية الصغيرة .. حيث اشتعلت الثورة في كل مكان .. وفى القرية التي يقع فيها قصر الماركيز ايفرموند .. تجمع الشعب وأشعل النار في القصر .. وخصوصا المسيو جابيل الذي كان يعمل وكيلا ومحصلا للضرائب لصالح عائلة الماركيز .. والذي استطاع أن ينجو من الموت والشنق بأعجوبة وفى لندن كان بنك تلسون الذي يعمل به لورى العجوز مزدحما بالنبلاء الفرنسيين الذين حولوا أموالهم إليه .. وكان البنك بالتالي مصدرا مهما لأخبار الثورة التي اشتعلت في فرنسا .. وأصبح من الضروري أن يسافر احد كبار موظفي البنك إلى فرنسا .. ليحاول إنقاذ سجلات ودفاتر فرع بنك تلسون بباريس .. وقرر مستر لورى العجوز أن يذهب بنفسه .. لإنجاز هذه المهمة .. وحاول تشارلس دارنى أن يثنيه عن ذلك .. بسبب صعوبة الطريق ومشقة الرحلة إلى باريس.. وسط القلاقل والاضطرابات والمجازر وأعمال الشنق..التي سادت في كل أنحاء فرنسا ... وفى هذه الأثناء ,, وقع تحت يد تشارلس دارنى خطاب .. موجه إلى تشارلس سانت ايفرموند .. أى أن هذا الخطاب كان موجها إليه هو نفسه .. ولكن لا احد يعلم اسمه الحقيقي .. وقام تشارلس دارنى بفض هذا الخطاب .. وقراءته .. فإذا به يتضمن رسالة كتبها المسيو جابيل .. الذي كان يعمل وكيلا لعائلة ايفرموند .. يبلغه فيها انه مسجون الآن في سجن الابايى .. وينتظر الحكم بإعدامه بين حين وآخر .. إلا إذا عاد تشارلس ايفرموند إلى فرنسا وعمل على إظهار براءته وإطلاق سراحه.. وفى نهاية الخطاب توسل المسيو جابيل .. وطلب من تشارلس ايفرموند أن يحضر على الفور لإنقاذ حياته .. ولهذا فقد قرر تشارلس هو الأخر أن يذهب لإنجاز هذه المهمة ..ولكنه قرر أيضا إلا يخبر احد بعزمه على هذا السفر الفجائي إلى فرنسا .. حتى بالنسبة إلى زوجته لوسى والدكتور مانيت .. بعد أن وصل تشارلس ايفرموند إلى فرنسا لاحظ على الفور أن الأحوال قد تغيرت تماما.. وان الثوار قد أصدروا قوانين جديدة .. تم بمقتضاها إلقاء القبض عليه وإيداعه بسجن لافورس توطئة لمحاكمته وإعدامه بتهمة انه ارستقراطى مهاجر .. ولم يمر وقت طويل .. حتى فوجىء المستر لورى .. الذي كان قد وصل إلى باريس قبل وصول تشارلس دارنى بيوم واحد .. بدخول الدكتور مانيت وابنته لوسى زوجة تشارلس دارنى إليه في مكتبه بفرع بنك تلسون بباريس وذلك بعد أن وصلت اليهما بلندن أخبار القبض على مستر دارنى .. كان الدكتور وابنته منزعجين وخائفين من المصير الذي يتوقعه المستر دارنى .. ومع ذلك فقد أعلن الدكتور مانيت بأنه قادر على إنقاذ زوج ابنته .. باعتباره كان سجينا سابقا بسجن الباستيل .. الأمر الذي سيجعله محل فهم وتعاطف مع الشعب الثائر .. وكان الثوار يهاجمون قصور النبلاء والنبيلات ويعيثون فيها أعمال الحرق والهدم ..والنهب والقتل والابادة .. بل وكانوا يهاجمون السجون التي وضع بها أفراد طبقة النبلاء تمهيدا لمحاكمتهم توطئة للإطاحة برأسهم تحت نصل المقصلة .. ويقومون بقتل هؤلاء المسجونين من الرجال والنساء والاطفال.. ,, وسالت الدماء انهارا في كل مكان تحت شعار.. الحرية .. الاخاء .. المساواة .. نجح الدكتور مانيت بالفعل في تقديم نفسه للثوار باعتباره سجينا سابقا بسجن الباستيل الرهيب .. فاعتمد عليه الثوار ووثقوا فيه .. ومع ذلك فلم يتمكن الدكتور من اطلاق سراح زوج ابنته تشارلس ايفرموند..المدعو تشارلس دارنى .. ولم ينجح إلا في الابقاء عليه بعيدا عن شبح التهديد بالقتل.. إلى أن تجرى محاكمته طبقا للقوانين الجديدة .. ومر أكثر من عام والسجين تشارلس ايفرموند ينتظر المحاكمة في سجن لافورس .. وفى أثناء ذلك وصل من انجلترا كل من مس بروس ومعها الطفلة لوسى الصغيرة ابنة تشارلس كما وصل أيضا المستر كارتون ... وأخيرا تمت المحاكمة وسط جو صاخب اشترك فيه جمهور غفير من الرجال والنساء .. من احط طبقات الشعب في باريس .. وكان هؤلاء الناس يصرخون فرحا كلما صدر حكم بالاعدام .. ويبتهجون بمرأى الرؤوس حين تطير من رقاب الضحايا وتنهمر سيول الدماء ... ومع ذلك فبفضل الشهادات التي شهد بها كل من الدكتور مانيت والمسيو جابيل .. الذي اطلق سراحه اخيرا من سجنه .. برأت ساحة تشارلس ايفرموند .. من كل تهمة .. وصدر الحكم باطلاق سراحه فورا .. وكانت فرحة عارمة اشترك فيها الجميع ... ولكن لم تمض سوى ساعات قليلة على الحرية التي حصل عليها تشارلس ايفرموند .. وبينما كان يجلس هانئا مع زوجته وابنته .. وصل رجال غلاظ مسلحون بالسيوف والمسدسات والقوا القبض على تشارلس ايفرموند المدعو دارنى مرة أخرى .. وكانت تهمته هذه المرة انه عدو للجمهورية الفرنسية ..وانه من طبقة النبلاء وفرد من عائلة ايفرموند التي مارست أعمال الظلم بوحشية فظيعة ضد الشعب الفرنسي ... أثناء المحاكمة ظهرت الكثير من الحقائق عن الفظائع التي ارتكبتها هذه الاسرة فعلا في حق الناس .. بل وكان الدكتور مانيت نفسه احد ضحاياها .. حيث تسبب بعض أفراد هذه الاسرة في ادخالة إلى سجن الباستيل بتهمة طالمة ملفقة .. وبعد تحقيقات واستجوابات مرهقة .. صدر حكم المحكمة باعدام تشارلس ايفرموند المدعو دارنى بالمقصلة في ظرف اربع وعشرين ساعة ... وخلال تلك الساعات الاربع والعشرين .. حدثت مجموعة من الاحداث الغريبة .. التي غيرت مجرى القصة تماما .. فقد تمكن المستر كارتون من التسلل إلى الزنزانة التي سجن بها تشارلس دارنى .. وتبادل الاثنان ملابسهما وذلك بعد أن قرر المستر كارتون أن يضحى بحياته من اجل من يحب .. وتمكن تشارلس دارنى و زوجته لوسى مانيت وابنته الصغيرة ومعهم الدكتور مانيت و المستر لورى من الهرب إلى انجلترا ولحقت بهم أيضا مس بروس .. بعد أن وقعت بينها وبين المرأة المتوحشة مدام ديفارج معركة انتهت بمقتل المرأة النهمة التي تسببت في الاطاحة بمئات من الرؤوس تحت نصل المقصلة .. وكان من نتيجتها أيضا أن فقدت مس بروس سمعها بفعل طلقة من المسدس الذي كانت تحمله مدام ديفارج .. فقد كانت الطلقة قريبة جدا من اذنها .. تمــــــــــــــــــــــــــــــت |
في يوم من الإيام - غابريل ماركيز
في يوم من الإيام-غابريل ماركيز ترجمة رافع الصفار فجر الاثنين ، دافئ وغير ممطر. أوريليو أسكوفار، طبيب أسنان من دون شهادة، مبكر جدا في النهوض، فتح عيادته عند الساعة السادسة. تناول بضعة أسنان اصطناعية، مازالت موضوعة في قوالبها الكلسية، من علبة زجاجية ، ووضع مجموعة من الأدوات على الطاولة مرتبا إياها حسب حجمها كما لو كان يجهزها للعرض. كان يرتدي قميصا عديم الياقة مغلقا عند العنق بزر ذهبي، وبنطلونا بحمالات. وكان منتصب القامة، نحيفا، قلما ينسجم مظهره مع الموقف، تماما كما هي حالة الأصم. عندما انتهى من ترتيب العدة على الطاولة، سحب المثقاب ناحية كرسي المعالجة وجلس ليباشر في صقل الأسنان الاصطناعية. وكان يبدو شارد الذهن، لا يفكر في تفاصيل العمل الذي يؤديه بدقة وثبات متواصلين، وكانت قدمه تظل تضغط على عتلة المثقاب حتى عندما تنتفي حاجته إلى الآلة. بعد الثامنة توقف لبرهة كي ينظر إلى السماء من خلال النافذة فرأى صقرين منشغلين في تجفيف نفسيهما تحت الشمس على سقيفة البيت المجاور. عاد إلى عمله وهو يقول لنفسه بأن المطر سيسقط قبل موعد الغداء. صوت ابنه الحاد والمفاجئ شتت تركيزه ـ بابا. ـ ماذا ؟ ـ العمدة يريد أن يعرف إذا كنت ستخلع له ضرسه. ـ قل له بأنني غير موجود. كان منشغلا بصقل سن ذهبية. حملها أمامه وراح يتفحصها بعينين نصف مغلقتين. عاد ابنه ذو الأحد عشر عاما يصرخ مجددا من غرفة الانتظار. ـ يقول بأنك موجود، وأيضا لأنه يستطيع أن يسمعك. ظل الطبيب منشغلا بتفحص السن. وعندما أنجز عمله واخذ السن شكله النهائي وضعه على الطاولة وقال: ـ هذا أفضل. شَغَّل المثقاب ثانية، وأخذ بضعة قطع تركيب من علبة كارتونية حيث يحتفظ بالأشياء التي تحتاج إلى انجاز، وباشر بعملية التعديل والصقل. ـ بابا. أجابه مستخدما نفس التعبير ـ ماذا؟ ـ يقول بأنك إذا لم تخلع له سنه فسوف يطلق النار عليك. دون تعجل، وبحركة شديدة الهدوء أوقف المثقاب، دفعه بعيدا عن الكرسي، وسحب الدرج السفلي للطاولة، وكان هنالك مسدس. قال: ـ حسنا، قل له أن يأتي ويطلق النار علي. دفع الكرسي بمواجهة الباب، وكانت يده تستقر على حافة الدرج. ظهر العمدة عند الباب. كان قد حلق الجانب الأيسر من وجهه، لكن الجانب الآخر كان متورما وبلحية لم تحلق منذ خمسة أيام. رأى الطبيب في عينيه ليالي من التوجع والأرق، فأغلق الدرج بأطراف أصابعه وقال برفق: ـ اجلس. ـ صباح الخير. أجابه الطبيب: ـ صباح الخير. وبينما انشغل الطبيب بتسخين أدواته، أسند العمدة رأسه على مسند الكرسي الخلفي فشعر بشيء من الارتياح. كانت أنفاسه تطلق بخارا في الهواء. كانت عيادة بائسة: كرسي خشبي قديم، مثقاب يعمل بدواسة، وعلبة زجاجية تحوي قناني السيراميك. في المواجهة للكرسي نافذة تغطيها ستارة من القماش. عندما شعر العمدة باقتراب الطبيب شبك ساقيه وفتح فمه. أدار أسكوفار رأس العمدة باتجاه الضوء. وبعد أن تفحص السن الملتهبة، أغلق فك العمدة بحركة حذرة، ثم قال: ـ سأقلعه ولكن من دون مخدر. ـ لماذا؟ ـ لأنه لديك خرّاج. نظر العمدة في عيني الطبيب. قال أخيرا وهو يحاول أن يتبسم. ـ حسناً. ولم يرد الطبيب على ابتسامته. جلب إناء الأدوات المعقمة إلى الطاولة وراح يخرجها من الماء المغلي بملقط صغير بارد، دون أن يبدو عليه بأنه في عجلة من أمره. دفع المبصقة بطرف حذائه، وذهب ليغسل يديه في المغسلة. قام بكل ذلك دون أن ينظر إلى العمدة، لكن العمدة لم يرفع عينيه عنه. كان سن عقل سفلي. فتح الطبيب قدميه وأمسك بالسن بالكلاّب الساخن. تشبث العمدة بذراعي الكرسي، واضعا كل قوته في قدميه. شعر عندها بفجوة باردة في كليتيه، لكنه لم يصدر صوتا. حرك الطبيب رسغه فقط. ومن دون حقد، وبرقة لاذعة قال: ـ الآن ستدفع لموتانا العشرون. شعر العمدة بانسحاق العظام في فكه، وامتلأت عيناه بالدموع. لكنه لم يتنفس حتى أدرك بأن السن قد أقتلع، ثم رآه من خلال دموعه. في تلك اللحظة كان عاجزا تماما عن فهم عذاب الليالي الخمس الفائتة. انحنى على المبصقة، لاهثا يتصبب منه العرق. فتح أزرار سترته الضيقة ومد يدا الى جيب بنطلونه ليخرج المنديل. ناوله الطبيب قطعة قماش نظيفة. قال له: ـ جفف دموعك. كان العمدة يرتعش وهو يجفف دموعه. وأثناء انشغاله بغسل يديه، رأى أسكوفار السقف المتداعي وشبكة العنكبوت المغبرة وبيض العنكبوت والحشرات الميتة. عاد الطبيب وهو يجفف يديه. قال للعمدة: ـ خذ غرغرة ماء بالملح، ثم اذهب إلى الفراش . نهض العمدة واقفا. أدى تحية وداع عسكرية ثم تحرك باتجاه الباب وهو يدفع ساقيه، ودون أن يغلق أزرار سترته الضيقة. قال: ـ ابعث بالفاتورة. ـ لمن ؟ لك أم للبلدة ؟ لم ينظر إليه العمدة. أغلق الباب وراءه وهو يقول: ـ لا فرق. |
كمان روتشيلد ..
كمان روتشيلد قصة: أنطون تشيخوف ترجمة: أشرف الصباغ كانت البلدة الصغيرة، أسوأ من قرية، لا يكاد يعيش فيها سوى العجائز الذين كانوا يموتون بشكل نادر إلى حد مقلق ومثير للحيرة، وكانت الحاجة إلى التوابيت ضئيلة جداً فى المستشفى، وحتى فى السجن. وباختصار، فقد كانت الأمور فى غاية الإزعاج. ولو كان ياكوف إيفانوف حانوتيا فى مركز المحافظة لامتلك على الأرجح منزله الخاص، ونادوه بلقب ياكوف ماتفييتش، ولكنهم كانوا ينادونه، هنا فى البلدة الصغيرة، ببساطة: ياكوف. ولسبب ما كان لقبه فى الشارع "برونزا" برغم حياة الفقر والكفاف كفلاح بسيط فى بيت من بيوت الفلاحين الصغيرة الحقيرة، حيث يقتصر على غرفة وحيدة يعيش فيها هو ومارفا، والمدفأة وسرير يتسع لشخصين، والتوابيت، ومنضدة نجارة، وباقى أدوات المعيشة. كان ياكوف يصنع توابيت جيدة ومتينة. فمن أجل الرجال وصغار الملاك كان يصنعها على مقاسه، ولم يخطئ فى ذلك مرة واحدة إذ لم يكن هناك إنسان أطول وأقوى منه حتى فى السجن، برغم أنه كان قد تجاوز السبعين عاماً. ومن أجل النبلاء والنساء فقد كان يصنعها بالقياس مستخدماً من أجل ذلك مقياس الأرشين (1)، بينما كان يقبل طلبيات توابيت الأطفال على مضض، ويصنعها مباشرة دون قياس وباستخفاف شديد. وفى كل مرة عندما يتقاضى فيها نقوداً عن عمله، كان يقول: أعترف.. فأنا لا أحب العمل فى هذه التفاهات. باستثناء الحرفة، كان عزفه على الكمان أيضاً يجلب له دخلاً غير كبير. ففى حفلات الزفاف بالبلدة كان يعزف فى العادة الأوركسترا (اليهودى) (2) الذى كان يقوده السمكرى موسى إليتش شخكيس الذى يأخذ لنفسه أكثر من نصف الإيراد. وبما أن ياكوف كان يجيد العزف على الكمان، وخصوصاً بمصاحبة الأغنيات الشعبية الروسية، فقد كان شخكيس يدعوه أحياناً للعزف فى الأوركسترا مقابل خمسين كوبيكا فى اليوم بغض النظر عن هدايا الضيوف وتبرعاتهم. وعندما كان برونزاً يجلس بين العازفين فى الأوركسترا، فإن أول ما كان يظهر عليه هو احمرار وجهه وتصبب العرق منه، إذ كان الجو حاراً، ورائحة الثوم تخنق الأنفاس، والكمان يزيق والكونترباس يشخر بجوار أذنه اليمنى، وبجوار اليسرى ينشج الناى الذى يعزف عليه (اليهودى) الأصهب الهزيل، بوجهه الذى تظلله شبكة واسعة من العروق الحمراء والزرقاء، والذى كان يحمل لقب الثرى الشهير روتشيلد. وكان هذا (اليهودى) اللعين يحول حتى أكثر الألحان مرحاً إلى كآبة وأنين، وبدون أسباب واضحة كان ياكوف متشبعاً بكره واحتقار شديدين لهؤلاء (اليهود)، وخاصة لروتشيلد. وقد بدأ ذلك بالمماحكة، ثم التجريح بالشتائم البذئية، لدرجة أنه أراد ذات مرة أن يضربه. بينما تأذى روتشيلد من ذلك، وقال من بين أسنانه ناظراً في حنق: -لو لم أكن أحترمكم لموهبتكم، لطرتم من النافذة منذ زمن بعيد. ثم بكى. ولذا فقلما كانوا يستعينون ببرونزا فى الأوركسترا، وكان ذلك يحدث فقط فى حالات الضرورة القصوى عندما يتغيب أحد من اليهود. كان ياكوف فى مزاج سيئ باستمرار لأنه كان يتعين عليه دائماً أن يصبر على الخسائر الفادحة. وعلى سبيل المثال، ففى أيام الآحاد وفى الأعياد كان من الإثم أن يعمل، ويوم الاثنين يوم صعب. وبهذا الشكل يكون المجموع حوالى مائتى يوم يتعين عليه فيها أن يجلس، خلافا لإرادته، عاطلاً عن العمل، بينما فى ذلك خسارة، وأية خسارة! إذا أقام أحد ما فى البلدة عرساً بدون موسيقى، وكانت خسارة أيضاً إذا لم يدعُ شخكيس ياكوف. ولقد ظل رجل البوليس المراقب بالسجن مريضاً يعطس طوال عامين كاملين. وانتظر ياكوف بفارغ الصبر متى يموت، ولكن المراقب سافر إلى المركز للعلاج، ومات هناك. وكم كانت الخسارة إذ ضاعت على الأقل عشر روبلات، لأن الأمر اقتضى أن يصنع التابوت على نحو آخر مستخدماً نوعاً خاصاً من القماش لتزيينه. وراحت الأفكار حول الخسائر والانتكاسات تضني ياكوف وتعذبه، خاصة فى الليل. ولذا فقد وضع الكمان إلى جوار الفراش، وكلما وردت على ذهنه تُرهة ما، كان يمس الأوتار فيصدر الكمان فى الظلام صوتاً يهدئ من روعه. وفى السادس من مايو فى العام الماضى توعكت مارفا فجأة. فراحت تتنفس بصعوبة شديدة، وشربت ماء كثيراً ثم ترنحت. وعلى الرغم من كل ذلك نهضت فى الصباح وأشعلت المدفأة بنفسها، حتى ذهبت لتملأ الماء. وقرب حلول المساء ترنحت مرة أخرى، فى حين ظل ياكوف طوال النهار يعزف الكمان. وعندما حل الظلام تماماً ، تناول الدفتر الذى يسجل فيه خسائره كل يوم. ومن جراء الملل قام بعمل إجمالى سنوى لهذه الخسائر. وكانت النتيجة أكثر من ألف روبل مما زلزل كيانه لدرجة أنه ألقى بالأوراق على الأرض وأخذ يدوسها بقدميه، ثم رفعها مرة ثانية ومزقها متنفساً بعمق وتوتر، وكان وجهه محمراً ومبللاً من أثر العرق. راح يفكر فيما إذا كان قد وضع هذه الألف روبل الضائعة فى البنك، لتراكمت الأرباح السنوية على الأقل بمقدار أربعين روبلاً. مما يعنى أن الأربعين روبلاً هذه تعتبر أيضاً خسارة. وباختصار فحيثما اتجهت وأينما كنت فليس هناك سوى الخسارة ولا شىء سواها. -ياكوف-نادته مارفا بغتة-إننى أموت! تطلع إلى زوجته. كان وجهها وردياً من ارتفاع درجة حرارتها، وصافيا وسعيدا بشكل غير عادى. أما برونزا المعتاد دائماً على رؤية وجه زوجته ممتقعاً شاحباً وتعيساً، فقد اعتوره الآن الحزن والارتباك. كان الأمر أشبه ما يكون بأنها ماتت بالفعل، وكانت هى راضية بذلك وسعيدة لأنها أخيراً تخرج إلى الأبد من هذا البيت القروى، ومن التوابيت ومن ياكوف نفسه.. نظرت إلى السقف وتمتمت شفتاها بشىء ما، وكان التعبير المرسوم على ملامحها ينم عن سعادة عميقة وكأنها بالفعل قد رأت ملاك الموت وتهامست معه. كان النهار قد شقشق، وبان من النافذة كيف تلألأت شمس الصباح. عندما نظر ياكوف إلى العجوز، تذكر لسبب ما أنه طوال حياته لم يلاطفها أو يشفق عليها، ولم يفكر مرة واحدة أن يشترى لها منديلاً أو يحضر لها شيئاً ما حلواً من عرس، فقط كان يصرخ فيها، ويكيل لها الشتائم بسبب الخسائر والانتكاسات، وينقض عليها مهدداً بقبضتيه. وفى الحقيقة فهو لم يضربها أبداً، وبالرغم من ذلك فقد كان يفزعها ويخيفها، وكانت هى فى كل مرة تتجمد من الرعب. وأيضاً لم يكن يسمح لها بشرب الشاى لأنه بدون ذلك ستكون المصاريف أقل. أما هى فقد كانت تشرب فقط الماء الساخن. ولقد فهم لماذا يبدو وجهها غريباً وسعيداً، الشىء الذى أصبح بالنسبة له مرعباً. جاء الصباح بعد طول انتظار، فاستعار حصان جاره ونقل مارفا إلى المستشفى. كان المرضى هناك قليلين، وما كان عليه الانتظار إلا قليلاً، حوالى ثلاث ساعات. ولحسن حظه لم يستقبل المرضى فى هذه المرة الدكتور الذى كان هو نفسه مريضاً، وإنما التمرجي مكسيم نيكولايتش العجوز الذى كان الجميع يتحدثون عنه فى البلدة بأنه على الرغم من كونه سكيراً وصاحب مشاكل إلا أنه يفهم أكثر من الدكتور. وبعد أن أدخل ياكوف العجوز إلى حجرة الاستقبال، قال: -السلام عليكم. سامحونى فنحن دائماً نزعجكم يا مكسيم نيكولايتش بأمورنا التافهة، اسمحو لى أن ألفت انتباهكم.. لقد أصاب المرض أهالى(3)، رفيقة حياتى كما يقال، أعذرونى على التعبير.. قطب التمرجى حاجبيه الأشيبين، ومسد فوديه، وراح يفحص العجوز وقد تقوست على مقعد بدون مسند، هزيلة ومدببة الأنف بفم مفتوح، تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء. قال التمرجى ببطء بعد أن أخذ نفساً عميقاً: -آ.. نعم.. هكذا.. أنفلونزا، وربما حمى، فالتيفوس منتشر الآن فى البلدة.. ماذا نفعل؟ لقد عاشت العجوز طويلاً.. الحمد لله.. كم عمرها؟ -سبعون إلا سنة واحدة يا مكسيم نيكولايتش. -ماذا نفعل؟ عاشت العجوز طويلاً.. وآن الآوان لرحيلها. -هذا الكلام بالطبع معقول إذا سمحتم يا مكسيم نيكولايتش (قال ياكوف هذا وهو يبتسم من باب التأدب)، ونحن شاكرون وممتنون على تفضلكم.. ولكن اسمحوا لى أن أذكركم بأن الحشرة أيضاً تريد أن تعيش أطول. -كل شيء جائز! ثم قال التمرجي بنبرة كما لو كان موت العجوز أو حياتها متوقفين عليه: -إذن.. هكذا، يا ولد.. سوف تضع على رأسها كمادة باردة.. وأعطها هذا المسحوق مرتين كل يوم، ثم مع السلامة.. بانجور. لمح ياكوف من تعبيرات وجهه، أن الحالة سيئة ولن تساعدها أى مساحيق. وكان من الواضح له أن مارفا على وشك الموت، إذ لم يكن اليوم فغداً. عندئذ دفع التمرجى من مرفقه برفق، وغمز له بعينيه، ثم قال بصوت خافت: -ماذا لو حجمناها يا مكسيم نيكولايتش. -اطلاقاً.. إطلاقاً يا ولد. خذ عجوزك وأذهب فى أمان الله. مع السلامة. قال ياكوف بتضرع: -اعملوا معروفاً.. اسمحوا لى أن أعرف.. لو افترضنا أن بطنها آلمها أو أى شىء داخلى، فعندئذ نعطيها مساحيق وقطرات. ولكن من الواضح أن عندها نزلة برد وأول شىء في حالة النزلة هو طرد الدم يا مكسيم نيكولايتش. ولكن التمرجى كان قد استدعى المريض التالى. ودخل فعلاً إلى حجرة الاستقبال أب مع ولده، فى حين قال ياكوف عابساً: -فىهذه الحالة علقوا لها ولو حتى ألقة!(4) لتجعلوها تصلى لله إلى الأبد! فصاح التمرجى في سورة: -علمنى أيضاً! يا بليد. اغتاظ ياكوف وتضرج كلياً، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة، وتأبط ذراع مارفا وأخرجها من حجرة الاستقبال. ولما جلسا فى العربة، طالع المستشفى بنظرة قاسية ساخرة قائلاً: -أجلسوكم هنا.. ممثلين! لو كان غنياً لحجمه، ولكنه يستكثر على الفقير حتى ألقة واحدة.. معاتيه مشوهون!. عندما وصلا إلى البيت، ظلت مارفا واقفة لعشر دقائق بعد خولها ويدها على كليتها. وبدا لها أن ياكوف لو رآها مضطجعة فسوف يبدأ حديثه عن الخسائر والانتكاسات، وسينهال عليها بالشتائم متهماً إياها بالنوم وعدم الرغبة فى العمل. وتطلع ياكوف إليها فى تذمر وملل، وتذكر أن عيد الناسك يوحنا غداً، وعيد نيكولاى صاحب المعجزات بعد غد، وبعد ذلك يوم الأحد، ثم يوم الاثنين الصعب، أربعة أيام لا يجوز العمل فيها، وربما تموت مارفا فى أى منها. إذن ينبغى أن يصنع لها اليوم تابوتاً. وأخذ أرشينه الحديدى ثم استلقت هى على الفراش بينما رسم علامة الصليب، وبدأ فى عمل التابوت. حين أصبح التابوت جاهزاً، لبس برونزا عويناته وسجل فى دفتره: -تابوت مارفا إيفانوفنا 2 روبل و40 كوبيك. وتنفس الصعداء فى حين كانت العجوز مستلقية طوال الوقت وهى مغمضة العينين، وفى المساء عندما حل الظلام، نادت عليه العجوز فجأة، وسألته متفرسة فيه بسعادة: -أتتذكر يا ياكوف؟ أتتذكر.. كيف رزقنا الله قبل خمسين عاماً بطفل أشقر الشعر؟ آنذاك كنا نجلس طوال الوقت على ضفة النهر نغنى.. تحت شجرة الصفاف. وبعد أن ابتسمت بمرارة، أضافت: -ماتت البنت. أجهد ياكوف ذاكرته، ولكنه لم يتسطع أبداً تذكر الطفل ولا الصفصافة فقال: -هذا يخيل لك. جاء القس وأجرى مراسيم الاعتراف. بعدها راحت مارفا تتمتم بأشياء غير مفهومة. وفى الصباح ماتت. قامت الجارات العجائز بغسلها وإلباسها ووضعها فى التابوت. ولكى لا يدفع ياكوف مبلغاً إضافياً للشماس تلا هو بنفسه القداس على روحها، فيما لم يأخذوا منه شيئاً عن حفر القبر لأن حارس المقابر هو الذى كان قد عمد ابنته فى الكنيسة بعد ولادتها. وحمل النعش إلى المقبرة أربعة رجال من قبيل الاحترام والتوقير، وليس من أجل النقود، وسار خلفه النسوة العجائز، والمتسولون، واثنان من المجاذيب، بينما كان المارة يرسمون علامة الصليب بورع وتقوى.. وكان ياكوف مسروراً للغاية إذ كان كل شىء محترماً ولائقاً ورخيصاً، وليس هناك ما يمكن أن يكون فيه إهانة لأحد. وفيما كان يلقى النظرة الأخيرة على جثمان مارفا المسجى فى النعش، لمس بأصابعه حافة التابوت، وفكر فى نفسه: صنعة ماهرة! بعدما عاد من المقبرة، انتابه حزن شديد واستحوذ عليه الملل، وشعر بتوعك: كان تنفسه حاراً وثقيلاً، وقدماه ضعيفتين، وانتابته رغبة شديدة لشرب الماء. راحت الأفكار بذاكرته من جديد أنه لم يشفق عليها مرة واحدة في حياته كلها، ولم يلاطفها. وقد عاشا فى بيت واحد اثنين وخمسين عاماً مرت بطيئة، ولكن حدث على نحو ما أنه طوال هذا الوقت لم يفكر فيها، ولم يلاحظ وجودها أو يهتم بها كما لو كانت قطة أو كلباً بينما كانت كل يوم تشعل المدفأة تطبخ وتخبز تذهب لملء المياه، تقطع الأخشاب، وترقد إلى جواره فى فراش واحد. وعندما كان يعود ثملاً من الأعراس، كانت فى كل مرة تعلق كمانه على الحائط باحترام وتبجيل، وترقد فى فراشه، وكل ذلك بصمت وعلى وجهها أمارات الهيبة والاحترام. التقى روتشيلد بياكوف فى الطريق، فابتسم له محيياً إياه بانحناءة: وقال: -أنا أبحث عنكم يا جدى! موسى إليتش يسلمون عليكم ويدعونكم لزيارتهم حيالاً(5). كان ياكوف فى شغل شاغل عن ذلك، وكانت لديه رغبة شديدة فى البكاء: -دعنى! قال ذلك وتابع سيره، بينما انزعج روتشيلد واندفع مهرولاً إلى الأمام: -كيف يمكن ذلك؟ موسى إليتش سيغضبون! إنهم طلبوك حيالاً! أدى إلى امتعاض ياكوف أن هذا (اليهودى) كان يلهث ويتلعثم فى كلامه، ويطرف بعينيه، ولديه نمش أحمر كثير على نحو ما، وكان من المقرف لياكوف النظر إلى سترته الخضراء المرقعة بقطع قماش قاتمة، وإلى قامته الهشة الهزيلة بكاملها. صرخ ياكوف: -مالك تتدخل فى شئونى يا آكل الثوم؟ دعنى وشأنى! غضب (اليهودى) وصرخ بدوره: -ولكن الزموا حدودكم من فضلكم، وإلا ستطيرون من فوق السياج! زعق ياكوف واندفع نحوه مهدداً بقبضتيه: -أغرب عن وجهى.. ألا يمكن العيش بعيداً عن الوسخ! مات روتشيلد فى جلده من الرعب، فقرفص مذهولاً وأخذ يطوح بيديه فوق رأسه كمن يحميه من اللطمات، ثم نهض وفر هارباً، وأثناء جريه كان يقفز ويضرب كفا بكف بينما ظهره الطويل الهزيل يرتعد بوضوح. وفرح الأولاد لما حدث واندفعوا يركضون وراءه صائحين: "يهودى! يهودى!، وجرت الكلاب أيضاً خلف الجميع وهى تنبح. انطلق أحد الماء في قهقهة عالية ثم أطلق صفارة فعلا نباح الكلاب وازداد. ويبدو بعد ذلك أن أحد الكلاب قد عض روتشيلد، فقد سُمعت صرخته المرعوبة من اليأس والفزع. راح ياكوف يتمشى فى المراعى، ثم اقترب من أطراف البلدة وأخذ يسير على غير هدى. فيما كان الأولاد يتصايحون: "برونزا قادم"! برونزا قادم! وها هو النهر حيث طائر الشنقب يتراكض مسرعاً فوق الرمال، والبطء يزعق، والشمس تلفح الوجوه، وصفحة المياه تتلألأ بلمعان أخاذ يؤذى العين. سار ياكوف فى الطريق الضيق بمحازاة ضفة النهر، ولمح كيف خرجت سيدة ممتلئة حمراء الوجنتين من حوض الاستحمام. فراح يفكر فيها: "ياه يا لك من كلب بحر!". وبعيدا عن حوض الاستحمام كان الأولاد يصطادون السمك بلحم السرطان. ولما لمحوه راحوا يصرخون بحنق "برونزا! بروزنزا". وها هى الصفصافة العريضة القديمة ذات التجويف الضخم وفوقها أعشاش الغربان.. وفجأة نما فى ذاكرة ياكوف طفل صغير بشعر أشقر كأنه حى يرزق، بينما كانت الصفصافة التى تحدثت عنها مارفا تقف خضراء ساكنة، وحزينة.. فكم شاخت، مسكينة! جلس تحتها وراح يتذكر.. على هذه الضفة، حيث المرج الذى تغمره الآن مياه الفيضان، كانت هناك آنئذ غابة من أشجار البتولا، وعلى الجبال الجرداء كان يتراءى على خط الأفق حرش الصنوبر العتيق الذى كان يلوح وقتذاك بزرقته بينما تسير فى النهر قوارب التنزه. أما الآن فالأمر سيان وعلى الضفة الأخرى تبدو الأرض جرداء إلا من شجرة بتولا واحدة فقط، شابة وممشوقة كفتاة بكر. وفى النهر لا يوجد إلا البط والوز، وليس فى الأمر ما يشير إلى أنه فى وقت من الأوقات كانت تسير القوارب للتنزه، ويبدو أن الوز قد صار قليلاً على عكس ما كان فى الماضى. أغلق ياكوف عينيه، فراحت تركض فى مخيلته أسراب ضخمة هائلة متقابلة من الوز الأبيض. لم يكن يدرى كيف حدث أنه خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة من حياته لم يذهب مرة واحدة إلى النهر. ولو كان قد حدث وذهب، فهو لم يلق بالاً إليه أبدا؟ إلا أن النهر مخلص وأمين، وليس شحيحاً ووضيعاً. وكان من الممكن ممارسة صيد السمك فيه، وبيعه للتجار والموظفين وصاحب البوفيه على المحطة، وبعد ذلك يمكن وضع النقود فى البنك. وكان من الممكن السباحة فى قارب من ضيعة إلى ضيعة، والعزف على الكمان ولدفع الناس، حينها، من مختلف الطبقات نقوداً من أجل ذلك. وكان من الممكن تجريب قياد قوارب التنزه، وهذا أفضل من صناعة التوابيت. وفى النهاية كان من الممكن تربية الوز واصطياده ثم بيعه شتاء فى موسكو، وعندئذ كان من الجائز تحصيل ما يقرب من عشر روبلات فى السنة من بيع الريش وحده. ولكنه غفل عن كل هذا ولم يفعل أى شىء منه فى حينه، ويالها من خسارة! ياه، يا لها من خسارة! ولو كانت كل هذه الأشياء معا: صيد السمك والعزف على الكمان وقيادة القوارب واصطياد الوز، فأى رأسمال كان من الممكن تحقيقه! ولكن لم يكن هناك أى شىء من ذلك حتى فى المنام. ومرت الحياة دون جدوى، بدون أية لذة، ضاعت هباء وهدراً، ولم يتبق أى شىء فى المستقبل، وإذا نظرت للوراء فهناك أيضاً لا يوجد شىء سوى الانتكاسات والخسائر، وتلك الفظائع التى تقشعر منها الأبدان، لماذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بحيث لا توجد هذه الخسائر؟ يا ترى من أجل ماذا قطعوا شجرة البتولا وحرش الصنوبر؟ ولماذ كف الكلأ عن العطاء؟ ومن أجل أى شئ يفعل الناس دائما كل ما هو غير ضرورى لهم؟ من أجل ماذا أمضى ياكوف حياته كلها يتشاجر ويتخاصم، ويزعق ويصرخ، يهدد بقبضتيه، ويسئ إلى زوجته. ويا ترى ما الداعى لكى يفزع (اليهودى) ويهينه الآن؟ لماذا يعرقل الناس، بشكل عام بعضهم البعض عن الحياة؟ فما أكثر الخسائر الفادحة! وما أكثر الانتكاسات البشعة من جراء ذلك! ولو لم يكن الحقد والضغينة لكان للناس من بعضهم البعض منافع عظيمة. فى المساء وبالليل كان يتراءى له الطفل الصغير، والصفصافة، والسمك، والصيد، والوز، ومارفا تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء، ووجه روتشيلد الممتقع المسكين، وسحنات ما أخرى تميل عليه من جميع الاتجاهات مدمدمة بخسائره. وراح يتقلب من جنب إلى جنب، ونهض من فراشه ما يقرب من الخمس مرات لكى يعزف على الكمان. فى الصباح رفع جسده من الفراش بصعوبة بالغة، وذهب إلى المستشفى، أمر له مكسيم نيكولايتش بنفسه بوضع كمادة باردة على رأسه، وأعطاه مسحوقاً، ولكن ياكوف أدرك من ملامحه ومن نبرة صوته أن الحالة سيئة، ولن تنفع أى مساحيق. وبعد عودته إلى البيت أدرك أن هناك منفعة واحدة من الموت: فليست هناك ضرورة للأكل، ولا للشرب، ولا لتسديد الصدقات والإتاوات للكنيسة، ولا الإساءة للناس، وبما أن الإنسان سيرقد فى القبر ليس عاماً واحداً، وإنما مئات وآلاف السنين، فلو حسبنا المنفعة لبدت عظيمة. ومن حياة الإنسان لا يتأتى أى شىء سوى الخسارة، أما من موته فتأتى الفائدة، وهذه الفكرة بالطبع بديهية، ورغم ذلك فكل هذا مؤلم ومرير: فلماذا يوجد فى العالم ذلك النظام الغريب، حيث الحياة التى توهب للإنسان مرة واحدة فقط تمر هكذا دون جدوى؟ لم يكن مؤسفاً له أن يموت، ولكن ما إن وقعت عيناه فى البيت على الكمان حتى انقبض قلبه، وشعر بالأسى والأسف لكونه لن يستطيع أخذ الكمان معه إلى القبر، وسيبقى الآن يتيماً، وسوف يحدث معه نفس ما حدث مع غابة البتولا وحرش الصنوبر. كل شىء فى هذا العالم قد ضاع، وسوف يضيع على الدوام! خرج ياكوف من البيت وجلس قرب العتبة وهو يضم الكمان إلى صدره بقوة. وبينما راح يفكر فى حياته الخاسرة التى ضاعت هدراً، عزف على الكمان دون أن يدرى هو ذاته ماذا يعزف. فخرج العزف حزيناً ومؤثراً وانهمرت الدموع على خديه، وكلما استغرق فى التفكير، غنى الكمان بشكل أكثر حزناً. أصدر مزلاج الباب الخارجى صريراً، مرة ومرتين، وظهر روتشيلد فى الباحة الخارجية أمام البيت. قطع نصف المسافة بشجاعة، وما إن رأى ياكوف حتى توقف فجأة وانكمش تماماً. وراح من رعبه يصنع بيديه تلك الإشارات التى كما لو كان يود بها أن يبين على أصابعه كم الساعة الآن. قال ياكوف بحنان داعياً إياه: -تعال.. لا تخف.. تعال! تطلع روتشيلد بارتياب. وبخوف أخذ يقترب، ثم توقف على بعد ساجين(6) منه. وقال مقرفصاً: -انتم.. أعملوا معروف لا تضربونى! لقد أرسلونى موسى إليتش من جديد. قالوا لا تخف، اذهب ثانية إلى ياكوف وقل له إن الأمر بدونهم غير ممكن إطلاقاً. فيوم الأربعاء عُرش(7).. نعم.. نعم.. السيد شابوفالوف.. سيزوج ابنته لإنشان(8) جيد. وأضاف (اليهودى) مضيقاً عيناً واحدة: -والعُرش سيكون رغيداً.. أو.. أوو..! قال ياكوف متنفساً بصعوبة: -لا أستطيع.. لقد مرضت يا أخى. وراح يعزف من جديد والدموع تطفر من عينيه وتتساقط على الكمان. وأخذ روتشيلد ينصت باهتمام مائلا نحوه بجانبه وعاقداً ذراعيه على صدره، بينما التعبير المذعور على وجهه يتحول شيئاً فشيئاً إلى شعور حزين مشفق، وجحظت عيناه كأنما يعانى من إحساس بالإعجاب المضنى. ثم تمتم وااه ه ه! وسحت دموعه ببطء على خديه وراحت تقطر على سترته الخضراء. ظل ياكوف طوال النهار راقداً مغموماً. وبينما كان القس يحصل منه على الاعتراف فى المساء، سأله عما إذا كان قد نسى الاعتراف بذنب ما مهم. وفيما راح ينشط ذاكرته الضعيفة، تذكر من جديد وجهه مارفا الناضح بالشقاء، والصرخة المؤلمة (لليهودى) الذى عضه الكلب، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع: -سلموا الكما لروتشيلد. فأجاب قس: -حسناً. * * * الآن يتساءل الجميع فى البلدة: من أين لروتشيلد بهذا الكمان الجيد؟ اشتراه أم سرقه، أو من الممكن أن يكون قد حصل عليه كرهن؟ أما هو فقد ترك الناى منذ زمن بعيد، ويعزف حالياً على الكمان فقط. ومن تحت قوسه تنساب أيضاً تلك الأنغام الحزينة كما كانت تنساب آنذاك من الناى. ولكنه عندما يحاول إعادة ما عزفه ياكوف وقتما كان جالساً على العتبة، كان يخرج منه شىء يوحى بالحزن والأسى بحيث ينخرط السامعون فى البكاء رغماً عنهم، فيما كان هو فى نهاية اللحن يجحظ بعينيه متمتماً: واااه ه ه! وإذ أثارت هذه الأغنية الجديدة الإعجاب فى البلدة، فقد راح التجار والموظفون يدعون روتشيلد أثناء فترات الراحة ويرغمونه على عزفها عشرات المرات. هوامش: (1) مقياس طول روسى قديم يساوى 71سم-(المترجم). (2) لم يكتب تشيخوف كلمة (يهودى) بالروسية، ولكنه استخدم الصفة الشائعة التى كانت تستخدم لتحقير اليهود فى روسيا القيصرية (جيد)-بكسر الجيم وتعطيشها وكسر الياء أيضا-المأخوذة من الكلمة الإنجليزية (Judas). وسوف نضعها لاحقا بين قوسين، للتمييز بينها وبين صفة يهودى بالمعنى الروسى-(المترجم). (3) المقصود (أهلى)، ولكن ياكوف نطقها بشكل غير صحيح لغويا، واضعا علامة النبر على حرف آخر-(المترجم). (4) المقصود (علقة)، ولكن ياكوف نطقها بشكل غير صحيح إملائيا حرف بحرف آخر، والعلقة هى نوع من الديدان كان الروس يستخدمونه للعلاج بوضعه على الجسم لامتصاص الدم كوسيلة لعملية الحجم-(المترجم). (5) المقصود (حالا)، ولكن روتشيلد نطقها بشكل غير صحيح مبدلا علامة النبر-(المترجم). (6) ساجين يساوى متر و13سم-(المترجم). (7) المقصود (عُرس)، ولكنه نطقها بلكنة غير روسية-(المترجم). (8) المقصود (إنسان)، ولكنه نطقها أيضا بلهجة غير روسية-(المترجم). |
رد: قصص قصيرة من الأدب العالمي ..
قصيرة قصر روح الدعابة فيها مشكوووووووووووور أخونا على القصة و على التعريف الوافي فيها بهذه الشخصيات و التي صورتها في سياق المسرح حتى ذكرتنا من خلالها بقصص شكسبير أعود و أشكرك من جديد دم وفيا
|
الساعة الآن 05:00 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir